الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نهاية نموذج الوطنية الديمقراطية؟

ياسين الحاج صالح

2018 / 10 / 13
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


أخذت الوطنية الديمقراطية تظهر كنموذج مرشد (بارادِغم) للعمل السياسي في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين، لتشغل الموقع "التقدمي" الذي كان يشغله قبلها النموذج القومي الاشتراكي. كان هذا الأخير يعني تركيباً بين القومية العربية المتطلعة إلى الوحدة العربية والمناضلة ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية، وقد كانت مهيمنة بين خمسينات القرن العشرين وسبعيناته، وبين الاشتراكية التي تناضل ضد البرجوازية والتبعية، وكانت بدورها في هيمنة عالمية في الفترة نفسها. الناصرية والبعث وجبهة التحرير الجزائرية والحزب الاشتراكي اليمني ومنظمات هناك وهناك تندرج ضمن هذا النموذج الأخير، تيعمل على بناء الاشتراكية بالاعتماد على الدولة وعلى حزب قائد يسيطر عليها، فيجري إصلاح زراعي وتُؤمم مصانع وشركات ويعمم التعليم، ويُحارب الإقطاع والبرجوازية، أي الطبقات النافذة التي كانت تجمع بين الرجعية الاجتماعية والاقتصادية وبين كونها ركائز للتبعية للامبريالية.
في فكرة الاشتراكية عنصر دولتي قوي، كان مناسباً لترسيخ دول فتية، كان في القومية العربية ما ينكر على تلك الدول شرعية الوجود. ورغم هذا التناقض كانت الدعوة القومية العربية إيديولوجية مشرعة لسلطة أطقم شابة أخذت تدير الدولة، وتعفيها في الوقت نفسه من المضمون الحقيقي للفكرة القومية: بناء الأمة، أي صنع الشعب الموحد، و"تحطيم الأطرالاجتماعية ما قبل القومية" كالطائفية والعشائرية، بعبارة ياسين الحافظ، فضلاً عن العلمانية وتحجيم السلطة الدينية. أخذ النموذج بالتداعي بعد كارثة حزيران، ثم خسارة تشرين الأول 1973، وتحول الدولة القومية الاشتراكية إلى دولة حكم استبدادي فردي، يتوافق دوامه مع رعاية الطائفية بالأحرى وليس مع اضمحلالها. لم تخرج فكرة الوحدة العربية من التداول نهائياً في سبعينات القرن العشرين، لكنها لم تعد فكرة طليعية وموجهة للعمل. كما لم تسحب من التداول فكرة الاشتراكية، بل والشيوعية، لكن أخذ يظهر أكثر وأكثر أنها غير "مطابقة". كان من موضوعات النقاش في الأوساط الماركسية وقتها أن نوعية "المهام" الواجب إنجازها تحددها "المرحلة التاريخية" و"الواقع الموضوعي" وليس التكوين الذاتي للمناضلين. والمعنى أن الشيوعي يمكن ويجب أن يناضل من أجل الديمقراطية كضرورة تاريخية، وليس حصراً من أجل الاشتراكية فالشيوعية، على ما يقضي ولاؤه الشخصي.
لم تكن الأحزاب والمنظمات الشيوعية في متن النموذج القومي الاشتراكي، لكنها كانت الأشد تماهياً بنموذج دولي منازع على السيطرة والهيمنة عالمياً وقتها، الشيوعية، أمد قوميتنا الاشتراكية بالإلهام. أما النموذج الوطني الديمقراطي فقد تولد عبر النضال السياسي والإيديولوجي لمثقفين وتنظيمات تشغل ضمن الطيف الشيوعي مواقع منشقة، وليس بحال على يد ممثلين فكريين أو سياسيين لبرجوازية قديمة. الوطني هنا ليس في تقابل استبعادي مع القومي (العربي، بطبيعة الحال)، بل مع ما دون الوطني من طوائف وعشائر وروابط أهلية. الطائفية لم تكن موضوعاً للتفكير في زمن هيمنة القومي الاشتراكي، كانت بالأحرى موضوعاً مُحرماً، ولم تدخل كموضوع أساسي في حقل التفكير إلا في زمن صعود وهيمنة الوطني الديمقراطي.
