الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من صدى الأغاني

فلسطين اسماعيل رحيم
كاتبة وصحفية مستقلة

(Falasteen Rahem)

2018 / 10 / 2
سيرة ذاتية


ذاكرة الأغاني انت ، الأغاني التي كنت اكتب كلماتها واخبئها بين دفاتري المدرسية ، حتى عرفت بريدك فصرت ادسها في ورق مغلف وادس معها الورد المجفف والعطر وخصلات الشعر والكثير من القبل التي لا اذكر من اَي قلم شفاه طبعتها إليك ، على الأكثر انه كان مسروقا من زينة اختي ، أو ربما اعارتنياه صديقة في المدرسة ، فمثل هذه الاعمال الخيرية كانت توجد بين الزميلات ، خصوصا حين يتعلق الامر بحبيب بعيد لا تصله منا غير الكلمات وهذي القبل التي تقطر بالحرمان والاغاني الحزينة .
شوف على شوق على حبة حب ، كانت ازهار تغني في باب الصف ولَم تنتبه الى الست رزيقة وهي تقصفها بنظرات شريرة في الوقت الذي كنت اكتب رسالة إليك أحملها اغنيات فيروزية، لكن ذاكرة الأغاني ابعد من ايّام الثانوية ، حتى ابعد من خجلي وانا أصفق في السيارة التي أقلتنا من بيتنا الطيني الاول إلى المدينة ، المدينة التي اذكر من أغنياتها ذلك الشاب الذي كان يتمايل على باب المدخل بين غرفة الجلوس والكليدور ( وهو اسم الممر الذي يربط اجزاء البيت ببعضها، فكان الكليدور والهول وهو غرفة جلوس العائلة فيما تسمى غرفة الضيوف بالاستقبال) ، كان يتمايل بشعره الخنافس وبنطلونه الجارلس ، كان نحيل العود ترك حب الشباب على وجهه اثارا ، لا اذكر وجهه بالضبط الا من خلال الصورة التي وجدتها في صرة جدتي بعد سنوات طويلة ، حين جائت لتعيش معنا ، كان يضع خوذة سائق دبابه وربض هو ومجموعة من رفاقه يحيطون بفوهتها، كانوا مبتسمين ومطمئنين جدا لا يكدرهم خاطر الحرب ولا الموت ولا الفقد، وعلى الأرجح انها اول صورة له في جبهة القتال التي الاحق إليها بعد إنهائه دراسة السياحة والفندقة ، لم اعرف عمي الا بهذه الصورة الضبابية واذكر ملامحه التي حفظتها فيما بعد من صورة علقت في صالة بيتنا، عمي الشاب الذي فقد في اول الحرب العراقية الإيرانية ،قيل عنه انه كان مولعا بأغاني فريد الأطرش وايضاً قيل ان صوته حسن جدا ، تستحضره ذاكرتي بمشهد وحيد غير واضح لكن أنغام أغنية مزيكا يا مزيكا وحياتك يامزيكا خليني مع حبيبي وعم نرقص يا مزيكا ،تنقل إليّ هيئته وهو يدندنها وكان واقفا في باب مدخل الغرفة يتمايل مع الكلمات، ثم لا اعرف كيف غاب ذاك العم الأصغر والذي انتظره ابي طويلا ، حتى انه تعقب كل اسماء الأسرى والمفقودين والشهداء وحتى الاغنيات ، ولَم يعرف عن مصيره شيئا ، اذكر ان خبر لعودته قد طاف بإرجاء بيتنا بعد اكثر من خمسة وعشرين عاما ، خبرا فزعت له امي وطرب له ابي ، كان مثل تلك الأخبار التي يسربها اليائسون لعلهم يحيون املا ما في عودة غريب ، لكن الغريب ظل غريبا ، حتى نفرته النفوس والذاكرة ، وتظل تؤرخه أغنية فالأغنياء هي الاخرى تاريخ ، صورة عمي المصلوبة على حائط غرفة الاستقبال والتي جاورتها بعد احدى عشر عاما صورة لخالي الطيار ، خالي الذي دخل من باب المطبخ وهو يضحك لسماعه صوت أغاني لعرس يقام في القرية ، اذكره بدشداشته البيضاء حاملا نايا تعب في حفره وتنظيفه ليصير مناسبا لأنفاسه ، كان يغني لفاضل عوّاد مستبشرا : لا خبر لا جفيه لا حامض حلو لا شربت ، والتمن الحلوات من كل بيت التمن ، خالي الذي أخذته الحرب الثانية ، ظل حاضرا في النايات القصبية وفِي كل جفافي المهر ، كانت صورته هو وعمي تستقبلا جميع زوار البيت ، لا اعرف كيف تنازلت الاسرة عن تاريخ نضالها ووجوه شهدائها ، ولا متى لم تعد تحفل بهذا التاريخ ، فبعد خمسة عشر عاما وفِي زيارة خاطفة عثرت على صورتيهما في مكان لم أكن اتوقعه ، وجدت هذين الشابين الاعزبين الذين طوتهما الحروب ، قد تنازلت الاسرة عن صورها التي لم تعد مناسبة لأثاث البيت الجديد ، فوجدتهما متعانقين في مخزن الأشياء القديمة على سطح الدار ، حيث الثوم والبصل وقدور الطبخ للمناسبات وبعض الكتب والاثاث القديم والكثير من الجرذان ، عمي الذي ترك ديوان مكتوب بخط يده كان قد اختار له اسم ، مذكرات النبي المنتحر، كان يقرء فيه قارئه نهاية ضبابية تشبه تلك التي أحملها له في ذاكرتي ، في حين غاب خالي تماما عن حديث بيتنا الذي قضى فيه الكثير من الأيام ، وظلت الأغاني تمررهم خاطرا الى روحي وتشق ذاكرتي وتستحضرهم مثل تعويذة تهز الحنين ، فتنشر الأسماء والوجوه والأماكن ، فيطل كل شيء بخضرته الاولى ، نديا وهشا ورطبا، ينطوي الوقت كما الارض ، وتتعطر الأماكن بذلك العطر الذي يقلك في لحظة إلى الملايين من السنوات التي مضت ، فتسمع صوت الله مغنيا وهو يبذرنا في ارضه ويصب علينا الماء والضوء لنكبر ، فكبرنا الى حد النسيان ، فتدق هيام يونس أبواب الناس كلها وتدق باب قلبي ،ليفتح فتطل صديقة طفولتي و ابنة عمي الراحلة من دروب الصبا وهي تغني معها يا ام الشال العنابي، ويظل صوتها حاضرا في كل عيون حراگة تصادفني ، تلك الاغنية التي فاحئتني بأنها تحفظها حين غنتها في طريق عودتنا من مرقد عمران بن علي بسيارة عمي البيضاء وهي تغني يا ام عيون حراگة گولي شوگت نتلاگى ، غير اني اذكرها بحزن أعمق ونحن جالستين في الباص وهي تغني اخر أغنية سمعتها منها : حايرة والشوك بين عيونك ، خايفة تحبين ويلمونك ، الاغنيات حقا تعاويذ ، تصب في دمك الفرح والحزن ، الاغنيات هي الصلوات ، فأمي التي واظبت على صلواتها في عمر متاخرة ، كانت اكثر قربا ورأفة حين كانت تغني ، لا اذكر ابي يغني ، لكني لا أستطيع ان اذكر امي بلا أغنياتها ، تلك التي تحكي قصصا عن عشاق ضاعوا ، ولَم يصونوا عهودهم ولا حفظوا احلامهم ، لكني اجد وجه امي حاضرا بكل ثقله في أغنية كوّم أنثر إلهيل لحسين نعمه ، امي التي تشاطر طواشات التمر شهلاوات العيون ، سمراوات المحيا، تشاطرهن العمل ايّام الگصاص ( اخر مواسم التمر) فيما نعمل نحن الصغار في تلقي عثوك التمر( عذوق) بجوادر ( قطع من القماش السميك أو البلاستيك) خصصت لهذا الغرض، فيما تظل مهنة بسل التمر ( تنقيته) مهنة الطواشات ( وهن النساء اللواتي يقمن بجمع ما يتناثر من التمر على الارض) واللواتي كن يأتين للعمل بالأجرة ، وكن ذوات حديث حلو ومرح ولكنهن قليلات العمل وبطيئات جدا ، حتى ان امي نهرت اخي الأكبر الذي لم يكمل عمله وظل متجاذبا معهن أطراف الحديث حتى حل المساء دون ان ينهي عدد النخلات المقرر گصاصهن في ذلك النهار ، وأخي كان معذورا فحديثهن شهيا مثل عيونهن الشهل الغرقانه بالكحل تماما كما يصفهن حسين نعمه ، وكانت سوالفهن تنشتل في الروح والقلب ، على اني كنت أفضل الأغاني التي كانت تختارها اختي الكبرى التي عرفت من خلالها محمد قنديل في يا حلو صبح ، بل صارت أغنيتي المفضلة للصباح وكذلك عرفت عبرها لوعة لا تدخلي لفائزة احمد في حين احببت ياللي عيونك حلوة سود ووساع لعبدالله رويشد عن اختي الثانية التي جائت بأغنياته الى بيتنا ، ولست ادري كيف تسربت فيروز إلى قلبي ولا في اَي سن !