الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقد تقاليد الاستبداد في الثقافة السياسية العربية(2) على مثال الحجاج الثقفي

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2018 / 10 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الحجاج - من العدم الى الوجود السياسي

إن ظهور الحجاج من عدم الوجود السياسي الى هرم السلطة الأموية هو التعبير النموذجي عن حالة الانتقال الحرجة والسيئة التي رافقت تحول الدولة ونظامها السياسي من إمبراطورية الروح الإسلامي وفكرة الحقوق الأخلاقية الى سلطة الملوكية القبلية ووثنيتها الجديدة. وهي الحالة التي جعلت من العابرين والطارئين "أبطال" الزمن السلطوي. وفيها ينبغي البحث عن سر صعود الحجاج العنيف واندثاره الأشد عنفا.
ولد الحجاج في أربعينيات القرن الهجري الأول، أي في مرحلة "النبوة" المقلوبة. فقد كان صعود الأموية في العام الأربعين من سيادة الإسلام الروحية والسياسية والدولتية يعكس طبيعة الانحطاط والشرخ الهائل بين التاريخ والدولة. وهو الشرخ الذي جعل من كليب (الاسم الأصلي) بن يوسف الثقفي حجاجا. فالحالة الطبيعية لتاريخه الشخصي لم يكن بإمكانها أن تتعدى المسير الهادئ في الطائف لتعليم الصبيان قراءة القرآن. بمعنى الاستمرار بمهنة أبيه. مع ما يترتب عليه في العرف الديني التقليدي من أجرة وثواب! وقد مارسها الحجاج، على خلاف أبيه، بوصفها مهنة مجبور عليها. لهذا لم تثر فيه شهية الحماسة التي نعثر عليها في ولعه المفرط بالسياسة والحرب والقمع والإرهاب. وهي صفات لا علاقة لها بثقيف. فقد احتوت هذه القبيلة، شأن كل بنية قبلية على إمكانيات متنوعة. لكنها أنجبت ثلاث شخصيات دموية كبرى هي المغيرة بن شعبة الثقفي وكليب بن يوسف الثقفي (الحجاج) ويوسف بن عمر الثقفي وقادة عسكريون قساة مثل محمد بن قاسم الثقفي. وبالمقابل أو بالضد منهم شخصية المختار بن عبيدة الثقفي. وجميعها تتسم بقدر كبير من القسوة المحكومة بقيم مختلفة ومتضادة. وهي قيم لا علاقة لها بثقيف بقدر ما أنها كانت النتيجة المترتبة على حدة وعنف الصراع السياسي الذي شوهه دهاء الأموية وعنفها الغريزي من اجل الاستحواذ على المال والجاه. وهي الصفة المغروسة والمغمورة في مسام الأموية وتقاليدها المروانية والسفيانية القديمة، أي تقاليد الجاه والمال التي كسر النبي محمد شوكتها الأولية دون أن يقتلعها من جذورها. مما جعل من "ثأرها" اللاحق منظومة تقترب من توحيد الإسلام بإفراده لخدمتها!
وهو إفراد استمد مقوماته من الأصول القبلية والعرقية وتقاليد المال والجاه المميزة للأموية. ومنها تراكمت نفسية وذهنية الدهاء السياسي الخالص. وبالتالي إمكانية تطويع واستغلال مختلف القيم، بما في ذلك النبيلة أحيانا لخدمة الغرض الأساسي – إعادة تنظيم الأصول المذكورة أعلاه بالشكل الذي يخدم تفعيلها الدائم وفاعليتها الحاسمة. وهي أصول تطابقت فيها الوسيلة والغاية، بحيث أصبحا في آن واحد آلة وآلهة. مما أدى بالضرورة الى أن يكون تفعيلها وفاعليتها قرضا للجسد واقتراضا للروح من جانب الجميع. وبالتالي فان الانهماك فيها يستلزم في آن واحد الاندماج الفعال في آلتها، والعبودية التامة لآلهتها. أما النتيجة فإنها كانت محسومة شأن الفكرة الجبرية للأموية – العمل من اجل ترميم وديمومة العبودية التامة لأصنام الوثنية الجديدة. وهي المقدمة الفعلية التي تفسر طبيعة "الاختيار" السياسي للشخصيات القادرة على لعب دور السدنة المخلصين للإلهة الجديدة وأصنامها. إذ لم يكن الحجاج استثناءا بقدر ما انه كان الفرد الأكثر فردانية في إفراد كل ما فيه لخدمة الأموية، ومن ثم الشخصية الأكثر "إخلاصا" ونموذجية في تعبيرها عن هذه الحالة الجديدة في صيرورة الدولة.
فالمعلومات التاريخية تشير الى أن أباه كان من إتباع بني أمية. واشترك معهم في الحرب على خصومهم، وبالأخص مع مروان بن الحكم. بينما كانت حياة الحجاج السياسية متوافقة وملازمة لخلافة عبد الملك بن مروان. وهي ملازمة لم تكن معزولة عن انتقال الحجاج الى الشام والالتحاق المباشر بالسلطة الأموية. وهو انتقال لم يكن معزولا عن الصراع السياسي الحاد آنذاك بين الأموية المنحصرة والمحاصرة في دمشق الشام، وبين الحركة الزبيرية التي توسع نطاق الاعتراف بها بوصفها خلافة شرعية على اغلب أمصار الدولة آنذاك.
