الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشبح -1-

جميل حسين عبدالله

2018 / 9 / 30
سيرة ذاتية


الشبح
(1)
يتبع
كان تدقيق النظر في العالم الخفي بضاعة رائجة في سوق العلم، والمعرفة، وتجارة مدرة للربح الوفير، والغنى الوثير، وكان الاهتمام بذلك دليلا على التفوق، والتميز، والتحصيل الكبير، لأنه يجسد معتقدات البادية، ومعارفها الميتافيزيقية، وثقافتها الدينية، وآليات تفسيرها للظواهر الغيبية، والقضايا الروحية، وطرائق تحقيقها للذات المتعالية عن كيانها المادي، والمتسامية في صيرورتها بفعلها البشري، وسلوكها الإنساني.
اهتممت بذلك في بدايات السؤال الأنطولوجي، وألممت به فيما عن لي من تجميع لمبادئ العلم، وتنظيم لمعلوماتي التي اختطفها عنوة في صغري، والتقطت شذراتها من مهاد متعددة، لعلي أن أحوز قصب السبق فيما قيل، أو فيما يقال، وأسوق نوقي إلى حيث تمرح طربا بلا رقيب، ولا حسيب.
وهناك تشكلت عندي تصورات أشباح تراودني، وكوابيس تعتادني، وخيالات صور عائمة في العماء، وألوان غائرة في الخواء، وأشكال غائمة في الخلاء، تربكني، وتتعارك فيما أنقش رسومه من هياكل عظمية، تنطق بلغة غير لغتي، وتمشي بمشية غير مشيتي، وتهتدي بهدي غير هديي، وهي تتوعدني، وتهددني، وتريد أن تنقض علي، وتفترسني، أو تبتلعني، ثم تعيدني كائنا خارقا، يخرج من قمقم المارد، لكي يطوي مسافات الحياة برغبات منفصلة عن الجسد، ومتاهات عجزه، وانفصاله عن عالم مثاله الممرع فوق هالة القمر، ودارته المؤثرة فينا بالقوة، والسطوة الجبارة.
كان ذلك ثقافة تستبطن قيم التفكير في اللامتناهي، وتستضمر علاقات الإنسان بما لم يجد له تفسيرا عقلانيا، ولا تأويلا تقتضيه الحقائق المحنكة بالتجارب المتواترة، ولا بالخبرات المتلاحقة، لأنها تحمل آلام كبد هذا الكائن البشري، ومواجهة أمراضه التي لم يجد لها علاجا، ولا وقاية، ومقارعة أوجاعه التي فتكت به بين غوائل الحياة الشقية، وغدرها، وخيانتها للضعفاء، والفقراء. لكن ذلك، ومهما كان معبرا عن محطة من تاريخ تطور المجتمعات، وتحول حصل في بناها المعرفية، والفكرية، وتنقل بين مداري الزمان، والمكان، فإنه إلى جانب ذلك، ينقلنا من بساطة النظر، وفطريته، إلي صور معقدة في التفكير، ومقيدة في التحديد، ومتشنجة في صلتها بالأجيال المتصارعة حول تحقيق الأنا الذاتي، والأنا الجماعي.
كانت هذه الصور المتماهية في الهباء، تبني عرش الخوف في قلبي، وترفع قباب التوجس من غامض يدهمني ببغتته، ويرفسني بخفافه، ويفتت ذراني بين حبات الرمل التي مشت عليها رواحل الهاربين من جحيم الديار، وصقيع عنائها، وزمهرير شقائها، لأني قد نشأت بين ديار قدست سر الأطلال الدارسة، وعظمت ما يسكنها من أرواح الجان، والإنس، وفخمت ما تزفر به أصوات سكونها من معاني التاريخ، وحقائق الإنسان المتعبد المتحنث، ومفاهيم المجاذيب المترفعين عن شهواتهم، والمحاربين لها بالتيه بين الشعاب، والوديان، والجبال العصية.
