الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اكذب تضحك لك الدنيا!..

وديع العبيدي

2018 / 9 / 30
العولمة وتطورات العالم المعاصر


وديع العبيدي
اكذب ترقص لك الدنيا.
الكذب عادة مذمومة وصفة شائنة، وعند وصف أحدهم بها، فالغاية تسقيط شخصه وشخصيتته من القبول الاجتماعي/ المصداقية الاجتماعية والاعتبارية. وثمة تراث من القصص والأمثلة والأقوال الحكمية الفاعلة في هذا المجال، وكان لها دور أساس وتربوي في تكويننا النفسي والفكري، باعتبارنا من بقايا عصور التخلف، مقارنة بتكنولوجيا الاتصالات والتجسس الالكتروني، التي صارت خبز الناس ومعدلهم الحراري، منذ اصطفاء الرب لأمريكا خليفة له على الأرض.
من طروحات علم نفس اللغة اعتباره (الكلمة كائنا حيا)، فهي تنمو وتزدهر وتموت، كما انها تضيق وتتسع ويتغير معناها حتى يصير ضدّه تماما. وهناك كلمات كثيرة ماتت عبر الزمن، ثمة لغات انقرضت، ولغات حلّت محلها، ليس جديدة في أصلها، وانما كانت لهجة وسادت سواها. فالعربية السائدة والمشتقة من الارامية البابلية، ليست ارامية تماما وانما هي لهجة قريش. ومثل هذاينطبق على بقية اللغات، ومنها اللغة الانجليزية المتولدة في القرن السادس عشر على يد شيكسبير [1564- 1616م] وجملة ترجمات البايبل التي استقرت عام (1611م) في نسخة الملك جيمس وما يزال يعاد تجديد لغاتها وتحديثها باستمرار.
ازدهرت اللغة الانجليزية نتيجة السياسات الكولونيالية واتساع نفوذها في العالم. وطالما ان اللغة ليست ظاهرة مجردة، ولا مجرد كائن حي، انما (اللغة ثقافة).. فأن انتشار اللغة الانجليزية في جنوبي اسيا وجنوبي أفريقيا واميركا الشمالية، انما يعني انتشار الثقافة الانجليزية وطرز الثياب والتفكير والاتيكيت الانجليزي. وما يزال غير بلد اسيوي وافريقي واميركي يستخدم الانجليزية لغة رسمية، ولكن الأخطر من أولئك الولايات المتحدة الأميركية التي تحتكر كل مقاليد ومفاتيح العالم في كل مجالات الحياة والثقافة والافتصاد وسواها.
العصر الامريكي الحالي والمؤرخ بالقرن الواحد والعشرين، هو عصر الاتصالات الاكترونية وتكنولوجيا الفضاء وعصر الواقعية البراغماتية والأصولية اليمينية والفوضى غير الخلاقة. وفي العموم يمكن تعريف مصطلح (ما بعد الحداثة)، بأنه نظام فكري اخلاقي يقوم على نقض أصول (الحداثة) وتفكيك قواعد الثقافات المحلية حول العالم، وتسفيه مفاهيم الهوية والقومية والوطنية والانتماء الجغرافي، غير ذلك من مشاريع، تشكل مصير المرحلة الانتقالية وما يجري فيها.
عمليا، كلنا الموجودين على رسم الحياة، نعيش العصر الأمريكي قهرا وجبرا، سواء كان بخيارنا الشخصي أو خيارنا الاستهلاكي جراء الاحتكار الأمريكي لسياسات السوق والانفتاح، أو بفعل اجراءات الانظمة والحكومات التابعة للقرار الأممي والأمريكي، تحت أي عنوان، طمعا في كسب رضا الكبار والقروض والمساعدات الدورية. لكننا نختلف فيما بيننا في مدى قبول الثقافة الامبريالية (قهرا أو طوعا)، من جهة، ومدى تعاطي المنتجات الأمريكية ، ودرجة الكفاءة في تعاطي التقنيات أو فهم قواعدها وأصول النظرية والسياسية.