فقد كانت الطائف في أواخر خلافة مروان بن الحكم وبداية حكم أبنه عبد الملك بن مروان خاضعة لحكم عبد الله بن الزبير. وهو حكم اتسم، رغم طابعه المعارض للأموية، بنفس أمراضها وأخطائها وخطيئتها. وهو السبب الذي يفسر هروب ومعارضة ومصارعة أتباعه الأوائل، الذين انظموا الى الحركة في بادئ الأمر وواجهوها بالعداء العنيف في وقت لاحق. وهي ظاهرة يمكن رؤية ملامحها الدقيقة والواضحة على كافة ممثلي الحركات السياسية والاجتماعية والفكرية الكبرى كما هو الحال بالنسبة للخوارج (وبالأخص الازارقة) والشيعة (وبالأخص المختارية). ومن حصيلة هذه المكونات التي استجابت لشخصية الحجاج النفسية والفكرية والسياسية، يمكن فهم سر انتقاله التام والشامل للأموية. بمعنى التلاقي التام والشامل في إعلاء شأن السلطة واستعمال كل الوسائل من اجلها. وهو الشيء الذي يمكن التحقق منه ببقاء العلاقة المتينة والراسخة بينه وبين المركز الأموي، للدرجة التي يمكن الحديث عن تطابق مطلق بينهما. وهو تحقق يمكن رؤية احد أشكاله النموذجية في وصيته التي كتبها قبل موته عندما جعل من السلطة الأموية بداية الأزل ونهاية الأبد الوجودي بالنسبة له، أما الله ومحمد فمجرد حلقات متممة. فقد كتب في وصيته قائلا بأنه يشهد أن لا اله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، و"أنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك، عليها يحيا وعليها يموت وعليها يبعث"!! وهو موقف يعكس شخصية الحجاج الفعلية، التي وجدت فيها الأموية نموذجها العملي التام. وليس مصادفة أن "يفجع" الوليد بن عبد الملك بموته بحيث نسمعه يقول لمن جاءه يعزيه بفقدان الحجاج :"كان أبي يقول أن الحجاج جلدة ما بين عينيه! أما أنا فأقول أنه جلدة وجهي كله!". وهي الجلدة التي شدت أزر الأموية في أكثر الأوقات حرجا، وظلت الى النهاية أمينة لها بصورة مطلقة. وقابلته بالطريقة ذاتها. فقد كان عبد الملك بن مروان يجل الحجاج ويثق به رغم معرفته بسلوكه العنيف والدموي. وتروي كتب التاريخ كيف أن إبراهيم بن محمد بن طلحة (احد المقربين جدا من الحجاج) سعى كل جهده لكي يستمع عبد الملك بن مروان لرأيه بالحجاج. وحالما وافق عبد الملك، عندها قال إبراهيم بن طلحة:
- تالله يا أمير المؤمنين! لقد عمدت الى الحجاج في تغطرسه وتعجرفه وبعده عن الحق وقربه من الباطل! فوليته الحرمين، وهما ما هما، وبهما ما بهما من المهاجرين والأنصار والموالي الأخيار، يطؤهم بطغام أهل الشام ورعاع لا روية لهم في إقامة حق ولا إزاحة باطل، ويسومهم الخسف، ويحكم فيهم بغير السنّة، بعد الذي كان من سفك دمائهم وما انتهك من حرمهم!
- كذبت! وظنّ بك الحجاج ما لم يجده فيك! وقد يظنّ الخير بغير أهله! قم فأنت الكاذب!
وهو موقف لا علاقة له بالكذب والصدق، لأنه ليس نتاجا لأحكام المنطق، بقدر ما انه محكوم بغريزة السلطة. وهي الغريزة الوحيدة الحية والفعالة والفاعلة في شخصية الأموية والحجاج. ومن ثم، فان شخصية الحجاج هي شخصية الأموية الحقيقية. وكلاهما شيء واحد. بمعنى التقاءهما في الوسيلة والغاية. وهو التقاء محكوم بالنفسية والذهنية التي تجعل من استعمال كل الوسائل أمرا ممكنا ومرغوبا بل وضروريا من اجل المصلحة الخاصة. ولم تكن هناك مصلحة خاصة بالنسبة للأموية غير الجاه والمال. وهي صفة لها تقاليدها الخاصة في العائلة السفيانية – المروانية، وجدت تعبيرها العنيف في مرحلة الخلل التاريخي الذي أحدثته العفانية التي جعلت من الممكن استعادة البنية القبلية وجوهريتها بالمنسبة للتحكم والتسلط. من هنا إعادة تثوير ما دعاه الإسلام بالجاهلية. بمعنى التحرر من فكرة القانون الاجتماعي والحق المجرد والقيم الأخلاقية الكونية. وهو السر القائم وراء قوة التجاذب المتبادل بين الأموية والحجاج. بمعنى الاستعداد للاستبداد و"الإخلاص" له في الحياة والموت والبعث، كما جسدها الحجاج في وصيته المذكورة أعلاه. وهي "وصية" اكتشفت الأموية في شخص عبد الملك بن مروان "ناريها الأبدية" المشتعلة في غريزة الحجاج الفائرة عندما قدمه إليه رئيس شرطته ابن زنباع!