الخصم في نموذج الوطني الديمقراطي هو الاستبداد الدولتي الذي كان يطور في العراق وسورية، وفي ليبيا ومصر، وفي السودان وتونس، فضلاً عن السعودية التي جرى تحطيم ما كان بقي فيها من منظمات سياسية واجتماعية في عهد الملك فيصل، أقول كان الاستبداد الدولتي يطور خصائص بالغة العدوانية، دراكولية بالفعل في دولتي البعث: سورية والعراق. والمطلب هو الديمقراطية التي تعني حياة سياسية قائمة على التعدد، وذلك في إطار الدولة القائمة التي من شأن الديمقراطية أن تحصنها ضد العدو الإسرائيلي وغيره، فمن ليس حراً لا يمكن أن يكون محرراً، على ما أخذ يدخل التداول من حجج داعمة. وهنا أيضاً لا تتقابل الديمقراطية تقابلاً استبعادياً مع الاشتراكية، لكنها أقرب إلى هذا التقابل مع الشيوعية التي لم تتأخر على كل حال في الدخول في مرض موتها في ثمانينات القرن العشرين.
وينظرة راجعة، يبدو أنه جرى تحول باراديغمي خلال نحو عقد من السنين، قامت بدور جسر العبور فيه من القومي الاشتراكي إلى الوطني الديمقراطي فكرة "أزمة حركة التحرر العربية"، التي كان تصورها يشمل "الأنظمة التقدمية" ومنظمة التحرير الفلسطينية، والمنظمات التقدمية والأحزاب الشيوعية العربية. هذا الأخيرة كانت بدورها تدخل في أزمة وانقسامات على خلفية مركبة من أزمة الشيوعية العالمية المتصاعدة منذ سبعينات القرن الماضي (الركود البريجنيفي الشهير) وأزمة بلداننا المركزية بعد هزيمة حزيران. ومن بين هوامش التيارين المتأزمين، القومي والشيوعي، ظهرت فكرة الديمقراطية كأرضية لاستقلال هذه الهوامش وكحل متصور لأزمة "حركة التحرر العربية". لقد اجتاجت الديمقراطية إلى توسيغ ذاتها بداية من خارجها بوصفها البيئة المثلى لتحقيق أهداف تنحدر إلينا من القومي الاشتراكي الذي فشل في تحقيقها، هذا قبل أن تعتبر هدفاً بحد ذاته في تسيعنات القرن الماضي وما بعد.
في سورية تجسد ظهور نموذج الوطني الديمقراطي في تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي عام 1979، وقد تكون من تنظيمات يسارية ماركسية وقومية عربية، نناضل من أجل إعادة السياسة إلى البلد الذي وقع في قبضة نظام استبدادي قمعي، وكان يختزل أكثر وأكثر في حافظ الأسد. وفي فلسطين أسس عزمي بشارة في أواسط التسعينات (أي بعد الانتفضة الأولى واتفاق أوسلو) التجمع الوطني الديمقراطي الذي يتطلع إلى إعادة بناء الهوية الوطنية لفلسطينيي 1948 وعلى أرضية يضع قمعها الاحتلال الإسرائيلي في مناقضة مستمرة لإدعائه الإيديولوجي. وفي الفترة نفسها تقريباً تأسس في الجزائر حزب بالاسم نفسه. في مصر كان حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي الذي تشكل في سبعينات القرن الماضي يشغل موقعا مناظراً للتجمع الوطني الديمقراطي في سورية، ويحمل حساسية سياسية ومخيلة سياسية مماثلة، وإن لم يحمل كلمتي الوطني والديمقراطي في اسمه. الواقع أن الحزب الوطني الديمقراطي كان اسم حزب حسني مبارك (تأسس في أيام حكم أنور السادات، عام 1978)، وفي الاسم تباعد عن القومي والاشتراكي الذين صارا يرمزان للناصرية.
يفترض النموذج الوطني الديمقراطي دولة قمعية، تصادر الحريات الأساسية والسياسية، وتتسبب في تدهور "الاندماج الوطني" في ظلها، كما تضعف بلداننا في مواجهة أي أعداء خارجيين. وقد يطلق على التغير السياسي الذي يقود إلى تحقق النموذج الثورة الوطنية الديمقراطية، وفي وقت لاحق التغيير الديمقراطي أو التحول الديمقراطي، وتظهر الفوارق الاصطلاحية بصورة غير مباشرة تحول الديمقراطية من سجل شيوعي إلى سجل أكثر ليبرالية. ويفترض بالتغيير الديمقراطي أن يفتح الباب لحياة سياسية قائمة على الاستيعاب والتعددية، بما يطوي صفحة نظام الحزب الواحد وعبادة الشخصية وأحوال الاستثناء، ويؤسس لآليات تغيير ذاتية تعتمد على الانتخابات الحرة الدورية، فضلاً عن كفالة الحريات العامة وحكم القانون.
في سنوات هيمنة نموذج الوطني الديمقراطي بين ثمانينات القرن العشرين والثورات العربية وقعت تحولات كبيرة في حقل الدولة لا يبدو أنه أُخذ علم جدي بها في أوساطنا، الوطنيين الديمقراطيين. أبرزها خصخصة الدولة ونزع صفتها العامة والوطنية. نزع الصفة الوطنية لا يعني حتماً ومباشرة تبعية الدولة لقوى أجنبية، لكنه لا يستبعد ذلك على ما أظهر النظام السوري بالتوازي مع ترسخ تكوينه السلطاني، بخاصة بعد التوريث عام 2000. الدولة المخصخصة تستخدم قضايا الأمن الوطني لانتزاع مساحة استقلال واسعة عن محكوميها وحرمانهم من السياسة، وتستخدم مخاطر الحرب الأهلية وانهيار الدولة لتوسيع مساحة مناورتها مع القوى الدولية النافذة. هذه الدولة صارت ركيزة التبعية للنظام الدولي في زمن "الحرب ضد الإرهاب". وهو ما وفر الغطاء الكافي لنزعات إبادية تسير يداً بيد مع تطلع الدولة المخصخصة الأبدي. إنها دولة حرب بالتناسب مع كونها دولة خاصة، وليست دولة سياسة أو دولة عامة ووطنية.
ومنذ ثمانينات القرن العشرين توافق تكوين دولة الأبد مع ظهور الإسلاميين كـ"معارضة موضوعية" أو "نوعية" للنظام، أعني المعارضة التي تتواطأ الظروف على دفعها إلى الصدارة، بينما تهزل المعارضة الذاتية التي تحفزها اعتبارات "كمالية" تتصل يحس العدالة ونداء الحرية ومطلب الكرامة... (تنظر في هذا الشأن مقالتي المعارضة الموضوعية: التشكيلة السياسية والتغير السياسي).
وتتراكب معظم سنوات نموذج الوطني الديمقراطي مع سنوات ظهور الإسلاموفوبيا دولياً بعد انطواء زمن الحرب الباردة، وهو ما شكل في إقليمنا سنداً للدول التي تستبعد الإسلاميين وغير الإسلاميين، أياً تكن درجة خصخصة هذ الدولة وأبديتها وإباديتها، وذلك على حساب المجتمعات والمعارضات، الموضوعية منها والذاتية. التغيير صار مسألة دولية على نحو يظهره المثال السوري جيداً، حيث صار الأمن الذاتي لدولة الأسديين الأبدية الإبادية مضموناً أكثر، لا أقل، بعد انتشار قوات لأربع من الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن (أميركا وفرنسا وبريطانيا وروسيا). النموذج الوطني الديمقراطي لا يحيط بهذه التحولات في الدولة والديني- السياسي والنظام الدولي، ولم تكد تبذل جهود فكرية لملاقاة هذه التحولات.
وفي العقود الثلاثة نفسها ظهرت كذلك أشكال من الفقر والهامشية جديدة كل الجدة، وتصل إلى حد الجوع. وهذا في معظم البلدان التي ظهر فيها النموذج الوطني الديمقراطية للتفكير بالسياسة، لكن هنا أيضا لم يؤخذ علم جدي بهذه المسألة الاجتماعية الجديدة وتمفصلاتها السياسية.
وفضلاً عن ذلك، عرضت تغيرات على مستوى الاجتماع كانت سورية واجهة عرضها الطليعية أيضاً. فبفعل استخدام الطائفية أداة سياسية أساسية طوال نحو جيلين، وصعود الأهلي في المجتمع مع ترسخ تطييف الدولة ونزع وطنيتها، تراجعت على نطاق واسع العناصر الديمقراطية والتحررية في الوعي العام في بيئات الأقليات التي تشكل ما يقترب من ثلث السكان في سورية (قبل الثورة) وصولاً في بعض الحالات إلى الفاشية والتحمس للإبادة، وفي سياق الثورة السورية ظهر تراجع واسع للعناصر الوطنية في وعي وسياسة البيئات العربية السنية، وصعود شكل بالغ التوحش من الطائفية في أوساطها مع تبعية قطاعات نشطة منها لقوى إقليمية متعددة و/أو للأممية الجهادية. الأثر الاستقطابي المديد لخصخصة الدولة مشفوعا بكل من نزع وطنية الأكثرية وديمقراطية الأقليات يضعنا كلياً خارج النموذج الوطني الديمقراطي للسياسة.
لكن رغم أوجه القصور هذه التي راكمها النموذج، وبخاصة منذ مطلع هذا القرن، فهو لم يمت موتاً طييعياً، الواقع أنه ينتهي مثلما انتهى نموذج القومية الاشتراكية: بالحرب، بقوة السلاح المتفوق. اضمحل النموذج الأخير بفعل حربين خسرنا فيهما أمام إسرائيل التي نالت دعم المركز الأميركي، 1967 و1973. كان المحور الأميركي الإسرائيلي هو العدو النوعي في زمن هيمنة القومي الاشتراكي. النموذج الوطني الديمقراطي يموت اليوم مقتولاً في غمار حرب خاسرة ضد العدو النوعي، الدولة المخصخصة التي ظلت تنال الاعتراف الدولي حتى وهي منخرطة في إبادة محكوميها، بما في ذلك بالسلاح الكيماوي. وفي هذا ما يظهر كم أن النظام الدولي هو العمق والبنيوي والاستراتيجي للدولتية الإبادية في مجالنا. ولعل فيه ما يشير إلى اتجاه محتمل لتجدد التفكير السياسي: أفق من النضال الدولي العابر للحدود، يكون من وجه آخر بمثابة رد على العدمية الإسلامية المعولمة وتكتيكاتها الإرهابية.
بالمناسبة، تنطوي نهاية النموذج الوطنية الديمقراطية على نهاية لتصور الاستيعاب كسياسة ديمقراطية حيال الإسلاميين على خلفية تغير كامل الحقل السياسي الذي ظهرت فيه هذه السياسة، الحقل الذي تتقابل فيه الدولة القمعية المستبعدة للجميع، وقوى معارضة "وطنية ديمقراطية"، و"الإسلام السياسي" من الصنف الإخواني، وتصور استيعابي للدولة والسياسة وفق نموذج الوطنية الديمقراطية ذاته. سأخص هذه النقطة بتناول مستقل، لكن في سورية الطليعية في هذا الشأن كما في غيره يبدو أننا سلفاً في ما بعد إشكالية الاستيعاب.