مشكلتنا العويصة أننا لسنا أحرارا في انتقاء وجودنا وما يروق لنا. ثمة وصاية فوقانية جائرة تختار وتقرر بدلا منا، ومعارضة الاملاءات يعني اعدامنا في الحياة، وهو مصير البلدان والزعماء التي عملت السياسة الاميركيةعلى تصفيتها منذ خمسنيات القرن الماضي في اميركا اللاتينية ووسط أفريقيا وشرق أوربا حتى الزعماء الوطنيين العرب الذين يتندر ترامب باستذكارهم، ليس من باب المديح، وانما من باب الوعيد وانذار الحكام الحاليين من مخالفة اللعبة الامبريالية.
سمة الكذب، في اطارها الحيوي ليست قيمة مطلقة، عندما تجعلها الشرائع الدينية ضمن وصاياها الرئيسة، وهي واحدة من الوصايا العشر في شريعة موسى (لا تكذب!). ويقول الانجيليون ان كسر احدى الوصايا، يعادل كسرها جميعا. ومن يكسر الوصايا يكون خارج الملة. أقول هذا لأن القيادة الأميركية تنسب نفسها للانجيلية، وتجعل من جنوبها مركز زعامة الاصولية الانجيلية.
في مثلث [اخلاق- دين- سياسة]، نرى ان الولايات المتحدة الأميركية فرضت حصارا جائرا على العراق لمدة ثلاثة عشر عاما، [1990- 2003م]، بذريعة امتلاك العراق لاسلحة الدمار الشامل، الممنوعة، ومنها اسلحة ذرية وكيمياوية، وتحت نفس الذريعة، قامت المنظمة الدولية والطاقة الذرية، بتسيير قوافل ما دعي بفرق التفتيش الدولية التي جاست ثنايا العراق وزرعتها بكامرات التجسس والرقابة، وبعد أسبوع من الغزو الأمريكي للعراق، صرح بوش الابن بأن (العراق لا يمتلك اسلحة ممنوعة!)
أقول ان وسائل الاعلام والعالمية والعربية كلها خرجت عن بكرة أبيها في احتجاجات غير مسبوقة تتهم الرئيس الاميركي بالكذب عليها طيلة (ثلاثة عشر عاما)، ومؤسسات منظمة الأمم المتحدة اعلنت الاضراب العام وقدمت شكاواها السياسية والمعنوية للمحكمة الدولية للاقتصاص من صاحب الكذبة وتحميله نتائجها. وبعد اسبوع من اعتراف بوش بالكذب [الاعتراف بالخطأ في المسيحية أول خطوات التبرير، إذا اقترنت بتوبة نصوح]، قرر رئيس منظمة الطاقة الذرية /(مسلم عربي) وسكرتيرو المنظمة الدولية خلال تلك الحقبة، وبينهم /(مسيحي عربي) ارتكاب جريمة الانتحار، جراء العذاب النفسي الذي لا تحتمله ضمائرهم.
إذا كان الزعيم الاميركي يكذب وهو خليفة الرب، فما يمنع رؤساء العالم التابعين له عن تقليده واحتذائه خطوة بخطوة. وإذا كان الكذب مبدأ سياسيا براغماتيا مشروعا، فكم مما تردده وسائل الاعلام وتتناطح فيه من أزمات وخلافات واتهامات متبادلة، له خيط من حقيقة، أو أساس من صحة؟.. الاساس البراغماتي للكذب يتمثل في النفعية الاقتصادية والمكاسب المالية المترتبة عليه، بما فيها حركة جيوش وصرفيات أسلحة وعقد صفقات وصاية وتبعية، يمر الغرب عبرها ابتزازه للشرق..
قد يختلف المتخلفون في قيمة الكذب السياسي والاقتصادي الذي شرعه وشرعنه ميكافيللي [1469- 1527م]، ولكن ما مبرر الكذب الفردي، وتسويغه بين اناس من اطفال رياض الأطفال إلى محيط العائلة والاصدقاء والعمل والدين. ان أبسط اختبار لقوة الشخصية يمارس المراهق اليوم هو مدى اقتناع الأخرين وعدم اكتشافهم لكذبه!. تقول مديرة مدرسة: لا تصدقوا أطفالكم إذا قالوا ليس عندهم واجب مدرسي في نهاية الاسبوع. وعبارة (لا تصدقوا) كناية عن الكذب. وتكرار القسم وعبارات (صدقني.. صدقيني/ أنا لا أكذب، أقول الصدق ولو فيه موتى) كلها تؤكد واقعة الكذب.
على صعيد الاتصالات، التلفون هو رأس الكذب. وكلما ارتفع معدل البرقراطية وعقدة الجاه والنقيصة، تعاظم الكذب. و منذ ظهور الهاتف الخلوي، شاع في الاتصالات، ادعاء المشغولية وكل ما من شأنه تكذيب الطلب. وفي أفضل احتمال يرد عليك الشخص انه مشغول وسيتصل بك لاحقا. ثم تنتظر ولا يحدث اتصال. وقد اتصل بي أحدهم بعد أكثر من شهر، وقال : حدثت أمور كثيرة منذ اتصالك، كذا وكذا، مما اضطره لسفرة وسفرتين للخارج، وقد عاد أمس من السفر وقرر الاتصال بي فورا، لأنك صديق عزيز ولا احتمل زعلك!.
فالكذبة العادية المفردة تحولت الى قصص وسلسلة أكاذيب، ولكنها تخدم في باب تهويل الشخص لنفسه ومدى مشغولياته واتصالاته المحلية والعالمية. وها هو على حرصه القديم يعود بعد شهر أو شهرين من المشاغل والسفر والمواعيد. وأقول: يرحم الله ايام زمان، عندما كان واحدنا يولد ويموت ولا يعرف لون جواز السفر!. هذا الصديق ايضا أسأله عندما نلتقي مرة في العام: ما جديدك؟ فيرد على الفور: على حطة يدك! معناه لا جديد ولا تغيير. ولا أدري كيف يفوته ان الأخبار الأدبية مبثوثة في وسائل الاعلام، وهو أحد المغرمين بالدعاية لنفسه.
في مجال الكذب السياسي، نستذكر احداث نيويورك. ففي أعقابها قام بوش الابن بتشريع قانون دولي اسمه (الحرب على الارهاب)، وجد الجميع أنفسهم يخضعون له حتى ينجوا من تهمة الارهاب. العبرة في تلك الحرب هو تنشيف منابع الارهاب ومصادر التمويل. وبين يوم وليلة رفعت البنوك عنصر السرية عن حسابات زبائنها، وصارت كل أرصدة الأفراد تحت اشراف ومراقبة اجهزة المخابرات الوطنية والأمريكية.
وفي خطوة غير مسبوقة، اضيفت أجهزة واجراءات وطواقم أمنية في مداخل المطارات ومخارجها، وأضيفت ساعتان من الوقت لغرض تأمين اجراءات التفتيش قبل موعد الاقلاع. وقد بلغ من ابتذال اجراءات التفتيش خلع الأحزمة والأحذية والبناطيل، وربما كل الثياب، سيما اذا كان الشخص محظوظا من العالم الاسلامي. والسؤال في هذا المقام وغيره، ما مصير ميثاق حقوق الانسان التي كانت درة الحداثة. ميثاق حقوق الانسان أولو أكبر ضحايا العولمة والأمركة والتكنولوجيا الاتصالات والقوانين المتعلقة بالاندماج والهجرة.
ضمن كذبة الاجراءات الامنية، منع اصطحاب الغذاء والشراب عند الدخول، وما علاقة ذلك بالامن. يوجد طاقم من اساطير حول اختطاف طائرة بمسدس بلاستك وتصنيع قنبلة من مكونات اغذية وسوائل. لكن في مقابل ذلك، يمكن شراء ما تريد من المنطقة الحرة أو داخل الطائرة التي تحولت ألى سوق يمكن شراء كل شيء منها، ليس الطعام والمشسروب فحسب.
نحن في المرحلة الانتقالية في دخول العصر الامريكي، والحياة تطفو على أمواج عالية من الكذب واتتزوير والغش والخداع. وكل ذلك أمر عادي، كما هو معكوس كثير من المظاهر والمفاهيم والقيم الاخلاقية لما يوصف بالفردوس الامريكي. الكذب سيد الحياة والوجود والحضارة.
الانسجام والاغتراب والتوحد، مفاهيم علمية في علم الاجتماع، ومدى نجاحك الشخصي في الحياة، والنجاة من امراض الاغتراب والاضطراب والتوحد، يتطلب اتقان مهنة الكذب. مهنة وليس طبيعة. ولكن أليست الحياة مهنة، مجرد دور في مسرح البراغماتية!.
يقول المثل: طاوع الشر وغنيلو!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما ردود الفعل في إيران عن سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز


.. الولايات المتحدة: معركة سياسية على الحدود




.. تذكرة عودة- فوكوفار 1991


.. انتخابات تشريعية في الهند تستمر على مدى 6 أسابيع




.. مشاهد مروعة للدمار الذي أحدثته الفيضانات من الخليج الى باكست