إن انتقال الحجاج الى الشام وانخراطه في سلك الشرطة، في مرحلة تبدل القيم، وانهيار فكرة القانون والشريعة، وسيادة نفسية وذهنية القبيلة وقيم الجاهلية السيئة، يعكس أولا وقبل كل شيء شخصية الحجاج المادية والمعنوية. فقد أعجب به روح ابن زنباع المقرب من عبد الملك بن مروان. واستطاع الحجاج خلال فترة قصيرة من إعادة ترتيب نظام الشرطة وقواعد التزامها بالخدمة. بحيث جعل من الانضباط والحماسة في تنفيذ مهامها مهمته الشخصية. بل جعل منها شكلا من أشكال سريان الوحدة الخفية والعلنية لوحدة السلطة. لهذا نراه يعاقب الشرطة أنفسهم والتابعين منهم لابن زنباع في وقت لاحق بعد تعيينه فيها، بسبب ملاحظته عدم انضباطهم في العمل . وجعل من الانضباط أسلوبا لتجسيد ما يمكن دعوته بقواعد الطاعة التامة لأولياء الأمر. لكنها لم تتحول الى منظومة لأنها محكومة بفكرة الطاعة الشخصية السياسية فقط. بمعنى افتقادها لمعنى الحرية ومنظومة القيم الأخلاقية المحكومة بالقانون. وهي الفكرة التي عبّر عنها الحجاج نفسه عندما اشتكى عليه ولي أمره الأول وصاحب نعمته (روح بن زنباع) إلى عبد الملك بن مروان عما فعله بأفراد شرطته. إذ تروي الحكاية كيف انه أجتاز مرة فسطاط روح بن زنباع وهم يأكلون. فنهاهم فما انتهوا. عندها ضربهم وطوف بهم واحرق الفسطاط. وعندما شكاه روح بن زنباع الى عبد الملك بن مروان، فان الأخير استفسر منه قائلا:
- لم صنعت هذا؟
- لم افعله! إنما فعله أنت. فإن يدي يدك وسوطي سوطك. وما ضرك إذا أعطيت روحا فسطاطين بدل فسطاطه، وبدل الغلام غلامين، ولا تكسرني في الذي وليتني؟
بمعنى تحويل السلطة ومركزيتها الشخصية الى مصدر الحياة والموت، والأخلاق والقانون، والأقوال والأفعال. وهي الصيغة النموذجية للجبرية السياسية التي جعلت من الخضوع للسلطة رديفا للخضوع لله. كما أنها الصيغة التي وجدت في لقاء الحجاج بعبد الملك بن مروان "صدفتها" النموذجية، بمعنى التقائهما في الغاية والوسيلة والمصير الشخصي!
فقد تسلم عبد الملك بن مروان الدولة وهي مهددة بالانحلال. فقد واجه خطر عبد الله بن الزبير الذي كان يسيطر بالفعل على اغلب أمصار الإمبراطورية العربية الإسلامية. بل وأعلن نفسه بعد وفاة يزيد بن معاوية، خليفة للمسلمين سنة 64 للهجرة. ولم يبق سوى الأردن التي ظلت على ولائها للأمويين، وبايعت مروان بن الحكم بالخلافة. حيث استطاع لاحقا استعادة مصر وضمها للدولة الأموية. وعندما استلم عبد الملك بن مروان السلطة، فان المهمة الكبرى بالنسبة له كانت إعادة تثبيت السلطة المركزية وحدة الدولة. وهي المهمة التي شارك فيها الحجاج بحمية مفرطة.
فقد دخل الحجاج الى دهاليز السلطة وأروقتها من خلال جهاز الشرطة، أي احد أحط مؤسسات السلطة الأموية وأكثرها قسوة ورذيلة. وقد لمس فيه روح بن زنباع العزيمة والقوة والصبر. وقدمه إلى عبد الملك بن مروان، الذي كان يتصف بالقوة والمكر السياسي. وقد كان جهاز الشرطة آنذاك يتصف بالترهل والانحطاط! بينما استطاع الحجاج في غضون فترة قصير إعادة ضبطه وتفعيله لخدمة السلطة. وهو الأمر الذي دفع بروح بن زنباع لتقديمه لعبد الملك بن مروان لولاية الشرطة. وتروي كتب التاريخ بهذا الصدد، المحاورة التي جرت بينهما، وكيف أن عبد الملك بن مروان سأله قائلا:
- ليس هناك من احد إلا وهو يعرف عيب نفسه! فصف لي عيوبك!
- أعفني يا أمير المؤمنين!
- لست افعل!
- أنا لجوج لدود حقود حسود!
- ما في إبليس شرّ من هذا!
ومهما يكن من أمر هذه المحاورة، بمعنى دقة حروفها، إلا أنها كانت تعج بالمعنى الفعلي للحجاج الذي كشف عن مكونات العبارة المقتضبة بانقباضه الحاد تجاه كل ما يتعارض مع فكرة العبودية التامة للسلطة. وهي الصفة التي جعلت من شرور إبليس فضائل قديس! وهو تحول وجد انعكاسه السريع والمباشر في تقريب الحجاج من "مركز القرار" السياسي، بعد أن كشف عن موهبته الفذة في تنفيذ كل ما تحلم وترغب السلطة به وتريده. فقد مدّ الحجاج رصيد القوات العسكرية لأهل الشام بسرعة بالغة بعد أن طبق جملة من التدابير القاسية. إذ فرض على كل رجل قادر على حمل السلاح "التطوع" في الجيش! وأمهل الجميع ثلاثة أيام، وما بعدها القتل وحرق البيوت ومصادرة الأموال.
أعطت أفعال الحجاج ثمارها السريعة بحيث جعلته ينتقل بصورة سريعة من جهاز الشرطة الى قائد القوات العسكرية لإحدى أهم المعارك التاريخية السياسية التي كانت تتوقف على نتائجها مصير الدولة الأموية. فبعد انتزاع عبد الملك بن مروان العراق من سيطرة مصعب بن الزبير، جرى تجهيز الحملة للقضاء على مركز الزبيرية في مكة. وهي المهمة التي نفذها الحجاج بحذافيرها. فقد استعاد مكة وقضى على ابن الزبير. وسلك في مجرى صراعه من اجل استرداد الحجاز سلوك الرجل العسكري والسياسي الحازم والمحكوم فقط بفكرة مركزية الدولة والسلطة الاستبدادية. لهذا نراه يضرب الكعبة بالمنجنيق ويحرقها، إي انعدام ما يسمى بالوازع الديني . بل على العكس انه وجد في ذلك تعبيرا تاما عن "الإرادة الإلهية". وحالما أنجز المهمة جرى تعيينه واليا على الحجاز (مكة والمدينة والطائف)، ثم أضاف له عبد الملك بن مروان اليمن واليمامة.


الحجاج- ملاك النقمة الأموية وشيطان استبدادها!

إن إمكانية الحجاج بالنسبة للسلطة الأموية المتمركزة من جديد، والعاتية في انتصاراتها الكبرى، أخذت بالبروز مع صعود قوة الاستبداد فيها. فقد تلمست فيه ملاكها السياسي و"جبرائيل" وحيها الاستبدادي ! فقد كشف الحجاج عن أن النار الابليسية المحترقة فيه لا تحرق غير معارضة السلطة أيا كان معدنها وحجمها، وأنها النار الدافئة التي تعوضها عن برود التعاطف الروحي من جانب الأمة! وهي المعادلة التي جسدها الحجاج حتى موته في العراق، بوصفه مركز المعارضة التاريخية والسياسية والروحية والأدبية للأموية، ومنطلق السيطرة العامة والتامة على ممتلكات الإمبراطورية في آسيا. بمعنى إننا نعثر في هذين الجانبين على وجهين لشخصية الحجاج، بوصفه النموذج الأكثر تعبيرا عن حقيقة الأموية. وليس مصادفة أن يبقيان مترابطين في سلسلة العبودية الذهبية. من هنا الإبقاء عليه مع بقاء الأموية، وانتفاء الحاجة إليه مع زوالها. بحيث لم يبق منها شيئا غير ترسبات الأملاح المتكلسة على حواشي التاريخ والذهنية الخربة والضمير المتهالك وراء جشع الغريزة. من هنا يمكن فهم سر الاعتزاز به من جانب الوليد بن عبد الملك بعد توليه خلافة أبيه عام 86 للهجرة. فقد أبقاه واقره على كل ما كان فيه زمن والده. وليس مصادفة أيضا أن يفجع بموته بحيث نراه يصرخ، بان الحجاج ليس فقط جلدة عينيه، كما كان يقول أبوه عبد الملك بن مروان، بل وجلدة وجهه كله! الأمر الذي جعل الحجاج يستهزأ في حياته بتهديد ولي العهد سليمان بن عبد الملك في حال استلامه الحكم! وهو استهزاء متراكم في مجرى اليقين الفكري والسياسي الذي لازم حياة الحجاج وشخصيته الموالية للسلطة. بحيث وجدت هذه المولاة انعكاسها النموذجي في وصيته التي قال فيها، بأنه لا يعرف غير "طاعة الوليد بن عبد الملك، عليها يحيا وعليها يموت وعليها يبعث!" . كما لو انه يعيد يقين الأنبياء والقديسين عن دنس الأشياء العابرة والنزوات الصغيرة وملهاة الحياة وما فيها. وهو وصف لا يخلو من دقة فيما يتعلق بالحجاج، الذي تجرّد عن كل شيء باستثناء حب السلطة والاستعداد الدائم لخدمتها بكلّه، بحيث لم يبق فيه شيئا لغيرها! من هنا يمكن فهم سرّ ردوده الجريئة والمتيقنة تجاه "الرحمة الأبدية" له ولأعماله. وهو يقين ينبع من طبيعة التماهي بين السلطة والله. فالعبودية لله هي عين العبودية للسلطة. لها نراه يجيب على سؤال وجه إليه قبيل موته:
- ألا تتوب؟
- إن كنت مسيئا فليست هذه ساعة التوبة، وان كنت محسنا فليست هذه ساعة الفزع!
وأكمل أجوبته هذه بعبارة قال فيها "اللهم اغفر لي! فان الناس يزعمون انك لا تفعل!" . بل وينسب إليه تمثله ببيتين من الشعر:
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا
إيمانهم إني من ساكني النار
أيحلفون علي عمياء؟! ويحهم!!
ما ظنهم بعظيم العفو غفار!!
وهي صيغة نموذجية معبرة عن شخصية الحجاج، أي الإيمان الجازم بصحة وسلامة ما فعل. والبقاء حتى الرمق الأخير وفيا لنفسية وذهنية الاستعداد للاستعباد والاستبداد.
فقد توفي الحجاج عام 95 للهجرة . وما بعدها لم يكن "تاريخه" غير حالات الانتقام والهجران في الوعي النقدي والضمير الأخلاقي والوجدان الصادق. وليس مصادفة أن يتلاشى قبره في واسط العراق وتبقى ذكراه باعتباره النموذج التام للرذيلة السياسية والأخلاقية. وهي الحالة التي شاركتها أيضا بعض مراحل الدولة الأموية عندما كانت تخرج بصورة نسبية على نفسية وذهنية الأموية، كما هو الحال في زمن سليمان بن عبد الملك وخلافة عمر بن عبد العزيز. إذ تنسب لسليمان بن عبد الملك (96-99 هجرية) انه سال مرة كاتبه يزيد بن أبي مسلم:
- أتظن أن الحجاج استقرّ في قعر جهنم أم انه يهوى فيها؟!
- يا أمير المؤمنين! إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أخيك وأبيك، فضعه من النار حيث شأت!
وهي إجابة لا يرتقي إليها من حيث الصيغة والمعنى والرمز والباطنية الجميلة غير مواقف وتقييم الخليفة عمر بن عبد العزيز إياه. فقد استكمل عمر بن عبد العزيز ما بدأ سليمان بن عبد الملك. ولكل منهما أسبابه الخاص. فقد كان سلوك سليمان لا يخلو من نزعة انتقام شخصية. لهذا نراه يأمر بسبه على المنابر. وعندما امتنع خالد بن عبد الله القسري، أحد ولاة العراق الحجاجيين، عن سبّه وذّمه أرسل عليه سليمان يأمره بذلك، فتكلم على المنبر قائلا: "إن إبليس كان من الملائكة ففسق! وكذلك الحجاج!". وهي الأخرى صورة بليغة، والوجه الآخر لتقاليد النزعة الاستبدادية وانحطاط الروح الأخلاقي المميز للنخبة العائمة في زبد الأموية، والسائبة في سديم الخوف المرعب من معنى الحرية وفكرة الحق، التي وجدت في شخصية الحجاج نموذجا لحقيقة الإسلام! كما قال مرة احدهم: "من خالف الحجاج فقد خالف الإسلام" . وهو إسلام عبودي، أي لا يأخذ منه سوى غلاف العبارة الميت. مع ما يترتب عليه من تحويل الإسلام الى إذعان بلا عقل، وخضوع بلا قلب، واستسلام بلا ضمير. لكنه، شأن كل ما هو عابر بمعايير الحق والحقيقة، سرعان ما يندثر بوصفه ذرة في غبار الزمن، وسراب في خيال الأشباح. وهو سراب بدد كثافته المتبقية بعد موت الحجاج سلوك رجال الدولة الأموية.
إذ لم يكتف سليمان بن عبد الملك بسب الحجاج وشتمه على المنابر بل وأمر عامله على الطائف بقتل آل أبي عقيل، لا لشيء إلا لأنهم من أقرب الناس إلى الحجاج. وهي مواقف تممها الخليفة عمر بن عبد العزيز بطريقته الخاصة. فقد كان عمر بن العزيز يعارض ويندد بسلوك الحجاج أثناء حياته.
غير أن موقعه ومكانته ووظيفته في السلطة آنذاك لم تسمح له بتغيير شيئا ما يذكر بهذا الصدد. لكن الروح الأخلاقية تبقى أيضا وفية للقصاص بالقدر الذي لا يتعارض مع ثوابت الفكرة المتسامية ورؤيتها الشخصية. الأمر الذي ميز مواقف وتقييم وسلوك عمر بن عبد العزيز تجاه "بقايا" الحجاج في الذاكرة والواقع من خلال اقتلاع بقاياه بالقدر الممكن. فقد نفى أسرة الحجاج الى اليمن وكتب إلى واليها يقول "أما بعد، فأنني بعثت في عملك قدر هوانهم على الله" . بينما نراه يعزل أحد عماله بعد أن علم بأنه قد سبق وأن عمل مع الحجاج. وعندما قال له الرجل:
- إنما عملت له على شيء يسير.
- حسبك بصحبته يوما أو بعض يوم شؤما وشرا! ً.
في حين وضعته تقاليد الذاكرة الشعبية في إحدى أرذل الشخصيات المتخيلة في قصة (نعم ونعمة) من قصص ألف ليلة وليلة. وما بينهما ترامت مختلف الآراء والتقييمات والأحكام والمواقف منه. فقد وضعته تقاليد الحديث تحت أسم المبير، أي الظالم والمستبد . بينما كفّره جمهرة من رجال الورع والزهد الإسلامي مثل مجاهد وعاصم والشعبي وسعيد بن جبير. وهي أحكام ليست معزولة عن مواقفهم السياسية، أي عن حقيقة الرؤية الإسلامية التي لا تعزل فكرة الإيمان عن قيم العدالة والحق والحقوق. وهي قيم لم يجرؤ أحدا على انتهاكها بالقدر والحجم والكمية والنوعية في تاريخ الإسلام أكثر من الحجاج. وليس مصادفة أن يقول الحسن البصري بعد سماعه بموته: "اللهم عقيرتك! أنت قتلته! فاقطع سنّته! وأرحنا من أعماله الخبيثة"، بل ودعا عليه . بينما نرى موقفه من الحجاج أشد وضوحا في معرض إجابته على إحدى الحالات النموذجية التي استتبعت موته في العراق. فقد حلف رجل بالطلاق قائلا: "إن الحجاج في النار". فلما جاء إلى امرأته، فإنها امتنعت عن العيش معه. وعندما ذهب للحسن البصري يستفتيه في أمره، فأجابه الحسن البصري: "إذا لم يكن الحجاج من أهل النار، فما يضيرك أن تكون مع امرأتك على زنى!". وهي المرة الوحيدة التي ينطق بها الحسن البصري بهذه الطريقة الجازمة التي جعل من نفسه فيصلا نهائيا وناطقا بالحكم "الإلهي". لقد وجد في الحجاج تجسيدا تاما ومطلقا للرذيلة، بحيث جعله يستغرب التشكيك بالحكم المتعلق بضرورة العقاب الأبدي للحجاج في الجحيم. وبغير ذلك تصبح جميع الرذائل مباحة! وقيل أيضا، بأنه حالما بشروا حماد بن أبي سليمان بموت الحجاج، فانه سجد وبكى من الفرح. الأمر الذي جعل حماد يقول: "ما كنت أرى أحد يبكي من الفرح" .
