الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإعلام الحربيّ والمؤامرات اللغويّة

سلام عبود

2018 / 10 / 2
الصحافة والاعلام


أحد أبرز التعابير السياسيّة التي روّجها الإعلام الغربيّ عند توصيف حالات الصراع العنيفة، في الفواصل الحادّة والانعطافات المثيرة، تعبير "ضبط النفس". فقد تردّد هذا التعبير كثيرا عقب ظهور الردّ الصاروخيّ اليمنيّ على مواقع القوات السعوديّة. استخدم هذا التعبير لتأكيد وتثبيت صيغة "التوازن" الإعلاميّ، ذي المسحة الحياديّة الخادعة، بعد أن وصلت الحرب الى حدود الإبادة السافرة لشعب كامل. جاء التعبير ليضفي على الحرب، التي تقودها السعوديّة ودولة الإمارات شيئا من التوازن الأخلاقيّ: صاروخ مقابل حرب شاملة، أو "صاروخ تمّ اعتراضه"، كما يقول الإعلام السعوديّ، مقابل موت آلاف المدنيين اليمنيين، وما يرافقه من تدمير تامّ للحياة. صيغة التوازن، الحياد الكاذب، لا تفرّق بين معتد ومعتدى عليه، بين قاتل وقتيل، بين مهاجم ومدافع عن أرضه، بين سيادة واحتلال. فهذه التمايزات الجوهريّة، التي تحدد طبيعة أطراف النزاع، مطموسة تماما، ولا يتبقـّى من النزاع سوى حالة نفسيّة، تتمثـّل في مقدار التحكـّم بالمشاعر. وهذا أبشع ضروب التقويم السياسيّ والعسكريّ في الحالات الإنسانيّة الخطيرة.
بيد أنّ البلدان التي رفعت شعار "ضبط النفس" هي نفسها التي رفعت حادثاً محدوداً جدّاً، غامضاً في ملابساته وفي أبعاده، يتعلـّق بتسميم جاسوس مزدوج، الى مصاف يتجاوز حدود الجاسوس نفسه، فأسموه رسميا"غزوة سالزبوري"، وجعلوه" كادت تعرض حياة الآخرين للخطر"! وترتب عليه تصعيد سياسيّ دوليّ غير مسبوق، تمثل بطرد دبلوماسيين، ومقاطعة دبلوماسيّة جماعيّة شملت نصف أوروبّا. هنا لا توجد حاجة ماسة الى استخدام قوانين علم النفس وأساليب "ضبط النفس"!
إنّ تعبير "ضبط النفس" يتجاوز حدود تمرير استخدام العنف الى ما هو أبعد من ذلك. ففي أوج تصاعد نضال الفلسطينيين في غزّة، الذي أعاد للفلسطينيين بعض زخم التعاطف الدوليّ معهم، وصعـّد في الوقت نفسه شراسة القمع الاسرائيليّ، عاد تعبير "ضبط النفس" الى الظهور بقوّة في الإعلام الغربيّ والعربيّ. ولكن، لم يظهر هذه المرّة باعتباره وجهة نظر لقوّة سياسيّة محدّدة، بل باعتباره منظومة فكرية متكاملة، تعبّر عن اتحاد ممنهج للإرادات الدوليّة، يستكمل وحدته من طريق ترابط الأفكار وما يلازمها من أفعال واجراءات عمليّة. ففي 15 آيار 2018 صرّحت الخارجية الفرنسيّة داعية إسرائيل الى "ضبط النفس". وقد بدا التصريح الفرنسيّ، المتعقـّل ظاهريّا، دعوة حياديّة في نظر البعض، على الرغم من مضمونه المجيّر ضد الفلسطينيين، الذين يُلحقون الإساءات المتعمدة والاستفزازية بشعب إسرائيل الصابر على الأذى الفلسطينيّ! (على القارئ مراقبة الدور الفرنسيّ إعلاميّا وسياسيّا بشكل جيّد، لأنـّه أحد مفاتيح الحلول العسكريّة في أزمات العالم العربيّ في المرحلة الراهنة). في اليوم ذاته ظهرت المندوبة البريطانيّة في مجلس الأمن وأضاءت جوانب أخرى من تعبير"ضبط النفس". فقد طالبت إسرائيل بـ "ضبط النفس"، مع تأكيد "حقها في الدفاع عن النفس"، و" عدم استخدام العنف المفرط". هنا تنقلب الصيغة الفرنسيّة العدائيّة المموّهة الى صيغة عدائيّة سافرة، تجعل من إسرائيل طرفا معتديا عليه، تمنحه الحقّ باستخدام القوّة كوسيلة للدفاع عن النفس، ولكن "من دون إفراط". وقبل أن يمضي يوم واحد على هذا التعديل في المسار ظهرت مندوبة أميركا في مجلس الأمن "نيكي هيلي" لتعلن في 16 آيار 2018 أنّ أميركا ترى أنـّه "لم يعد بمقدور إسرائيل ضبط نفسها في مواجهة عنف الفلسطينيين". وقد شكـّل هذا التصريح الأساس اللفظيّ للطلب الأميركيّ الأوّل من نوعه في تاريخ الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ، القاضي بالتصويت على قرار يوجب إدانة الشعب الفلسطينيّ باعتباره قوّة معتدية. من هنا نرى أنّ قراءة الخطاب الدوليّ مجزءا يفقده طابعه التكامليّ والمنهاجيّ المخطّط. إنّ تنوع طرائق التعبير الأوروبيّة وسيلة مبرمجة بإتقان تامّ، هدفها صناعة وجهة نظر واحدة، ولكن برؤوس ونغمات متعدّدة.
تعبير آخر شاع استخدامه في الإعلام العربيّ هو تعبير "القوّة المفرطة" التضليليّ. وهو تعبير أخرس في ظاهره، بليغ في مضمونه، وشرّير في استخداماته ونتائجه. لأنـّه لا يجيب عن عدد القتلى والجرحى الذين يجب أن يسقطوا، لكي تخرج القوّة من حدودها المقبولة الى مستوى الإفراط. يضاف الى ذلك انتفاء وجود مرجعيّة حقوقيّة أو سياسيّة جامعة تحدّد حصريّا وقانونيّا أبعاد "الإفراط" في القتل والتدمير والتدخـّل السياسيّ والعسكريّ. إنّ تعبير الإفراط طبقاً للمقاييس الأميركيّة، قد يعني شخصاً واحدا، كأن يكون ناشطا عسكريّا وأمنيّا بلباس قسّ، محكوما في تركيا، أو متسلـّلا محكوماً في إيران. وفي عين الوقت قد لا يعني سقوط عشرات آلاف القتلى بالغارات والصواريخ بعيدة المدى بلوغ "العنف المفرط". وقد اعترفت أخيراً "قوات التحالف" الأميركيّة في العراق بسقوط 1060 مدنيّا عراقيّا وسوريّا بنيران أميركيّة "غير متعمّدة"، أي لم ترق الى مستوى العنف المفرط. (الميادين- 31 آب 2018)
في 28 آب 2018 أعلن وزير الدفاع الأميركيّ جيمس ماتيس بأنّ أميركا تسعى في اليمن الى " الى خفض الخسائر المدنيّة الى الحدّ الأدنى". و"الحد الأدني" تعبير جديد، لكنّه مشتق من تعبير "العنف المفرط". إنّ أحدث تقرير لمنظمة حقوق الإنسان العالميّة، في 24 آب 2018 ، يقول إنّ عدد القتلى المدنيين، جرّاء الهجوم "السعوديّ الإماراتيّ"، بلغ عشرة آلاف. كيف يُقاس"الحد الأدنى" لقتل المدنين اليمنيين في تقدير الأميركان؟ وكم يجب أن يبلغ عدد القتلى المدنيين على يد القوات السعوديّة الإماراتيّة لكي تصلح تسميته بـ "العنف المفرط"؟ ومتى يكون قتل المدنيين جريمة حرب؟
ومن التعابير التضليليّة السائدة في الإعلام الدعائيّ الغربيّ الراهن تعبير" قد ترقى الى مرتبة جرائم حرب". وهو تعبير استخدم في اليمن بعد مجازر متكررة، لم يتكمن مرتكبوها من إخفائها أو تبريرها. وحدث مثلها في العراق عند قصف مدنيين من قبل الأميركان في الموصل والأنبار وغيرهما.
كما استخدم هذا التعبير حينما أراد الطرف الأميركي قرص أذن القيادات الكردية السوريّة، وإشعارهم أنّ الحليف الأميركيّ قادر على سوقهم في أيّ وقت الى المحاكم الدوليّة، كمجرمي حرب. لقد رفع الإعلام الموجه أميركيّا تعبير" قد ترقى الى مستوى جرائم حرب"، في وجه القيادة الكردية، لمزيد من الابتزاز، بعد ظهور مبادرات كرديّة للتواصل مع الحكومة السوريّة:
"افاد تقرير اعلنته منظمة العفو الدولية،أمس الثلاثاء، أن المسلحين الأكراد قاموا بتدمير جماعي للمساكن وتهجير سكانها في شمالي سوريا، بما يمكن أن يوصف كجرائم حرب.
وأظهرت صور التقطتها أقمار صناعية مدى التدمير الذي جرى في الحسينية، حيث تقول المنظمة إن 14 منزلا فقط بقي من اصل 225 منزلا كانت قائمة عام 2014". (الصباح الجديد- 13 اكتوبر2015)
ما معايير "جرائم الحرب"؟
متى ترقى الأفعال الحربيّة الى مستوى الجرائم؟ من يقيسها، وعلى أيّ مقياس يتمّ حساب قوّتها الشرعيّة وغير الشرعيّة؟
إنّ تعبير "قد ترقى" هو تجويز سافر لفعل القتل والتدمير، وإضفاء شرعيّة دوليّة تامة على فعل إجرامي يجري التستر عليه، من طريق اللعب الشكليّ بالألفاظ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا، أي تداعيات لها؟| المسائية


.. الاتحاد الأوروبي يقرر فرض عقوبات جديدة على إيران




.. لماذا أجلت إسرائيل ردها على الهجوم الإيراني؟ • فرانس 24


.. مواطن يهاجم رئيسة المفوضية الأوروبية: دماء أطفال غزة على يدك




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا الحربية أغارت على بنى تحتية ومبان