الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة: “ أيْلَة“ عَادَت مِن جَديدُ إليّ

ادريس الواغيش

2018 / 10 / 13
الادب والفن


قـصــة قصـيــرة: “ أيْـلـَة“ عَـادَت مِـن جَـديدُ إليّ
بقلم: إدريس الواغيش
لأنَّ “ أيْـلـَة“ بلادي، كان قـَـدَري أن أكون طفلا طائشـًا يَهْـوَى التسكـُّعَ حافِـيَ القدمَـين، وأن أركـُضُ بلا توقف مثل ذئاب جائعَـة تبحْـثُ في مَـوسم شتوي عن حَـبّـات التـِّين أو عَـناقيد العِـنب، وأتحمَّـل عِـبْءَ مَنظر قاس كل يَـوم، أحملُ تحت جسمي قدَمَـين ضَخمتين مُـشقـقـتين، ثقبتهُـما الأحجَـار المُسَـننة من كل الجوانب كلما طاردتُ أرْنَـبَا بَـرِّيـًّا أو طائِـر قـُبَّـرَة، أو بَحثت في الأحراش عن بَـيض الحَمام المُعَـلق في الأعشاش بين الصُّـخور أو فِـرَاخ طيور الحَجَـل، قدَمَـان مُـدَرَّبتان بشكل جَـيّـد على اقتحام الحُـقـول المُحيطة بالأشـواك الإفرنجية الـدَّخيلة على عِـرْصَاتِـنا، استوردَها الفرنسيون رَغما عَـنَّا إلى حُـقولنا، لم تكن هذه الأشواك عكس نظيراتها المَحلية ترْحَـمُ أقدام الأطفال الحُـفاة منا، لكني لم أكـُن أعـي بأن رجْـليَّ كبيرتان أكثر من اللازم بـل فاضحتان، إلا بعد انتهاء صَيْحة سَـراويل "البَـنطيـلـيـفـون-pantalon à pattes d’ éléphant" الواسعة من الأسفل، واقتحَام صَيْحة بديلة في عالم السَّراويل ضيِّـقة أكثر من اللازم من الأسفل، صيحة “البَنطيليفُـون“ كان لها فضلٌ عليَّ دون وَعي مني، كانت تستـرُ حَجْـم حـذائي وضخامة قَـدَميّ، ولم أنتبه إلى ذلك إلا مُصادفة، كانَـتا تقفان عقبة أمام التحاقي المُبَـكر بهذه المُوضة، لأننا كنا نفقـدُ كأطفال بُـدَاة رشاقة أجسامنا في باقي الفصول، نأكل كثيرا ونتحـرَّك قليلا عَـكـس فصل الصيف حيث تكثـر حَـرَكتنا، نجـري دون توقف مُتخـَمين بأجساد عَصافير صغيرة وما لـذ وطاب من فواكه مسروقة من الحُـقول المجاورة، نسبـَح طول النهار في غُـدْرَان وادي "وَرْغَـة"، لم يكن يبعُـد عن قرية “أيلة“ إلا بكيلومترات قليلة، هكذا التقيت مع حَظي مُصادفة وتقلصت أحلامي حتى أصبح حُـلمي الوحيد عندما انتقلت إلى المدينة، أن تكون قدميَّ صغيرتين فقط، الآن وأنا تكلست جُـمجمتي، أسترجع ذكرياتي ببُـطء، وأردِّدُ مع نفسي مثل مُحارب مَهزُوم فقد خُـيوط الحكايَة:
- يا لتفاهَـتي، وتفاهَة أحلامي...
لم أتمالك نفسي وأبقى واقفا، أشاهد أقراني يلعبون الكرة في صباح يم جمعة لازال موشوما في لغتي، انخرطت معهُم في اللعب دون رَغبة مني بحذاء كان مُـقطَّـعـًا أصلا، زاد من قُـبْحِه ثُـقب في الجانب الأيمن، باغتني اتسَـاع هذا الثقب اللعين في الحذاء الوَحيد الذي كنت أملكـُه، فلم يَعُـد أمامي بُـدٌّ من رَتقه بأي ثمن عند أقرب إسكافي لسَتـر عَـوْرَته، لكن ما زاد من سُـوء حَـظي أن الإسكافي، رغم شُـهرته وحرفيَـته وطيبة أخلاقه في جوانب أخرى من مُـعاملاته اليَـومية، لم يكـن يَـرتضى لنفسه أن يصلح حـذاء واحدًا في حينه لأي زبون، حتى لو كان هذا الزبون من أحَـبِّ الناس إليه، لأسباب كان يحتفظ بها لنفسه وربما كانت سرَّا من أسرار مهنته، كان يلزمُه بعض الوقت كباقي الناس، وكـان سكان الحي صغارًا وكبارًا يحترمون فيه هذه الخاصية، أن يصلح أحذية الحاضرين في حَـضرة الغائبيـن.