من هنا يمكن فهم أحد البواعث التي جعلت ابن عبد ربه يفرد في كتابه (العقد الفريد) فصلا بعنوان (من قال إن الحجاج كان كافرا) استعرض فيه أقوال مختلف الشخصيات الإسلامية الفكرية والفقهية. بينما أجاب الشعبي على سؤال وجه إليه مرة :
- أكان الحجاج مؤمنا؟
- نعم! بالطاغوت!
وقال عنه أيضا "لو جاءت كل أمة بخبيثها وفاسقها، وجئنا بالحجاج وحده لزدناه عليهم" . وأطلق عليه الدميري عبارة "اللعين الحجاج! أخزاه الله وقبّحه" . بينما قال عنه ابن عبد البر: "لا يؤثر حديثه، ولا يذكر بخير لسوء سره وإفراطه في الظلم" . وقد يكون التقييم الذي رسم الذهبي ملامحه الأكثر دقة بهذا الصدد. فقد كتب بهذا الصدد يقول: "أهلكه الله كهلا! وكان ظلوما جبارا ناصبيا سفاكا للدماء. وكان ذا شجاعة وإقدام وكر ودهاء" . وتكلم الذهبي عما اسماه بسوء سيرته في حصاره لابن الزبير بالكعبة ورميه إياه بالمنجنيق وإذلاله لأهل الحرمين ثم ولايته على العراق والمشرق عقدين من الزمن وحروبه مع ابن الأشعث وتأخيره للصلوات الى "أن استأصله الله! فنسّبه ولا نحبه! بل نبغضه في الله، فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان. وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه" .
وقد تحول هذا الكم الهائل من التقييم النظري الرفيع إلى مسند الخيال الشعبي والأدبي الذي وجد أحد نماذجه الرفيعة في قصة (نعم ونعمة) ودخولها مسرح الذاكرة الفعالة في (ألف ليلة وليلة). بحيث أصبحت سمير الأسمار واللعنة التي ترافق ضحك الأطفال وشماتة الرجال وحقد النساء وغضبهن! فهي القصة التي تصوره رجلا غشوما ظلوما سارقا قاسيا عبدا للسلطة وفاقدا للضمير والوجدان أمام رغبة السلطان وغرائزه. لقد حولت قصة (نعم ونعمة) الحجاج الى نقمة وصبت عليها جام غضبها من خلال تطويع كل إمكانيات الخيال الشعبي. فبالقدر الذي استعمل كل الأساليب الدنيئة لاختطاف نعم من زوجها نعمة وتسليمها إلى عبد الملك بن مروان، فإنها استطاعت أن تبعثه في حبكة القصة بالاقتصاص منه من خلال جعله مرافقا طائعا وعبدا ذليلا للرهينة التي احتال من اجل اقتناصها والتقرب بها إلى مالكه عبد الملك بن مروان! فقد اشترطت المرأة من عبد الملك أن يكون الحجاج مرافقا وقائدا لبعيرها. وهي القصة التي تروي مختلف أصناف الاحتقار والتهكم به، التي يتقبلها الحجاج بوصفها جزء من مظاهر العبودية للسلطة. وهي مظاهر يجري تتويجها بالحادثة الطريفة التي تروي كيف أن المرأة (نعم) حالما وصلت من بلدتها الى قصر الخليفة رمت دينار على الأرض وقال للجمّال (الحجاج):
- يا جمّال! سقط مني درهم!
- هذا دينار!
- بل هو درهم!
- بل هو دينار!
- الحمد لله الذي عوّضنا بالدرهم دينارا! ناولني إياه!
بعبارة أخرى، إننا نقف أمام حبكة قصصية تسرد بطريقتها الخاصة رغبة الانتقام الأبدية من الحجاج. ومن ثم لم يكن دخولها (ألف ليلة وليلة) سوى الصيغة الأدبية للرغبة الجامحة في الإبقاء على صورته الخبيثة حية في الخيال والضمير والوجدان المعذب من ذكراه المريرة. لقد ادخله الوعي العراقي في قرآنه القصصي وجعله في متناول الشماتة النقدية والسخرية الجليلة والاستهزاء الذي لا يخلو من حقد النساء الجميل، أي جمعه لكل المكونات الضرورية لتفعيل ذاكرة الانتقام التاريخي الحي.

الحجاج – مهندس القهر والإذلال

لم تكن مآثر الحجاج الفعلية سوى "حسنات مغمورة في بحر ذنوبه"، كما قال الذهبي. فقد اشترك الحجاج بصورة فاعلة وقوية في توسيع جغرافية الإمبراطورية الأموية. حيث أرسل قتيبة بن مسلم الى خراسان عام 85 للهجرة ومنها استمر في فتح مدن بلخ وبيكند وبخارى وشومان وكش والطالقان وخوارزم وكاشان وفرغانه والشاس وكاشغر، بحيث بلغ حدود الصين. وهي المهمة التي استكملها من خلال إرساله الفتى المقدام والقائد الشجاع محمد بن قاسم الثقفي (في العشرين من العمر) لفتح بلاد السند (الهند) واستطاع خلال أربع سنوات (89-95) من فتح مدن وادي السند. وهي فتوحات جعلها الحجاج أسلوبا لتأجيج المنافسة بين قتيبة بن مسلم ومحمد بن القاسم، عندما وعد كل منهما بالإمارة على ما يحتله، وبالأخص إمارة الصين.