*****
لكن ماذا يعني أن نموذجي التفكير السياسي الأساسيين الذين عرفناهما بعد استقلال بلداننا انتهيا بالحرب، حرب إسرائيلية ثم حرب الدولة الخاصة؟ إنه يعني أن هذه الدولة المنزوعة الوطنية استمرار لإسرائيل، تحطم بعنف مميت التطلعات إلى الحرية والسياسة والعدالة، إلى التغيير، في مجتمعنا مثلما سبق أن حطمت إسرائيل تطلعات التحرر الوطني و"النهضة الثالثة" (ياسين الحافظ أيضاً) والاستقلال الفلسطيني. وبنظرة أعم نحن حيال ضرب من الحاكمية الحربية لتاريخنا الحديث، على نحو لا يكف عن سحق السياسة والفكر والتفكير السياسي.
بقدر ما أن التفكير البشري مثل الطبيعة لا يتحمل الفراغ، فالأرجح أننا، أعني هنا السوريبن، سنستمر لبعض الوقت في التفكير بالسياسة وفق النموذج الذي تشكلنا عليه وغذيناه بالحجج: الوطني الديمقراطي. قد نأمل بأن زوال الدولة المخصخصة والمنزوعة الوطنية التي تزعم "حماية الأقليات" سيصلح ما فسد من وعي ديمقراطي عند المنحدرين من هذه المنابت الأهلية، وأن يعيد ترميم الفكرة الوطنية عند العرب السنيين. ربما. لكن عدا أن عملية النزع المتقابل للوطنية والديمقراطية لا تبدو مهددة بالانقطاع في أي وقت قريب، فإن مجمل مسار السنوات المنقضية من هذا العقد يثير أسئلة في شأن الوطنية السورية وفرص بقائها بالذات. كان مفهوم الوطنية السورية ظهر في مطلع هذا القرن (أعتقد ان برهان غليون هو أول من استخدمه في أيام "ربيع دمشق") ليكون قاعدة فكرية سياسية لنقد النظام الأسدي وللتحول الديمقراطي المأمول. والسؤال اليوم: هل لا يزال الدفاع عن وطنية سورية استيعابية هو الإطار الأصلح أو حتى الأنسب للتفكير في السياسة في سورية؟ من المهم التفكير في الأمر. قبل جيل واحد (بالمقياس الخلدوني: 40 عاماً، وليس بحسب علم الاجتماع الغربي الذي يقلص الجيل إلى ربع قرن) كان هناك نموذج مختلف، القومي الاشتراكي، وهو اليوم مركون دونما نظام في مستودع ذاكرة من تجاوزوا الخمسين منا من اليساريين والقوميين العرب.
والقصد على كل حال أنه تواجهنا منذ اليوم وقائع وعلاقات وعمليات تنفلت من قدرة نموذج الوطنية الديمقراطية على الإحاطة بها، وأن المحصول التحليلي للمثابرة على النمذوج مرشح لأن يقل أكثر وأكثر. وقع شيء كهذا لنموذج القومية الاشتراكية في ثمانينات القرن العشرين وبعد، وصارت الأدبيات التي تنضبط بهذا النموذج تبث في النفس الشعور بالتقادم، لا تتمفصل على مشكلات الراهن ولا تضيئها، ولا تخاطب غير عدد متناقص من "الرفاق" أو "إخوة النموذج" إن جاز التعبير.
ويبدو أن أزمة نموذج الوطنية الديمقراطية تتجاوز سورية التي هي حالة قصوى؛ ففي مصر، وفي ليبيا واليمن، والعراق ولبنان، وفلسطين حتماً، تعرض مشكلات كبيرة مركزها الدولة، لكن يتلكأ المرء كثيراً في التفكير فيها وفق نموذج الوطني الديمقراطي. هناك أشياء للتفكير على مستوى المجتمع، والدين، والنظام الدولي. هذه المقالة التلميحية لا تتجاوز أن تكون محاولة للإشارة إلى وجود مشكلة، تخاطب من يشكل التفكير في المشكلات العامة عنصراً جوهرياً في تعريفهم لأنفسهم.

استطراد:
ما تقدم لا يقال بتعجل، ولا خاصة ببهجة. فهناك ما هو مأساوي بعمق في هذه التحولات الفكرية السياسية التي يلعب النظام، المحلي والدولي، فيها دور القدر الساحق. هذا القدر يقتل كثيراً، أفكاراً ومفاهيم ونماذج للتفكير بالسياسة، ويقتل أيضاً أحلاماً وآمالاً وحيوات بشرية كما نعلم جيداً في سورية. ما عشناه خلال نصف قرن ونيف هو مذبحة مستمرة للأمل، لم يخطئ أبطالها المحليون منذ حربهم الأولى في ثمانينات القرن العشرين باختيار الاسم الأنسب: الأبد. الأبد هو اليأس المطبق بقدر ما إنه حرب مستمرة ضد التغيير والمستقبل.
وهو مذبحة للفكر، للجهد المتروي لفهم العالم وتطوير المفاهيم واختبارها.
تغير الأفكار والنماذج الموجهة للتفكير ليس سيئاً بحال، لكن من لا يتمكله الإحساس بين وقت وآخر أننا إنما نتخبط تخبطاً مشيئاً، لا نملك أن ننظر من مسافة إلى المذبحة التي يدوخنا من جهة أخرى هولها وإيقاعها المذهل. أما وأننا اليوم انقذفنا في مدارات أبعد عن مسرح الهول، فالسيء اليوم هو ألا نحاول أن نحيط بالمسار التاريخي، الاجتماعي والسياسي والفكري، الذي يشكل اهتلاك الأفكار أحد وجوهه، وألا ندرك بخاصة مأساويته الجوهرية. شيء من هذا كان يبنغي أن ينجز في ثمانينات القرن العشرين التي كانت على هولها أقرب إلى بروفة إلى هول اليوم المتمادي منذ ما يقترب من ثماني سنوات. طوال هذه السنوات، وطوال زمن مذابح الأمل المديد، هربنا من الحس المأساوي في كل اتجاه: نحو الشجار والاتهام والبحث عن أكباش فداء، نحو التشاؤم والتبشير الحماسي بالتشاؤم، نحو التبرؤ وكره الذات، نحو التظلم والغضب والإرهاب. هذا لا يجدي. أتكلم على حس مأساوي لأننا مضطرون اليوم لأن ننظر بشجاعة وصبر في الشروط التي لا تكف عن جعل النظر مستحيلاً: شروط المذبحة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عن الحالة المصرية اتحدث
محمد البدري ( 2018 / 10 / 13 - 15:44 )
ظهرت الوطنية الديمقراطية علي ارضية النمط الليبرالي في مصر علي سبيل المثال منذ ثورة 1919 اي قبل سقوط الخلافة الاسلامية في اسطمبول عام 1924. وتكرست حتي انقلاب 1952 العسكري. بل يمكن القول انها بدأت علي استحياء بتشكيل مجلس للنواب (برلمان) في العام 1866 في زمن الخديو اسماعيل.


2 - الوطنية الديمقراطية
خالد ( 2018 / 10 / 13 - 16:27 )
مرة اخرى يقع الكاتب في فخ المقارنات التجريدية لكن هذه المرة يقع في فخ لغوي فيجمع بين الاحزاب والحركات السياسية فقط لكونها تسمي نفسها وطنية ديمقراطية ثم يذهب لعقد مقارنات واستنتاجات حول النموذج الوطني الديمقراطي بناء على فرضية لغوية ساذجة. المضحك انه يضم الى هذه النماذج شخص انتهازي مثل عزمي بشارة غير معروف عنه بانه ديمقراطي بل ان الوطنية التي دعا اليها هي وطنية اسراءيلية بامتياز لا علاقة لها بالوطنية الفلسطينية

اخر الافلام

.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن


.. الشرطة الفرنسية تعتقل شخصا اقتحم قنصلية إيران بباريس




.. جيش الاحتلال يقصف مربعا سكنيا في منطقة الدعوة شمال مخيم النص


.. مسعف يفاجأ باستشهاد طفله برصاص الاحتلال في طولكرم




.. قوات الاحتلال تعتقل شبانا من مخيم نور شمس شرق طولكرم