، لكنها تربعت على عرش الأغاني حتى صرت اجد مشقة كبيرة في استقصاء أغانيها،وحفظهن وكتابتهن وكانت حين تطل على شاشة التلفاز يبحث الأهل عني ليخبروني بذلك ، وينادوا علي بأعلى الصوت لأسمع فيروز فأخرج من مخبئي مثل مارد عرفوا تعويذة إحضاره ، في حين ظل فهد بلان أغنية الصيف عندي المقترنه بأخي عقيل ، الذي كان يفزعنا بها في منتصف الليل حين ننام على سطح الدار مرغمين بسبب انقطاعات الكهرباء ، فكان اخي يهتف بعد ان يستسلم الجميع لهجمات البعوض والحرمس والنوم ، فينادي بأعلى صوته وركبنا على الحصان ليفز الأهل بعضهم ضاحكا وبعضهم شاتما، على اني لا أنسى ان اخي هذا كثيرا ماكان يحرمنا نومة الصبح ، ويُهجم علينا فجر كل يوم يقلب فراشنا ويرش الماء على وجوهنا ،وأما مكانك حبيبي مابين العيون لرياض احمد التي صدحت بعلو صوت صافرة الانذار التي جعلت ابي يفز مناديا ومكبرا ، فنهضنا جميعنا نركض إلى المذياع الذي تركناه مفتوحا مديرين مفتاح الصوت الى اعلى مستوى كي نعرف عودة تيار الكهرباء ونحن نيام فنهرب من حر السطح وحرمسه وبعوضه ومن هجمات عقيل أيضا ، فيما تذكرني أغنية ليش ليش يا جارة لمي أكرم ، بصوت مراقبة الصوت القبيح والتي كانت تجاملها ست ايمان نكاية بجميلة الصوت ليلى مراد وكانتا الاثنتين في صفي ، وكانت المراقبة اسمها ليلى حسن شقراء وذات عيون خضر ، في حين يميز ليلى مراد سمرة وشعر اسود طويل يكاد يكون بطول قامَتَها ، وصوت هو الاجمل بل اني لم اسمع شبيها لصوتها ولَم اعرف احدا له مثل جمال صوتها، ورغم اني كنت أفضل سهرة الفلم الأجنبي على اغنيات ام كلثوم نكاية بشقيقاتي اللواتي كن يحرمني متعة الأفلام في تلك السن الصغيرة ، فكنت اجلس في حضن ابي واطلب إليه ان نتابع نشرة الأخبار، في حين كن يهمسن لي ان أغير القناة لان ام كلثوم تغني على القناة الثانية ، غير اني حفظت اغنيات ام كلثوم باكرا جدا، ما أفزع معلمتي في الصف الرابع حين سمعتني اغني و ح أفضل احبك من غير ما أقولك ، فنهرتني عن تكرار ذلك ، واذكر تعجب جنود المعسكر حين هتفت لهم أعطني حريتي اطلق يديا ولَم يكن عمري قد تجاوز التاسعة ، بينما تعني ماجدة الرومي ايّام سكننا في دور المعهد، وأول من ساق صوت ماجدة الى مسامعي كانت ابن الجيران نبراس التي تعلمت سماعها من خالالتها، احببت ماجدة جدا،بنفس القدر الذي احببت فيه طريقة غناء اختي فداء لأغنية مرة ومرة لرياض احمد وكنا على طريق بين الكوفة والنجف وتمشي معنا شتلة نرجس ، كان الوقت شتاءا عامرا بالخيبة والحب ، وكانت الحرب تفرش بساطها على الأرواح فكان الانسان في تلك القرى والمدن يودع اخر براءته ونقائه ليستعد لهذا التحول الكبير ، غنت فداء كما غنت هند منصور في ممرات المعهد الفني زعلي طول انا وياك ، فكانت تبهت لصوتها القلوب وتصفق احلام ، لكني كنت على علاقة بصوت محمد منير اكثر في تلك العمر ، محمد منير الذي عرفته من مسجلة في غرفة اخي الأكبر في أولى سنواتي الست ، وكان يغني شبابيك الدنيا كلها شبابيك ، منير اول من صور لي جمال شكل النوافذ وأنها أوسع من ان تكون مجرد شبابيك ، كانت شبابيك تعبر بي حدود البيت اول مرة ليدهسني صوت يهمس في أذني الفيروزية ان العصفورة يمكن تجيء بعلبه كلها لعب وان البنت العاشقة لابد لها من تل اخضر وحبيب بعيد ترقيه بالخرزات الزرق، فاخترعتك انت .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما مدى فاعليتها؟| المسائية


.. اختيار أعضاء هيئة المحلفين الـ12 في محاكمة ترامب الجنائية في




.. قبل ساعات من هجوم أصفهان.. ماذا قال وزير خارجية إيران عن تصع


.. شد وجذب بين أميركا وإسرائيل بسبب ملف اجتياح رفح




.. معضلة #رفح وكيف ستخرج #إسرائيل منها؟ #وثائقيات_سكاي