وفي مجال العمران المدني، فقد حفر الأنهار مثل نهر النيل (من الفرات) عند مدينة بابل، ونهر الصين (من دجلة). كما بنا المدن مثل مدينة النيل، ومدينة واسط، التي جعلها بين البصرة والكوفة. كما بنا الجسور والصهاريج لحفظ مياه الشرب، وكذلك حفر الآبار لوفير المياه للمسافرين. كما قام بإنشاء مختلف مشاريع الري والزراعة من اجل مواجهة القحط وآثار الجفاف، بطريقة تربط المدن بالأرياف. كما يعود إليه تنظيم منظومة الإشارات الضوئية والخبرية على الحدود. فقد كان يستعمل النار ليلا الدخان نهارا بين مختلف المناطق الممتدة من بحر قزوين الى عاصمته واسط. كما ضرب بقوة على أيدي اللصوص وقطاع الطرق وتشدد في متابعة من يعينهم في مناصب السلطة. كما قام بجملة من الأعمال المهمة في ميدان تنظيم الحياة العادية والمدنية مثل نظافة المدن حيث منع التغوط والتبول والتمخط في شوارع عاصمته، وقام بتطهيرها من الحيوانات السائبة ومنع بيع الخمور. بل وتدخل في تنظيم بعض العادات والأعراف، مثل منعه النوح على الموتى في البيوت. والشيء نفسه يمكن قوله عن محاولاته توحيد قراءة القرآن. حيث تنسب إليه تنفيذ مهمة تنقيط حروف القرآن بوضع علامات الإعراب على الكلمات .
إننا نعثر في كل هذه الأعمال على هاجس الوحدة والإخضاع من خلال تنظيم الحياة والتحكم بها. بمعنى أنها ليست أسلوب تنظيم الحرية بل قمعها. وإذا كان مظهرها يسير باتجاه "قمع الفتن"، فان حقيقتها تقوم في توسيع مداها من خلال جعل الخضوع للسلطة المستبدة قيمة عليا. وهو عين التخريب والخراب الذاتي للروح والجسد، والفرد والجماعة، والأمة والثقافة، والدولة والحكومة. وذلك لان حقيقة الفتنة ومصدرها لم تكن في موجات التمرد والانتفاض التي قامت بها مختلف حركات المعارضة للأموية، بقدر ما كانت تكمن في الأموية نفسها. فقد كانت الأموية هي مصدر الفتن وقامعها، أي "محييها ومميتها". وهي دورة لا تنتج غير العبث والخراب. وهي الحالة الرمزية التي يمكن رؤية ملامحها في بنائه لمدينة واسط. فقد بناها متوسطة بين البصرة والكوفة، أي بين بؤر المعارضة الأبدية للأموية. والشيء نفسه ينطبق على كل "مآثره" الأخرى.
فقد كانت جميع "مآثر" الحجاج تهدف الى تنظيم قبضة السلطة واستحكامها في كل شيء. وفيها كانت تكمن مفارقة "مآثر" الحجاج. وهي مفارقة تكمن في عيش الحجاج وفعله بمعايير زمن السلطة وليس تاريخ الحق والعدالة. وهو السبب الذي أعطى لكل ما أراد قوله وفعله معنى مشوها ومخربا لحقائق الروح ومرجعيات تراكمها في العقل والوجدان والخيال والحس السليم . وهو الأمر الذي جعل من أول مآثره الفعلية وآخرها أسلوبا لتهشيم وحدة التاريخ الثقافي والروحي وفكرة الدولة. وهو الحكم الذي ينطبق بالقدر نفسه على "بلاغته" الخطابية. فقد كانت الخطابة والبلاغة جزء من تقاليد العرب الجاهلية. وتميزت الطائف بقدر كبير منها . فقد نشأ الحجاج في الطائف المعروفة بصلتها الوثيقة بقبيلة هذيل، التي كان شائعا عنها بأنها من أفصح قبائل العرب. وضمن هذا السياق يمكن فهم تقييم الحسن البصري لبلاغته عندما قال مرة "ما سمعت الحجاج يخطب إلا وظننت أن أهل العراق يظلمونه". وهو حكم الظن لا غير. والشيء نفسه يمكن قوله عن العبارة التي نطق بها مرة أبو عمر بن العلاء "ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج". أما في الواقع فليس في بلاغة وفصاحة الحجاج شيئا غير فصاحة اللسان. وهو لسان بلا قلب، من هنا أثرها المدمر، لأنها لا تثير في الوجدان غير حمية الغريزة ولاستخفاف بالقيم الإنسانية الكبرى. أنها بلاغة العبارة القاتلة، ومن ثم فإنها تقترب من معنى "الفصاحة" اللغوية الخالية من سمو الروح والعقل. وبالتالي عجزها عن إبداع بلاغة العقل والوجدان ووحدتهما الضرورية بوصفها مقدمة الحد البليغ، أي مصدر البلاغة الفعلية القادرة على إنعاش الروح والجسد، والمنطق والخيال. وهي حالة ليست معزولة عن شخصية الحجاج السياسية وطبيعة الانتقال العاصف من إمبراطورية الخلافة الثقافية (الإسلامية) الى إمبراطورية الدولة القبلية (الجاهلية). فقد كان كلاهما من "مآثر" الزمن الأموي، أي زمن الانتقال من فكرة الحق والمنظومة الى فكرة القهر المشئومة. وهي رذيلة الزمن الأموي وثمرته المرة. مما جعل من ميراث الحجاج السياسي احد النماذج المروعة للقمع السافر وأكثرها ترديا ودناءة وانعدام للمروءة والقيم المتسامية . وهو الأمر الذي جعل من الحجاج نموذجا لا يقارن في مجال انسلاخ الكينونة الإنسانية وتناسخها في غريزة الجسد. من هنا تحوله الى احد الأشباح المريعة للذاكرة والقيم والأخلاق والحق. مما جرد وسلخ قيمة "المآثر" المادية والمعنوية المحتملة في ظهوره الأول للوجود. فقد كان الحجاج نموذجا للعدم الثقافي والأخلاقي. ومن ثم لم تكن "مآثره" العديدة أكثر من أداة في ترسيخ وتثبيت قيم العنف والاستبداد.
فقد كانت شخصية الحجاج محكومة من ألفها الى يائها بأخلاق السلطة المستبدة وليس بالقانون ولا حتى بالأعراف. ومن ثم لا علاقة لها بحقيقة الإسلام الأول. لقد كان قانونها الوحيد الثابت هو ثبات السلطة وحقوقها التامة في الاستبداد. وهو تحول حالما استحكم في رؤية الدولة والسلطة وأشخاصها، فانه أدى الى احتقار كل ما من شأنه أن يقترب من المساس بها. وهي حالة صنعت خدمها وعبيدها وسدنتها ومداحيها وجلاديها، التي وجدت في الحجاج احد نماذجها الصارخة. ويكفي المرء استعراض مواقفه من المعارض لكي توضح هذه الصورة المنفرة للحس والعقل والذوق. وقد تكون حربه التي خاضها ضد عبد الله بن الزبير ونتائجها احد الأمثلة النموذجية بهذا الصدد. وهي حرب تعكس البؤرة المعقدة لنفسية وذهنية الاستبداد التي أخذت تتفتح عن كمونها الداخلي. لاسيما وأنها كانت الاختبار التاريخي الأكبر لشخصية الحجاج ومفتاح دخوله بواب الأموية الكبرى. وإذا خذنا بنظر الاعتبار توليه لهذه المهمة وهو في عمر لا يزيد على اثنتين وثلاثين سنة، فمن الممكن توقع عنفوان وهياج الجسد على نار النفس الغضبية لغريزة السلطة والعبودية لها. فقد كان احتلاله لمكة والعبث فيها وقتل كل ما ولت إليه يداه تعبيرا عن سيادة أخلاق السلطة المستبدة والمحررة من قواعد القانون وقيم الأعراف. من هنا استعماله لكل الوسائل المتاحة. ولم يقف الحجاج أمام وساوس الضمير وهواجس الوجدان وشكوك العقل وتأمل البصيرة فيما كان يسعى إليه. وهو الشيء الجلي على مثال تمثيله بعد الله بن الزبير. فقد علقه على جذع محاط بالقمامة. وعندما تناهت الى أسماعه ما قاله عبد الله بن مر في اعتراضه على ما قام به الزبير ودعوته إياه لترك معارضة السلطة، ورفعه من شأنه بوصفه صواما قواما ورعا، نرى الحجاج يأمر بإنزاله من الجذع ورميه في مقبرة اليهود! وهو انتهاك لأبسط الأعراف، لكنه يستكمله بدعوة أمه أسماء بنت أبي بكر. وعندما رفضت الحضور بين يديه نراه يخاطبها عبر رسوله بعبارة "لابعثن إليك من يسحبك بقرونك". وعندما رفضت القدوم عليه قائلة "والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقرون رأسي"، نراه يسرع إليها ويخاطبها في أول لقاء بها بعبارة:
- كيف رأيت ما فعل الله تعالى بابنك عدو الله الشاق لعصا المسلمين المفني لعباده والمشتت لكلمة أمة نبيه
- رأيته اختار قتالك فاختار الله له ما عنده إذ كان إكرامه خيرا من إكرامك! ولكن يا حجاج بلغني أنك تنتقضني بنطاقي هذين، أو تدري ما نطاقاي؟! أما النطاق هذا فشددت به سفرة رسول الله يوم غزوة بدر، وأما النطاق الآخر فأوثقت به خطام بعيره. فقال لي رسول الله أما إن لك به نطاقين في الجنة، فانتقصت علي بعد هذا. ولكن لا أخالك يا حجاج! أبشر! فإني سمعت رسول الله يقول "منافق ثقيف يملأ الله به زاوية من زوايا جهنم يبيد الخلق ويقذف الكعبة بأحجارها ألا لعنة الله عليه" !
وليس مصادفة فيما يبدو أن تشتهر القصة التي تروي عن عبد الله بن الزبير خوفه من أن يجري التمثيل به بعد قتله، وإجابة أمه إياه، بان الشاة الميتة لا يؤلمها السلخ! فقد كانت هذه الحادثة وأمثالها العديدة احد مظاهر الاحتقار التام لفكرة الحقوق، وأحد الأمثلة النموذجية على انتهاك ابسط الأعراف. أما بعد القضاء على ابن الزبير، فان سبيكة الاحتقار الفعلي لفكرة الحق والحقوق والانتهاك السافر للأعراف قد أدت الى بروز وتكامل شخصيته القمعية بوصفها الصورة التامة لباطن الأموية وظاهرها السياسي والأخلاقي. وهي الصورة التي وجدت تجسيدها الخالص في الرفض التام والقاطع لأية معارضة، أيا كان شكلها وحجمها ومستواها، للسلطة أو الاختلاف معها حتى بالهواجس والوساوس. من هنا يمكن فهم سر تحول قتل المعارضة والقضاء المبرم علي أي مظهر من مظاهرها الى شعار الدولة وأولويتها.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الخبز يعيد بارقة الأمل الى سكان غزة | الأخبار


.. التصعيد الإسرائيلي الإيراني يضع دول المنطقة أمام تحديات سياس




.. العاهل الأردني: الأردن لن يكون ساحة معركة لأي جهة وأمنه فوق


.. هل على الدول الخليجية الانحياز في المواجهة بين إيران وإسرائي




.. شهداء وجرحى جراء قصف قوات الاحتلال سوق مخيم المغازي وسط قطاع