أصبحت أمامي عقبة جديدة في الوُصول إلى الـثانوية بحذاء أحْمِـله ويحملني دون رَغبة مني، وكان عليَّ أن أتجاوزَها بأي شكل من الأشكال، لتفادي الغياب عن الدراسة أولا وغمَـزات ونظرات أصدقائي ثانيا، وهو أمـر يُضيف لي متاعب أخرى كنت في غنى عنها، لكن ما كنت أتحاشاه أكثر، نظرات البنات اللواتي يدرسن معي في نفس الفصل، كان يستحيل عليَّ الـدخول إلى الثانوية بحذاء يطل منه أصبع قدمي الكبير بشكل يثير الضحك، فكان عليَّ أن لا أسرف في الحُـلم كثيرًا، وأنتصر لظلي ولقدمي على الحِـذاء.
فطن أحد أصدقائي إلى الأمر، تبيَّـن أنه يلزم تدخل صديق آخر من أحد أصدقائنا المشتركين ممَّـن تربطه قرابة بالإسكافي، لكن لم ينفع معه الاستجداء، الأمر الذي وَضعنا في حالة شبه شجار مع الإسكافي. تعَـقدت الأمور أكثر، واستنجد صديقنا الطالب بأحد معارفه ممن لهم علاقة بالسلطة كان مارًّا بالقرب منا صدفة، شرحنا له الوضع بتفصيل ممل فضحك وضحكنا معا ضحكا كالبكاء، طمأننا خيرًا وقد استمع إلى ورطتنا، شريطة أن نترك له المجال ليتكلم مع الإسكافي منفردًا على طريقته.
جاء عندنا الرجل، وطلب منا أن نسلمه الحذاء، أمر كان أكثر إيلاما من ثقب الحذاء نفسه، إذ تركت فيه جواربي رائحة عَـرق كريهة ومُـزعجة، خفتُ أن تـُسبِّـب لي إحراجا مع الرَّجُـل، لكن همسة من صاحبي جعلت الرجل يتفهم الوضع، سبقنا إلى محل الإسكافي وجاء بحذاء بلاستيكي. لم يطل انتظارنا كثيرًا، وإذا بالرجل ينادي على صاحبي بأن الحذاء جاهز، مُوحيا لنا بأن ثمن الإصلاح مدفـُوعٌ مُـسَبَّـقا، وعلينا إرجاع الحذاء البلاستيكي إلى الإسكافي، حين قصدنا الإسكافي وجدنا الحذاء قد تم إصلاحُه، لكن الثقب تمت تغطيته بقطعة جلد أحمر فاقعة اللون، فيما كان الحذاء أسود اللون
لم يكن أمامي خيارات كثيرة، وقد رَنَّ الجرس الأخير للدخول إلى حصة المَا بعد الزوال، لبست الحذاء في قدمي وأغمضت عيني ثم قصدت الباب الرئيسي للثانوية، التفت إلى الوراء سِـرًّا، كانت نظرات الشماتة تتقاطر عليَّ من كل الزوايا ومن كل الأسوار وتلبسني من أقصى إلى أقصى، وهمْـسُ البنات ونظراتهن تربك خطواتي، هي التي كنت أعمل جاهدا على تفاديها. تمنيت لو أنني كنت قد مـت ُّ من قـبلُ، وأصبَحت نسْيـًا مَنسِيـًا أو تشـَظـَّيْتُ قبل ذلك.
التفت إلى أقصى ركن في البيت شاردا، شاهدت فرْدَتـيْ حذاء مُستوردتان من الغرب حديثا، مُـزركشتان بقطع من الجلد الأحمر الفاتح اللون من الجَـانبين، نسيتُ سنة هِـجْـرَتنا عن“ أيْـلة“ واستحضرت حذائي فجأة، شمَاتة بعض الأصدقاء المَاكرة وضحكات تلميذات خجُـولات، استرجعت هويتي الضائعة بين المتاهات، تذكرت رائحة خـُبز“سَـيِّـدَة البدايَـات“ وهي خارجة لتوها طازجة من الفرن البلدي، عُـشبا طريا تستطيب مَضغهُ بقراتنا الصغيرات، شجرات الصفصاف أمام البيت، غناء الحَـسُّـون الصباحي فوق شجرة التوت قرب بيتنا القديم، حَـمَام الأبيض يحُـوم كالطائرات في السماء ثم يعود ليتفقد بيضه أو أفراخـًا فوق سطح بيتنا المُحْـدَوْدَب، تذكرت ظلال البَساتين وسلال العنب، تذكرت تلالا كانت تـوَدِّعُـنا منها الشمس كل مساء، حِـمَارًا مُـشاغبـًا كنت أقرأ فرق ظهره جغرافية بلادي دون تعب، هكذا “أيلة“ عادت مِـن جَـديدُ إلـيّ.
.....
أيلة: قرية بتاونات شمال فاس/ المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد