الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مظاهر تكييف الإسلام لتقدير الإنسان في مغرب القرن التاسع عشر

لحسن ايت الفقيه
(Ait -elfakih Lahcen)

2018 / 10 / 6
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


دأبت فرنسا، منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، على الاعتناء بشأن الإسلام الثقافي في بلاد المغارب، بالجمع والدرس والتحليل. والمقصود بالإسلام الثقافي، هنا، تلك الممارسات الدينية والمعتقدات المجانبة للنص،أحيانا، والمتجلية كما لو كانت محصول فعل التكييف والملاءمة، الفعل الذي يتعرض له النص الديني ذاته، والفتوى في بعض الأحيان، لينسجم النص والثقافة المحلية. وفي بعض الأحيان يذهب التكيف بعيدا، ويفتح المجال للإبداع، فيجري تقديس الإنسان، وتطفو بعض العادات القديمة والتقاليد على السطح، وذاك كله من صنع الذاكرة. وحسبنا أن الاعتناء بالمزارات، والتبرك بالصخر والماء والشجر، وتقدير الإنسان بإلباسه رداء دينيا إسلاميا لغاية التوسل له في الحياة، والتبرك بضريحه في الممات، وجه من أوجه ذلك التكيف. ولاغرو، ففهم تصور المغاربة لما وراء الطبيعة يساهم في فهم ثقافتهم، وييسر السيطرة عليهم، أعني التمكين من استعمارهم، وذاك هو مربط الفرس.
ويعد كتاب «الصلحاء» لإدموند دوتي، المترجم إلى اللغة العربية من لدن الدكتور محمد ناجي بن عمر، نموذجا لتلك الدراسات، بما هي «مدونات عن الإسلام المغاربي خلال القرن التاسع عشر». والكتاب من منشورات أفريقيا والشرق سنة 2014، وهو في ستة فصول، إلى جانب المقدمة، تغشى 144 صفحة من الحجم المتوسط.
ويبدو من خلال عنوان الكتاب «الصلحاء» أن المترجم محمد ناجي بن عمر ذو كفاءة عالية في الترجمة إلى العربية، إذ حب أن يجمع «الصالح» بصيغة جمع التكسير «الصلحاء»، وتجنب أن يجمع الاسم جمعا مذكرا سالما. ويفهم من ذلك أن ليس كل صالح عاقلا، فمنهم الحمقى والمجاذيب، ومنهم الحجر والماء والشجر، فحسن ألا يجمع «الصالح» على «الصالحين»، لأن الجمع المذكر السالم يخص العاقل ومن يعمل عمل العاقل. ومن جانب آخر آثارت كلمة «البربر» نعتا للأمازيغ بعض الإشكال، في الترجمة، وهي ترجمة الكلمة «Berbère» باللسان الفرنسي. ولنعتمد لغة المترجم ومضامين الكتاب المترجم، مع الاعتراف أن للدكتور محمد ناجي بن عمر«تجربة متميزة في ترجمة كتب ذات طابع إثنوغرافي وأنثروبولوجي ما انفكت تحظى باهتمام الباحثين المهتمين بإعادة قراءة تاريخ مغرب القرن التاسع عشر» (صفحة 5).
قد كانت مهمة إدموند دوتي، ولا شك، استخباراتية، و«القيام بمهام استطلاعية واستعمارية عن ثقافة المغرب» (ص6)، لكن دقة ملاحظته ومجهوده في التحليل والمقارنة والاستنتاج، غفرت له ذنبه. فالكتاب يخدم الباحث في تاريخ معرفة المغرب الحديث. إن الهدف من إقدامي على قراءة هذا الكتاب الاستجابة لفضول المقارنة بين الماضي، كما وصفه إدموند دوتي، وما يحصل في الحاضر اعتمادا على البحوث التي أنجزتها بجبال الأطلس الكبير الشرقي المغربية.
يرى دوتي أن تقدير الصلحاء في شمال أفريقيا «يعود بالضبط إلى غياب ذلك الرابط القائم بين الله والمؤمن، مما كان باعثا عند الناس إلى البحث عن وسائط وجعلهم يخفون تحت مسألة الشفاعة التي أثبتها الفقهاء تأليها حقيقيا للشخص»(ص17). والحال أن تقديس الشخص في المغرب، أن كان وليا صالحا، ليس لغاية الوساطة والشفاعة، قياسا، ربما، على المسيحية، لأن الصلحاء، أو المزارات البشرية، كما أحببت أن أسميها في كتابي:«الرموز الدفينة بين القبورية والمزارات الطبيعية»، ما هي إلا تكييف للمزارات الطبيعية، وإن شئت استمرار لها على شاكلة أخرى. فالمزار البشري يقدر بنفس الطقوس والشعائر التي يقدر بها المزار الطبيعي، كنحو الطواف حول المزار في مسار ذي اتجاه عكس عقارب الساعة، ونحر الذبائح وتعليق الأقمشة. ولم يغفل دوتي سرد أدق التفاصيل حول زيارة الأولياء وعلاقتها بالعقيدة الإسلامية، ولقد اجتهد فقدم «بعض التوضيحات حول مضامين هذا الطقس [الزيارة] التأليهي» (ص17) «الذي أخذ مكانه في صميم الاعتقاد بعد صراع طويل». وفي خضم هذا الصراع ظهر أشخاص «مشنعون مستبسلون ضد هذا الطقس، وظهر أشخاص كانوا يخشون تشبيه الإنسان بالله، وينأون بأنفسهم بعيدا عن كبيرة الشرك، ولا يكادون ينطقون الشهادة كاملة إلا بصعوبة كبيرة، ذلك أن النطق بالشهادة لا يتم إلا بذكر النبي»(ص18). ولقد «أشار هاريسHarris في آخر سفر له إلى تافيلالت أنه رافق أحد أتباع الزاوية الدرقاوية، الذي حكى له أن أحد أهداف الزاوية كان دائما هو العودة بالإسلام إلى صفائه الأول» (ص18). واستدرك دوتي، مضيفا على لسان هاريسHarris «أن زيارة الصلحاء ممارسة متجذرة في المغرب، وأن مجددين من قبيل مؤسس الطريقة الدرقاوية الذي يدعو صراحة إلى العودة إلى حياة الزهد والسلف الصالح في العصور المشرقة للإسلام لم يتوانوا هم أنفسهم، على إضافة أسمائهم إلى القائمة الطويلة من هؤلاء الصلحاء» (ص20). لذلك ظلت زيارة الصالحين كما لاحظ هوكر وبال «هي المظهر الوحيد لتجلي الدين في نظر بربر الأطلس» (ص20)، ولا يعني هؤلاء الأمازيغ ولا صلحاءهم التفقه في الدين. و«نشأت زيارة الأولياء في القرن السادس عشر بطرق لافتة للنظر، على حين غرة بدافع ديني لم يستطيع أي أحد من المؤرخين معرفة طبيعته وتكونه» (ص26).
يتأسس تقديس الإنسان وإلباسه رداء ولي صالح على بعض الكرامات، من ذلك مثلا أنه كلما «حلف أحدهم كذبا على قبر صالح كسر طرف من أطرافه لدى خروجه منه... وأما أحدهم فقد رام الدخول إلى مغارة أحد الصلحاء وما أن دنا منها حتى رأى كأن بابها يضيق عليه حتى لا يكاد يمر بينما عبرها رفاقه من المصدقين بسهولة» (ص31). وتحكى نفس الرواية على المغارة التي دفن فيها ميمون أبي وكيل الكائنة على الضفة اليسرى لواد زيز بجبال الأطلس الكبير الشرقي المغربية.
إن «زيارة الأولياء موجودة في بلاد البربر منذ فجر التاريخ، واستمرت حتى يومنا هذا. لكن تفاصيل تطورها غير معروفة جيدا. ولا نتوافر من أجل إعادة رسم مسارها سوى على معلومات عامة ومبهمة على قسم كبير من تاريخها»(ص32). ولأن الأولياء متصلون بالفكر الصوفي الطرقي فإن التصوف سمح كثيرا بالتكيف والتأويل، فأجاز تقدير الأولياء في الحياة وفي الممات، فكان إنشاء القبورية، بما هي ممارسة تروم تقدير الإنسان الميت. ومن هذا المنطلق عرجت القبورية الأمازيغية نحو مسار هوياتي، وأضحت حقلا ثقافيا يوحد المغارب الثلاث، تونس والجزائر والمغرب. ويتجلى البعد الهوياتي للأولياء في المجالية الثقافية، أعني نفود تأثير الولي/الضريح والاعتقاد بكراماته. وبمعنى آخر، لما كان تأثر المزار يغشى القبيلة، هي مجال لوحدة سوسيوقافية متجانسة نلفى أن المزار مكون مفيد في فهم الهوية الثقافية للكثير من القبائل المغربية. فالصلحاء محليون، وثمة «في الحقيقة صلحاء من مختلف المستويات، حيث نجد الصالح المحلي الذي يمارس نفوذه في قرية واحدة، وهناك منهم من يمتد تأثيره إلى القبيلة كلها أو إلى قبائل متعددة»(ص37).
وللصالحين مقدمون يعنونهم من غير سلالاتهم. ويحدث حينما يموتون أن يستمر المقدمون في ممارسة الخدمة التي انقطعوا لها، ويولونها لأبنائهم، وتصبح همة المقدم متوارثة أبا عن جد «يأخذ كل ما يجود به الزوار. وهو ما يجعل من مهمته تكليفا مربحا. وفي غالب الأحيان لا ينتمي حراس أضرحة الصلحاء إلى عائلة الصالح» (ص41). وبعد مضي بعض الوقت يزعم أبناء المقدمين، بالباطل، أنهم من سلالة الولي الصالح المغلف بالتقديس. ومعنى ذلك أن أبناء المقدمين يجدون أنفسهم في وضعية تحاكي زنيما يحب أن ينسب لغير أبيه.
وبالمقابل، هناك قبائل لا تحترم الصلحاء بالمرة، إذ «نجد لدى عدد معين من البدو الصحراويين الخلص أن الأضرحة لا تحظى سوى بأهمية أقل من تلك الحظوة التي توجد في المناطق الأخرى» (ص43). ويحدث ذلك، في الغالب، في المناطق الأقل تدينا، كنحو أوساط «الرحل الحقيقيين المفتقدين لأي تجمع مخصوص» (ص40)، وكنحو الأوساط الحضرية أو المستقرة، جيث يصادف المرء بعض التصرفات ضد الصالحين.
استرسل إدموند دوتي في الحديث عن الصلحاء دون الوقوف عند الجهاز المفاهي الذي بشكل خطابه، وفي الفصل الثالث بين معنى الكلمات: «الصالح، وسيدي، والشريف» (ص49)، وأكد أن كلمة (مرابو) تحوير لكلمة مرابط، و«لا علاقة لها بكلمة مربوط»(ص50). وإنه «بمجرد ما نعترف أن كلمة Marabout تحريف لكلمة مرابط لم يعد هناك شك في الاشتقاق»، إذ الكلمة ذات صلة «نحوية مباشرة مع كلمة رباط» (ص50). ويعتقد دوتي أن المجاهدين هم الذين «تحولوا إلى دعاة لنهضة دينية حديثة في أفريقيا الشمالية، وأصبح الرباط القوي مؤسسة دينية حقيقية، أي: زاوية» (ص53). ولم يفصل دوتي القول في علاقة الزوايا بالرباطات، إن هي إلا امتدادا لها، بل اكتفى بالإشارة إلى أن المرابط لقب ديني. ففي تلمسان «كتابة على شاهد قبر صالحة توفيت سنة 1472، وصف بأنها مرابطة»(ص53). وهو قبر الحاجة ياسمين.
ولكلمة صالح مفهوم أكثر اتساعا إذ تشمل البلهاء والحمقى والصرعى و«كل من له معتقدات كونية، ومن له إشراقات علوية وأكوام الحجارة، وبقايا زيارة الأضرحة، والأشجار، وكل بقايا الأشجار القديمة» (ص54). وترادف كلمة «صالح» «ولي» في المغرب، و«تعني حرفيا القريب من الله» (ص55). وعن اللقب مولاي تأكد أنه مشتق من من الولي وترمز إلى الله، ثم أصبحت الكلمة ترادف السيد والشريف. إنه لقب «يعطى للشرفاء علما، علما أن أمراء من سلالات مغاربية أخرى حملت [حملوا] هذا الاسم» (ص54)، ورد ذلك في مخطوط (نظم الدر والعقيان في بيان شرف بني زيان» وهو مخطوط يدور حول تاريخ بني زيان ملوك تلمسان، حصل تحقيق المخطوط وطبعه في الوقت الحالي من لدن محمد أغا بوعياد. ويزعم كل الصلحاء، بالحق أو بالباطل، أنهم شرفاء.
وإلى جانب اللقب «مولاي» أشار دوتي إلى اللقب «سيدي»، وهو لقب بشري محض لدى جميع المسلمين، إلا أن القبائل المتأثرة باليهودية تود أن تطلق لقب سيدي على الرب كقولك «سيدي ربي»، وعلى الصالح «سيدي حقي». ويضيف دوتي أن كلمة «سيدي» تستعمل عادة لتعيين مسمى وليا مثل «سيدي عبد القادر الجيلاني»، ويلقب كل من نحترمهم من الأشخاص باللقب «سيدي» و«سيدنا تدل على احترام أكثر» (ص59). وندر ما يقال لحامل اسم محمد (مولاي محمد). وأما كلمة «سي» فهي «ترخيم أو اختصار لسيدي، خاصة ب «المثقفين» أو من سموه عموما في المغرب فقهاء» (ص59). ووقف إدموند دوتي عند لقب لالة الأمازيغي، بما هو يعين «نساء صلحاء في القبائل» (ص61). وتحمل الصالحات في الغالب لقب «إما» مثل الصالحة «إما حگا علي» الكائن ضريحها على الضفة اليسرى لواد غريس بقرية أموگر بجبال الأطلس الكبير الشرقي المغربية. ويقترن اللقب «إما» باللقب «لالة» في اسم الصالحة «مثل لالة إما تيفلوت قرب البليدة» (ص61). ويرمز لقب «دادة» إلى الأب عند الشاوية بالجزائر.
ومن علامة الصالح الوسخ والقمل. أتذكر متصوفا كان يمجد القمل ويقول بالحرف: إن القمل كائنات تخلق من جسد الإنسان المسلم المؤمن. وهل حدث يوما أن وجدنا قملة واحدة بجسد النصراني؟ وسأسرد أيضا قصة شخصين سافرا ضربا في الأرض لغاية التجارة، وكانا يصفا أنفسهما أنهما شريفان. وذات يوم واجههما شخص بالتعقيب على نعتهما لأنفسهما، قائلا: أحدكما شريف بأوساخه وقملهن والآخر ليس بشريف بلباسه النظيف، فهو دعي. وليس للشرفاء في المغرب «أي تمييز خارجي فهم يحملون سبحات، ولكن هذا بصفتهم أتباع طريقة دينية، وفي الواقع هناك صلحاء من كل الأصناف من الناسك الوسخ «المتقمل»، والدرويش الوسخ إلى الصالح الأكبر مثل شريف وزان» (ص63).
واستعمل الزي وسيلة لتمييز المتصوفة عن غيرهم. والزي سمة كل من يدعي أنه يخالف عامة الناس. فإذا كان دوتي يرجع بداية توظيف الزي رمزا للاختلاف إلى الفاطميين، فإن الموحدين، أيضا، أن يكون لليهود، بما هم يخالفون المسلمين عقائديا، زيهم. والزي متصل إلى حدود يومه بالهوية الثقافية. ويحمل الفاطميون قطعة قماش بيضاء رمزا لهم (انظر الصفحة 64 من الكتاب)، ويحكى عن الدرقاويين أنهم يحملون عمامة خضراء.
ويرى دوتي أن لقب الشريف شائع في القرن السادس عشر، وباتوا يضعون «شجرة نسب» (صفحة 69)، لكنه لم يوسع في مفهوم النسب، إذ يحق لذي نسب شريف أن يحمل نسب أمه الأمازيغية، كما حال أبناء الزاوية العياشية الكائنة بالسفح الجنوبي الشرقي لجبل العياشي، بإقليم ميدلت، (المغرب)، والذين يعود نسبهم إلى الأدارسة بفجيج، حيث قدم جدهم يوسف في أواخر القرن السادس عشر إلى جبال الأطلس الكبير الشرقي، وتزوج بامرأة من قبيلة أيت عياش الصنهاجية، ولما أسس، ولما تأسست الزاوية سنة 1634 حملت اسم الزاوية العياشية. ويبدو أن دوتي جانب الصواب، في مضمون الرواية التالية:«... ولأحس انني أزعجت تلاميذي، بمدرستي في تلمسان، إلا عندما أتحدث عن البرابر الأفريقيين، وأضيف أن كل من أتكلم إليهم برابرة، وقد كنت أقول لأكثرهم تقدما في الدراسة يسمى عبد العزيز الزناگي أنه ليس شريفا، وأن اسمه الإثني الزناكي ينفي كونه شريفا» (ص69). وليس كل من يحمل كنية أمازيغية أمازيغيا، وليس كل من يحمل لقب شريف عربيا. «وللرجوع للذين يزعمون أنهم شرفاء، والذين انتشروا في المغرب، منذ حوالي ثلاثة قرون، نقول إن هؤلاء الدعاة قد نقلوا كل شيء إلى القبيلة التي وصلوا إليها. وهذا من الأسباب التي تعطي طابعا خاصا لتاريخ شمال أفريقيا في القرن السادس عشر، مخالفا للعصر الوسيط، ليس لأن السلطة السياسية قد اتخذت تشكلا مختلفا في المغرب لكن كل الأحداث الأخرى طبعت بالصلاح» (ص69).
إن النزعة الشرفاوية أو ما يسميه دوتي دوتي حركة الصلاح نشأت في القرن السادس عشر. ولم تنج النزعة من الانتقادات، إذ «كيف يمكن أن تكون قبيلة بربرية العادات واللغة من قريش؟»(ص72). ووقف ذوتي عند صلة أيت سغروشن بالمغرب بالنسب الشريف، النسب إلى الولي مولاي علي بن عمرو وليس مولاي علي بن عامر كما ورد في النسخة المترجمة من الكتاب.
وباختصار فكلمة صالح «لسيت مرادفة تماما لكلمة شريف، فهناك عدة صلحاء بدون شجرة نسب»(ص74). وبموازاة ذلك هناك صلحاء مجهولو الهوية، كنحو ما استشهد به دوتي أنه « نجد عند خروجنا من تلمسان قرب طريق سيدي بومدين يمينا صالحا»، قبره «عبارة عن أطلال أصبحت ضمن ملكية أوروبية. والنساء خاصة اللواتي يزرن سيدي بومدين، لا يمكنهن أن لا يقفن ولو لحظة في هذه المحطة، حتى لا تعتبر هذه الزيارة ناقصة، علما أنه لم نستطع، قط، ذكر اسم هذا الصالح الذي له الحظوة، والذي يبدو أن اسمه قذ نسي تقريبا»(ص75). وتسمى الاضرحة المجهولة الهوية في المغرب والجزائر سيدي المخفي. «ونجد أحيانا الولي الذي اختفى اسمه يأخذ تسميته من المكان الذي يوجد به»، كنحو سيدي بوزوبوحة (يسمى في المغرب أزمور) بتلمسان، وسيدي بوزيتونة. ولبعض الأولياء مزاراتها الطبيعية، كأن تكون كهفا موضعا لدفن سيدي بوكيل وسيدي شمهروش بجبال الأطلس الكبير المغربية، وتكون صخورا كصخرة الولي مولاي علي بن عمرو السالف ذكره، قرب سد الحسن الداخل بإقليم الرشيدية (المغرب). وهناك عيون منسوبة إلى الصالحين، من ذلك عين سيدي حرزام وعين مولاي يعقوب بالمغرب. فالمزار البشري امتداد للمزار الطبيعي. وكما أن لبعض الأولياء مزارتها الطبيعية نلفى أن للأولياء مدنها وقراها.
نذكر أن مراكش يحميها أبو العباس السبتي صحبة ستة أولياء آخرين يدون سبعة رجال. اشتهر أبو العباس السبتي بالبذل، ويكاد البذل يرقى لدى المتصوف إلى ركن أساسي من أركان العبادة. وتحمل ثلة من القرى بالجنوب الشرقي المغربي أسماء الزوايا كنحو، زاوية سيدي بوكيل، وزاوية سيدي حمزة (الزاوية العياشية)، وزاوية أملكيس، وزاوية القاضي. وللأولياء قبائلهم، إذ كان لفشتالة مولاي بوشتى الخمار، ولجبالة مولاي عبد السلام بن مشيش، «ولا توجد أي قرية أو مشتى أو زريبة أو دشرة ليس لها سيد /صالح» (ص84). ويأتي الأنياء ليبصموا، بدورهم، بعض الأماكن، يظهر ذلك من خلال الأساطير التي تنشأ حولها. ولئن كان الجزائريون يعتقدون أن موسى دخل مع غلامه تلامسان فاستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، فوجد فيها جدار يريد أن ينقض،«وبنى هذا النبي هذا الجدار دون أن يطلب أي أجر»(ص87)، فإن المغاربة يعتقدون أن مجمع البحرين لن يكون إلا جبل طارق. وقد ذهب ابن كثير في تفسيره لسورة الكهف نفس المذهب. ويعتقد اليهود المغاربة أنى موسى أتى إلى المغرب باحثا عن ماء الحياة في بلاد المغرب.«ويعتقد أهالي زرقط (بالريف المغربي» أن سفينة نوح، قد استوت على أحد جبالهم الذي يسمونه تزغين (تدغين) والذي سماه العرب الكودي (الجودي)» (ص87). وكان المغاربة يعتقدون أن سنة 1000 هجرية يوم القيامة، ونقبل هذا اليوم سيخرج الإمام المهدي ليملأ الدنيا عدلا كما ملئت جورا، حسب الاعتقاد السائد لدى المغاربة وقتها والمسمى حركة الألفية في القرن السادس عشر الميلادي، وسيظهر المهدي «خصوصا في سوس، لكن المغاربيين يتوجهون بنظرهم إلى المغرب أكثر ما يتوجهون إلى المشرق»(ص96).
واسترسل دوتي في سلوكات الصالحين، إذ صنفهم ضمن «الحمقى والأغبياء/ البلهاء، ومن يقوم بتصرفات غريبة ينظر إليهم بكثير من الاحترام الشعبي» (ص97)، ومنهم الزهاد المتقشفون. ومنهم من «كانوا يتمتعون بخوارق ويستطيعون قول أي شيء للسلطان»(ص99). ورغم سلوكات البهاء الشاذة «يتشبث الناس كثيرا بهؤلاء حتى إن غيابهم بعد كارثة أو فاجعة لهم»، يطالب الناس بعودتهم (ص100). ومن الصلحاء المدمنون على الخمر(ص104)، ومنهم الفاسقون كنحو «الشيخ بوتلاس العجوز، وهو شخصية دينية محتلرمة معروفة بالسهولة التي يكتسب بها النساء ويدعوهن»(ص105). ويظهر أن بوتيلاس لقب أمازيغي يطلق على صاحب المناكر. ويضاجع المجاذيب النساء في الشوارع ويغطيهم المارة بالسلاهيم «عند تأديتهم هذا التصرف التقي»(ص106).
واشتهرت النساء في المغرب كما في الجزائر بالصلاح، ونلفى في الميدان قبورهن مبثوثة، ونسجت حولهن أساطير عديد، إلا أن قصص الاعتراف بهن صالحات يختلف من قبيلة إلى أخرى. وفي جميع الأحوال يصعب نعت امرأة بأنها صالحة ما لم تظهر سلوكا ما كنحو أن تكون مسيحية ثم أسلمت، أو تكون قد صنعت فعلا ذا صلة بثقافة الدم، وغير ذلك. و«عرفت عدة نساء بالعلم والصلاح عند العباديين بجبل نفوسة. ولازالت قبور كثير منهن محط زيارات متعددة»(ص109)، فمن ذلك أنه «ينتصب فوق جبل بوزكرة، هذا الجبل الجميل الذي يرى عند خليج الجزائر قبر لالة تيمسكيدة، وهي صالحة مشهورة جدا تقصدها النساء المشتكيات من العقم يطلبن خصوبتها»(ص111).
وتود الإشارة إلى أن لا فرق بين المغرب والجزائر في حقل التبرك والسحر والماورائي. ويسجل هنا ذلك «الربط بين قبور الصلحاء وعيون الماء والأشجار» (118).
وزبدة القول «لا شيء يوضح تغلغل زيارة الصلحاء عند البرابرة المقيمين أكثر من العدد الهائل للصلحاء المدفونين في بعض البلدان. فجبل بني صلاح (قرب البليدة) «غني» بالصلحاء، وكذلك مصلى لالة إما تيفلوت حيث نجد جامعا يقال إنه صالحة مجهولة جعلت بني صالح جعلت بني صالح يتفقون على تسميتها: لالة تاوريرت «سيدة التل»»(ص112). وهناك صالحات تتعاطى الدعارة إذ «كن يزنين بطريقة منتظمة ومتواصلة»(ص116). وحب إدموند دوتي ألا يربط دعارة الصالحات بالفحش المقدس. ومن الصالحات اللائي يحببن ارتداء لباس الرجال (ص119).
وشاع أن لبعض الصلحاء وظائف، من ذلك مثلا قبامهم بالعد، إذ هم يمارسون مهمة القضاء، ذلك أن عامة الناس يعتبرونهم «محسنين حقيقيين» (ص 125)، ويقومون بالصلح إذ لا يصدر الصلح الحكم إلا بعد استنفاد جميع محاولات الصلح، وعندما يحكم حكما أخيرا، على الجميع الانضباط له والقبول»(ص126). ومارس الصلحاء مهمة الزطاطة، حراسة القوافل التجارية وكانت «الزطاطة في المغرب مؤسسة حقيقية، لا يمكن بدونها السفر، والصلحا الذين يمارسونها تتضاعف مداخيلهم»(ص130). ومن الصالحين من امتهن التجارة، واستعملت «اضرحة الصلحاء... مستودعات للسلع»(ص131)، ولم يغفلوا «الاهتمام بالفلاحة وتربية المواشي» (ص132)، و«حولوا أراض غير صالحة للزراعة إلى واحات خضراء»(ص133).
ما كان للصلحاء الوصول «إلى التمتع بهذه الدرجة من السلطة»، لولا التزامهم الحياد «قدر الاستطاعة، فبينما كانت الحروب الدامية تفتك بسكان قراهم، كانوا يرفضون أن ينحازوا إلى جهة دون أخرى»(ص134).
وأقر دوتي في الأخير أن النقط التي جمعها حول الصلحاء لا تمثل «سوى معلومات ناقصة»(ص137) عن مصادر معرفة الفرنسيين «بالإسلام المغاربي، ثم إنها لا تلامس إلا الجوانب الصغيرة من المسألة فالحاجة تقضي دراسة الجوانب الصغيرة من المسألة»(ص137) ، «دراسة وبصورة مطولة زيارة الصلحاء» (ص137) من خلال الوثائق المتوافرة منذ ما قبل التاريخ لأتباع الفكر الديني البربري إلى حدود الوقت الراهن»(ص137).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما الهدف وراء الضربة الإسرائيلية المحدودة في إيران؟|#عاجل


.. مصادر: إسرائيل أخطرت أميركا بالرد على إيران قبلها بثلاثة أيا




.. قبيل الضربة على إيران إسرائيل تستهدف كتيبة الرادارات بجنوب س


.. لماذا أعلنت قطر إعادة -تقييم- وساطتها بين إسرائيل وحماس؟




.. هل وصلت رسالة إسرائيل بأنها قادرة على استهداف الداخل الإيران