أجل، قد أهانت هذه الشبحية اللامحدودة الأفق عقلي، وأذلت فكري، وبلغت في اغتيال أحلامي منتهى رغبتها، ومشتهى غايتها، إذ لم تترك عرقا إلا واحتضنته، ولا عظما إلا ونخرته، ولا جلدا إلا ووخزته، ولا فكرا إلا وأطفأت وقدته، وأخمدت وهجته، وأسكتت ما فيه من أوزان، وألحان، لأنها بمقدار ما منحتني تصورات للغامض في عالم الأشباح، والكائنات الهلامية، والأبطال الخرافيين الذين لا وجود لهم إلا في مخيلاتنا البسيطة، فإنها قد كونت عندي تفسيرات لكل ما يجد في أحداث الحياة من وقائع عسرة الهضم، لا ينالها متشبع بهذا التفسير المتعالي عن كل ما لم يقع تحت مجهر العين، والمتجافي عن كل ما لم يطق الوصول إلى كنهه، وغوره، ما دام ما امتلكه من آليات الفهم، وأدوات الوعي، لا يتجاوز حدود ما حصل عندي بالتلقين، أو بالمجاراة لما يحكى مشافهة، ويروى على ألسن الفقهاء، والأولياء، والهائمين على وجوههم بلا رغبة في الحياة، ولا إلمام بما يبرز بين أمدائها من تغيرات، وتحولات.
كان ذلك مريبا لعقل ينظر إلى الأفق بلا تعقيد الأفكار، وغموض الأسرار، ومدمرا للب أفجعه فراغ عز عليه أن يؤانسه رفيق مرغوب، أو شفيق محبوب، وموجعا لكيان فطمته الأمهات بخبز الخوف، وطعمته بلبان الجبن، وطافت به مهرولة حول جدران القباب الملطخة بدماء القرابين، ودموع الثكالى، وحناء العوانس، وقطران السواحر، لكي يتعود على القبور والأشجار والأحجار المقدسة، ويتربى على احترام الظلام الدامس، واقتطاف زهرة سره من المناطق المهجورة، والمسالك المغبونة، فيرى النور حيث يفقد خصوصيته، ويشهد المجد حيث يكمن ذله، وينظر إلى الأكوان بعين فاترة بالبكاء، وجارية بالعناء.
وهناك نشأت في عقلي حدود تفصل بين الأماكن، وتفرق بين الأزمان، وتقسم بين ما هو كائن، وما لم يكن، ولكنه سيكون في زمن ما حادثا بطفرة، أو بقفزة، أو بغفلة، أو بسهوة، لأنه حتمي الوجود في كل كيان مادي، وضروري في بقاء النوع البشري، ودنو الأدنى، وسمو الأقوى، ولو لم يبد لي، أو للذين يشاكلونني، ويماثلون ما جرت به العادة في أعراف القرى، وعادات القبائل، وشرائع الأمم، أننا وجدنا في هذا الكون بلا عدالة واضحة المباني، والمعاني، إذ كون أمك غارقة في بحر الأمية، وسائمة في صحراء الخرافة، وهي تعشق إلهها بما تقيمه من حفلات رقصها للجنود الخفية في الكون البائن عن إدراكها، وإيمانها، لكي تسترضي ما فيهم من قوة فاتكة، وسطوة باطشة، وتستوهب منهم السلم، والأمان، ليس كوجودك طفلا طريرا بين دوح الأطفال، تلعب، وتمرح، وتغامر، وتقيم علاقاتك مع كل ممنوع للشبهة، والريبة، ومحظور في ثقافتك الغبية، ومعارفك البليدة.
أجل، هناك فرق شاسع، وبون ساطع، وما بينهما نفكر جميعا في طي صفحات المرحلة، لعلنا أن نصل إلى هذا الطرف، أو ذاك، إذ يحكم مصير كل واحد منا في متاهة الوجود، ما نسج في كيانه من أصوات، وهدير، وجلبة، وزعيق، وضوضاء، وهو الذي يبني علاقاتنا مع الخارج عنا، ويؤسس مقاومتنا لكل التباس، وارتكاس، ويرسخ مقارعتنا لكل الخطوب، والندوب، إذ ذلك يسعدنا بالتخلي عن استعمال عقولنا فيما صعب علينا فهمه، ما دام ما فسر به، لا يحتاج إلى دقة تعلم، تكلفنا زمنا طويلا، قد تكون محصلته ما نلبسه من رداء الحيرة اللازمة، وإزار الشكوك المبددة لراحة الذات، واستقرار حلمها الطازج بالأماني الباسمة.
كل ذلك، كان حريا به أن يصنعنا أحرارا في قناعتنا، واختيارنا، ويمتعنا بالقوة التي أخفتها في نجود بواطننا لعنة التاريخ، وخزي الجهل، ومكر الفقر، وسوء مغبة ما تجري به الأقدار من هزيمة الدور المنكوبة بالبؤس، وانتصار القوي الحائز للحظ الأوفر من خيرات الأرض، وبركاتها، وانهيار العالم بالحروب العرقية، والإثنية، والطائفية، وانهزام الإنسانية أمام جحافل الرأسمالية، والإمبريالية المتوحشة.
لكن ذلك التنور، والتبصر، لم يحدث فيما دهسنا من ظنون، وجنون، ولم يقع فيما توارى وراء جبة الزمن من أدوار، وأطوار، إذ تطور الوحش الجاثم على مصانع تفكيرنا، وأجهزة تحكمنا، وتغيرت قواعد لعبه برغباتنا المعرورة، وشهواتنا المقرورة، وتبدلت مظاهر لباسه، ومعاجم لغاته، وأخلاق تواصله، وقيم تفاعله، فاستحال كائنا مرنا، ولزجا، ولطيفا، لا نأمل منه إلا أن يجسنا بجسته الحانية، ويلمسنا بلمسته الغاوية، فندرك أننا لم نوهب الحياة فضلا، وعدلا، وإنما وجدنا لنشعر بالامتنان، ونحس بوجودنا بين يد من يخط لنا خط الأمان، وصك الغفران. فماذا يمكن لي أن اقترفه من خطايا، أو أن اجترحه من رزايا، سوى ما تربيت عليه من استسلام لكل ما هو غير مرئي الوجود، وخفي الحضور، أو ما تعودت على أن أكسبه بلا مصارعة عقل، ومعاندة واقع، ومباينة شاخص، لأن ذلك يضيف إلي شحنة قاهرة، استمد قوتها من الخفاء، واستوهب بطشها من السماء.؟!
والعجب أني في إحدى نوبات غروري، ولحظات انتشائي، اشتهيت أن أغامر بالمشي بين دياجير الظلمة، وحنادسها الموحشة، وعشقت ما يختبئ بين فخاخ كهوفها من رموز غائرة، وطلاسم غامضة، وتشوفت إلى أن أكون فارسا مغوارا، يحمل سيف دون كيخوت، ويصارع مردة الجن، وعفاريتهم، وقادتهم في البأساء، والهيجاء، وينتصر عليهم، ويجعلهم عبيدا وحشما في واحاته التي يملك كرومها، ونخيلها، فلا يتحركون إلا بأقداره، ولا ينفذون إلا أوامره. لكن ذلك ضاع مع إخفاق الحروف عن خرط طريق مفتاح ومغلاق كنزه، فاستحال مثلث الغزالي مع خمود الطاقة، وانهيار الفتوة، وانقلاب السحر على الساحر، متصارعا في مفرداته، ومزدوجاته، ومتعاويا بالعوارض التي عطلت سره، وسحره، وأفرغته من معناه، ومحتواه، وصيرته قابلا لنحوس الأنواء، والأمداء، ومائلا عن ساعات السعد، والحصاد.
ذلك السبيل المترع بأوهام الإنسان، والتاريخ، قد كان وردا مورودا لمن توهم أن سر الخيماء في جوف المارد، وأن فك لغز الإنسان في تمتمة الراهب، إذ لو كانت الخيمياء في بدايتها خرافة، لا تحمل روح العلم، وبدايات ظهوره، لأنجبت ولدانا مشوهين في تصور العالم، وما يحوم في فلكه من ثقافات، وحضارات، إذ سيرون العلم سرا مدفونا بين ظلمات القبور، وغوامض الوديان، وضوامر الجبال، وكوامن الفيافي. لكن الخيمياء كانت علما باهرا للعقل البدوي، وفهما باقرا للحجب التي حجبت الفكر عن اكتشاف سر الحركة في الفعل المادي، فخال من شدة صعقه، وحدة صرعه، أن علة خروجها عن العادة المألوفة، هو ذلك الكائن الخارق المختبئ وراءها، والمتخفي خلفها، والمتواري عن البصر الطبعي، والعين المجردة.
ربما قد يكون هذا التفسير ضروريا للراهب، ولكل من يسير خلفه من طبقات عرقية، ومراتب اجتماعية، يسوسها بمقتضى النيابة عن الإله في الحق المطلق، لأنه إن لم يأت بما يشفي غليل المقلدين، ويزيل حيرتهم، ويدفع التباس الرأي بين الإيمان والعقل عن دائرتهم، وحوزتهم، لن يكون رائدا، ولا قائدا، يحتشد الناس حول صخرة معبده، لكي يتعرفوا على أبواب الدنيا والآخرة من جلجلات صوته، وغمغمات كلامه. فلا عجب إذا حاول التفسير بما يستلزمه النظر في مادة الشيء المتحرك بلا سبب ظاهر، لأن خفاء روح التكوين في المركبات المتفاعلة بنظام، ونسق، وسياق، قد أورده موارد الإنكار لحدوث ذلك التفاعل، إلا توهما، وتخيلا، فظن أن عقارب الساعة المتحركة بدقة من عمل الجن، وزعم أن الافتتان بذلك من عمل الشيطان، ومن رجس ألاعيبه في الاستحواذ على القلوب الضعيفة، ومن خزي مكره في حبك خدعة تتبع خطواته، واقتفاء آثارها إلى موارد الهلاك، والخسران. لكن احتياجه إليها في معرفة أوقات عبادته، ولحظات إقامة طقوس قداسه، لم يدع له فرصة النفي لها، لأنها جلية للعيان، وظاهرة العنوان، بل زعم أولا، أن ذلك، ومهما كان فاعلا، ومنفعلا، ليس إلا من أعمال أهل الدنيا الفانية، ومن أفعال المفتونين بما تهبه الطبيعة من نعمائها، وآلائها، لكي يغرقوا في لجة ابتلائها، وينسوا المصير المحتوم بإغرائها، ثم تدهمهم مصيبة الموت على حين غرة، فينتقلون إلى عالم الآخرة حاملين لواء النار، وأعلام الجحيم. وهكذا زعم ثانيا بعد أن نقض أساس الإبداع ببدعة الاحتماء بما في جعبته من معرفة روحية، أن ما يعرضه على خوانه من عسل مصفى، لن يسقى طالب الجنة إلا من نبعه، ومعينه، ومن خالفه في سبيله المعبد إلى قبة السماء، فقد غدر بسبب وجود ذاته، وخان عهد اتصالها بعالمها الأرضي، وأولجها مباءة الحيرة، والاشتباه.
وهنا انحسر حدث الراهب عن الفعل الإنساني، والعقل الكوني، وصار محاربا لكل جديد يرج الوعي البشري، ويحضه على التأمل، والتفكير في الوقائع المتتالية، والأحداث المتعاقبة في سياق الحوادث الطبعية، لئلا يفقد ملكوت سلطته، وجبروت سطوته، وسلطان امتلاكه للحقيقة المطلقة، ويعود كما كان بشريا، لا يتصف بصفات تلبسه لباس الطهرانية، وتخصه دون غيره بالأوصاف المغالية، ولا يتعالى بحقيقة ترفع من قيمة اعتداده بتقديرات عقله، وتدبيرات فعله، وتجعله متنائيا عن النقد، والنقاش، والمراجعة لأدوات تفكيره، وقيم تحليله، لأن استمرار دوره الطلعي، وما يلزم منه في أداء وظيفته الاعتبارية، لن يأتى له إلا إذا تسامى بجسامة قدرته على تفسير الغببي، وتفكيك بنية الخفي، وسواء ما كمن في عالم الروح الخالدة، على اعتبارها حقيقة غير مرئية، أو ما انتمى إلى عالم النفس، وحقائقها الجوانية، وهي كل الغرائز والشهوات والميولات الباطنية، إذ كون ذلك غير مجسد بذاته في الصور الذهنية، وغير حاصل في مصاديق واقعية، يصيره بحكم موضعه في سلم المراتب الاجتماعية مستمسكا بزمام تحديد ماهيته، وتعريف ما انطوت عليه من سر الخلقة، ولغز الوجود، ولو لم كن تلك التمطيطات في عموم صياغتها إلا تحليقا وتوهيما وجريانا وراء سراب لا يفيد العلم القطعي، ولا يدل على الماهية المتشكلة من احتمالات وافتراضات متعددة.
كانت هذه التفسيرات الخرافية رسما متوارثا بين الأجيال المتلاحقة، يشد فيه الخلف بعضد السلف، وينساق فيه الجديد الباهر للقديم التليد، لأن التزام ما فيه من تحديدات، وتأويلات، لم يكن إلا نتيجة حتمية لما تشكل من شخوص هلامية لذلك الشبح الذي سكن ذهن الإنسان، وحجزه في سجن خيالاته، وصرفه عن رؤية السبب الظاهر فيما يبدو متنائيا عن كشف ماهية جوهره، أو كنه مادته، ومتعاليا في ذاته، أو في صفاته، ومتجاوزا لحدود الألفاظ، وقيود المعاني، إذ ذلك القلق المتولد من المجهول الذي لا تسكنهه الأنظار، والضجر المتفجر من المعلوم الذي لم تدرك جزئيات كلياته بالأفكار، لا يخرج عن مدار الخوف مما هو خفي، وغير ظاهر للرؤية، ولا بارز للتحديد في الإدراك العقلى. وهو كل كائن غيبي، ومتسم بالخفاء، ولا ماهية له إلا في الخيال الذي يرسم صورته النمطية، وسواء كان شبحا، أو غولا، أو جنيا، أو شيطانا، أو ملاكا، أو إلها، إذ كل ما لم تُشهد عينه، ولا تحده الجرمية في حيز الزمان، والمكان، ولا يمكن الوصول إلى عينه، فالتفسير لغموض حقيقته، هو احتمال من احتمالات عدة، وافتراض من افتراضات جمة، لأن عدم ظهوره إلا فيما نتخيله من تخيلات، ونتخرصه من حدوسات، لن يجعل وصفه حقيقيا، ودالا عليه بكمال نعوته، ما دام الموصوف لا ماهية له في ذاته، وهويته، ولا كنه له إلا فيما نحتته اللغة من صيغ الأسماء، والمعاني، واصطلحت على دلالته المعاجم، والقواميس. وكل ذلك، وإن ظهر بصورته الروحية اللامتناهية في العماء، فإن له صلة بما وصل إليه تطور العقل في تحديد معاني الأشياء، وتقييدها عن غيرها، وضبطها بقواعد، وسياقات، لأنه هو الذي يضع حدود الكليات، ويصورها بالألفاظ المحصورة في التعريف، وفي المفاهيم، لئلا تختلط المعاني بين الأشياء المتجانسة في الصورة الكلية، أو المعنى الكلي، وهو الجنس القابل للأفراد، فيدل الضد على ضده بالمماثلة والمشاكلة له في الجوهر، والكنه، والهوية. ولهذا اختلفت الحدود بين جنس الغيبيات، وتنوعت صفاتها في الأنواع المجردات، لأنها ترسم معالم الوصف الكلي، وهو الخفاء، واختلاف أعراضه، وتباين مصاديقه، لئلا يندرج في المفهوم الجزئي مقابله بالندية، والضدية، ثم لا يحصل الفرق بين حقيقة ذا، وحقيقة ذاك.
وحقا، إنما نحتت الأسماء للفرق، ووضعت الصفات للتمييز، إذ كل متصف بالغيبية، هو متحد مع غيره في ماهية الخفاء، لانعدام انجلائه في الماصدق، لكن الذي يفصل بين ذا، وذاك، هو ما حد به كل واحد من قيود تحصل بها حقيقته الذاتية، وصفاته العرضية، لئلا يلتبس المعنى في الدلالة، إذ ليس معنى الإله كمعنى الملاك، وإن ضمهما معا لفظ الخفي، لأن مسمى الإله في اللغة، ومطلق معناه، ومجرد دلالته، لا يساويه فيه ملاك، أوجني، أو غيرهما، ولو كان كل فرد من أفراده متسما بانعدام وجود صيغة له في الواقع، إذ معنى الإله في العقائد الدينية، يقتضى أن يكون حاكما على كل ما يصدق عليه الخفاء، على اعتباره جنس الأجناس، وعلة العلل، وفاعلا فيها بالإيجاد، والخلق، كما هو معلوم في الأديان، والفلسفات الروحية، وأن يكون غيره محكوما، وتابعا له في الخفاء، والغيبية، والخارقية، ومفارقا له في الأزلية، والأبدية، والخلق، والفعل المطلق، والتكوين، والتدبير. وعلى هذا تجري كل الكائنات اللامرئية، أو ما نسميه بالخوارق الروحية، لأن ما حصل من تمييز بين المراتب، وتفريق بين الوظائف، لم يجمع بين المغيبات إلا في مطلق عدم الظهور، وهو كل ما لم ير في عالم الشهادة، ودلت عليه صيغته بجلاء معناه، وحدود ماهيته، وكنهه الوجودي، والطبعي.
وهكذا، استمر ذلك التفسير الميتافيزيقي، واللامادي، وتحولت مفاهيمه مع مراحل تطور التاريخ البشري، ومنذ أن حصر عقله عن مناقشة ما يقف وراء ما يتجلى له من سر الطبيعة، ولغز الكون، وإلى أن نشأت أنا في محيط يعتبر ما ينطق به الراديو صوت الجان، وما يراه في التلفاز فعل الدجال، وما يبهره من خوارق أدهشت لبه خداع الشيطان، إذ نشأت في جيل يعتبر استعمال المستحدث انحرافا، وزيغا، وضلالا، لأن أبي حين اشترى في صغري تلفازا، كان يقول لي محذرا: إياك أن تخبر أحدا، إنما اشتراه فلان، وخبأه عندي.! ولأمر ما كان يستعمله خلسة، وبصوت لا تكاد تسمعه إلا همسا رقيقا، ولأمر ما كان يغلظ القول في التحذير، لئلا نخبر بخبره غيرنا، فيسوء وضع علاقتنا معه، وننال منه ضربا مبرحا، جزاء وقافا على ما كشفناه من خبيئة.
وقد مرت علينا أعوام طويلة، كنا نكتم سر ذلك المارد، وما يعرضه من فتن النساء العاريات، لئلا يعيب العامة على أبي ذلك، فيتهم في عدالته، وإمامته، وتضيع أمنية رزقه، وأحلام عيشه. لكن، كان هذا مضرا بابن الفقيه، ومخلا بطفولته، ومرديا لفكره، وانطلاقه، وإبداعه، وانسيابه مع الوجود، لأنه يشهد أبناء العامة، وهم حفاظ القرآن بين يدي أبيه، يلتهمون الأفلام الهندية، ويحكون تفاصيل أحداثها في المحضرة، وهو يبتلع نظراته، ويكظم زفراته، لئلا يفشي سرا، كان موجوءا، وموكوءا، ويظهر أمرا كان قدره الكتمان، والنسيان، إذ هو في صيرورته الاجتماعية مخالف للداته، ونظرائه، ومباين لهم في الحقيقة، والطبيعة، ومعاند لهم في البشرية، والآدمية، ما دام رزق أبيه غير مرتبط بما يقوم به من شغل، وعمل، ولا متصل بما يتميز به من خصوصياته الروحية، والمعنوية، بل لازم لما يسمع عنه من صفات، ونعوت، وتابع لما يحكم علاقاته من توازن، واتزان، إذ طهارة الظاهر، وجلاء سمته، ونقاء صيته من معرات الشبهة، والشبه، هو المرغوب فيه لحماية العقيدة، ورعاية الديانة، لأن تمام النسبة إلى تلك الصفة المتعالية بالانتماء إلى الحقيقة المطلقة، لا يستلزم سوى تطهير الخارج من أدران الشتيمة، والوقيعة، وتزكيته من شوائب السقطات الظاهرية. وإلا، فإن الانشغال بالظاهر الفخيم، والصوت الرخيم، والجسد العظيم، لن يضخ في العامة قيما، وأخلاقا رفيعة، وإنما ينمي أعرافهم، وتقاليدهم. وعاداتهم، وطرق تصورهم للمطلقات، ووسائل تصديقهم للمعتقدات. فها هو الأب قد قضى نحبه، وارتحل عنا عينه، وانتقل عنا صوته، لكي يخلفه ابنه في احتساء ما تبقى من سؤر الألم على ضفاف النهر الصادح بضجيج الإنسان، وعزيف الجان، ويعوضه فيما يذرفه من دموع اليأس على أطلال شمسه الشاحبة، أو فيما يحكيه خوفه من صمت الخفاء المتدفق وراء الجبل الأشم، والمتفجر خلف زرقة البحر العصي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آثار القصف الإسرائيلي على بلدة عيترون جنوبي لبنان


.. ما طبيعة القاعدة العسكرية التي استهدفت في محافظة بابل العراق




.. اللحظات الأولى بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلا في حي السلط


.. مصادر أمنية عراقية: 3 جرحى في قصف استهدف مواقع للحشد الشعبي




.. شهداء ومفقودون في قصف إسرائيلي دمر منزلا شمال غربي غزة