الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في وداع سلامة كيله

كاظم الموسوي

2018 / 10 / 14
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


كان صباحا باردا وهادئا وانا ادور في الحارة ابحث عن عنوان بيته في مساكن برزة،مسبقة الصنع، استجابة لدعوة تناول فطور ودردشة بالتاكيد بعده. اذ لا يكفي ما تحدثنا به عبر الهاتف وقمنا بسياحة منوّعة للقضايا التي تشكل بعض همومنا المشتركة. اعرف الحارة جيدا ولكن ارقام البنايات وتفرعاتها تربكني، فاحتاج دائما الى علامات استدل بها الى العنوان الذي أزوره لاول مرة. حين وصلت العنوان بالضبط، قرات اسمه الاول واسم شريكته ناهد، بخط يدوي كشخبطة اطفال على الجدار قرب نقطة الجرس.
فتحت ناهد الباب ودخلت الى غرفة الاستقبال، بعد الترحيب قدم لي شابا طويل القامة احمر الوجه، يرتدي قميصا اصفر، يظهر عليه قلق وتردد في جلسته على كرسي مفرد، عرّفني عليه وجلست قبالتهما، اسمه معروف من قيادات منظمة يسارية محظورة، كنت اعرفه من قراءات عن اليسار في سوريا، وفي الجلسة سمعت انه خرج من السجن قريبا، ربما قبل يومين، بعد فترة سجن لسنوات مديدة. سألني سلامة عن تطورات واخبار الاحتلال الامريكي للعراق.. فاسهبت في شرح التدمير الذي قامت به قوات الاحتلال الامريكي في العراق واكدت على سياسات التخريب الممنهج للمحتلين في بلد رئيسي كالعراق في المنطقة، فلاحظت تلونا في ملامح وجه الضيف.. وبعد صمت تحدث بانه يتفهم الغزو الامريكي وهو الحل القائم للتخلص من انظمة الاستبداد العربي، هكذا بعموم الكلام. اندهشت طبعا واستغربت من اطلاق سراحه، فانا انقل وقائع الغزو والدمار وطبيعة كل إحتلال، دع عنك امريكي هذه الايام!. وهو يتفهم الغزو وقد يرحب به في دواخله، او عبّر عنه دون افصاح، وكنت قد سمعت حينها مثل هذا الكلام من غيره من الذين اصبحوا وجوه المعارضات في الفضائيات او الهيئات في الفنادق والاجهزة المعروفة، التي لا يمكن غفران مخططاتها ولا نسيان تاريخها. وتلك لوثة لكثير من ما يدعي المعارضة نظريا ويتخندق لاسبابه، طائفيا او اثنيا او تخادما لما يغريه ويعميه، دون معاناة واقعية لقسوة الاحتلال وظلمه وسوء ادارته على الارض ولكن قدرته واضحة على توظيف بعض ضعاف النفوس والاكتاف والمترددين من حسم مواقفهم الوطنية او استثمار قابلية التخادم في الجوهر منها مع قوات غزوه وادامته نيابة عنه او بديلا منه.
للتاريخ وقف الرفيق سلامة مع موقفي ورد على ضيفه بجرأة، مكررا او مؤكدا، بان التعويل على القوى الخارجية لن يؤدي الى التغيير وتقدم البلدان والتخلص من الاستبداد والدكتاتورية، وان قوى الامبريالية هي هي، لم تتغير مشاريعها ولم تتبدل اهدافها، شعاراتها لا تتطابق مع وقائعها، لا تدافع حقيقة عن حريات الشعوب ومنهج الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
التقيت الراحل مرات عديدة، خلال فترة زيارتي المحدودة، منها في بيت في حي دمر لسماع محاضرة عن القضية الكردية في سوريا، واخرى زيارة مشتركة لمعرض الكتاب في مدينة المعارض القريبة من مطار دمشق، وعلى صفحات موقعه الالكتروني، الافق الاشتراكي، مؤكدين بان المعارضة ونقد السلطة مهمة وضرورية بدوافع وطنية تقدمية للتحديث والتجديد ورفض التعويل على اي تدخل اجنبي وادانة التراهن على قوى رجعية في الخلاص والانقاذ.. واخرها اتصالات هاتفية من باريس وهنا عرفت اصابته بالمرض الخبيث وانه يعالجه هناك.
حين اندلعت الازمة في سوريا انخرط في طرق ابعدته عن دمشق واخرجته من جغرافيتها وتضاريسها، ومثلها فكريا في الحملات على "الامبريالية" الروسية وقوات احتلال اجنبية!، دون تفريق واضح، او تحليل موضوعي نقدي، وكانه وان لم يكتبه ويقوله يدافع عن مدلول الامبريالية وقوى الاستعمار، او هو كذلك فعليا، في الابتعاد عن الواقع الحي وشجرة الحياة الخضراء، والسقوط في غياب الرؤية العلمية، التي نذر نفسه لها، خصوصا في التمييز بين سبل التعاون والاتفاقيات القانونية الدولية وشروطها، وما حدث وجرى على الارض، ليصحو في اخر ما كتب على اندفاعاته ويحاول ان يؤشر او يضع اصبعه على مكامن الجرح بعد فوات اوانه، وهو العارف جيدا ان الابتعاد عن الواقع والرؤية الصائبة يدفع الى الهلاك ولا يساعد على ايجاد الحل الصحيح للازمة ولا ينتهي الا الى التورط بحمل صفات اخرى وعناوين مختلفة ليست لها علاقة بالمطالب المشروعة ولا الاهداف المنشودة.
في اخر مقال نشر له في جريدة تقاربه المنحى يوم 2018/9/26 شرح ادراكه لمآلات أو استخلص من او اوصى النخب السياسية ان تعيد النظر بمنهاهجها واعمالها، فلم يعد الردح على مصطلح الاستبداد سبيلا للخلاص، ولا البكاء على ما اصبح من الماضي يراكم خبرة او تجربة، ودعا الى الوعي والتثقف من جديد للوضع الجديد، الذي لم يره او يعشه بَعْد.. ربما لو طال العمر به لاستعاد مواقفه وسلامته الموضوعية .. وفي الختام سمعت بعد انقطاع التواصل بيننا عن خبر وفاته في عمّان. محزن ذلك برغم كل الظروف.. مزعج خبر الموت ومؤلم فقدان انسان. هل سيعتبر من سيرته الشخصية، ومن كتاباته واصداراته، من تحويل السجن (8 سنوات) له إلى مكتبة قراءة وتمعن وبحث، والى مراجعة وإعادة نظر في الكثير من القضايا التي سطّرها في كتب له، ولمن يعنيه دور المثقف في التحولات والمتغيرات وتنوير الشعب وبناء الوطن، ولا يكرر المنزلق؟!. ولاعادة صورة سلامة لابد من قراءة آخر مقالاته والاتعاظ من دروسه، وارتداء نظارات قراءة تحت شمس الواقع لا نظارات سوداء وردح لا محل له في وقائع الايام الراهنة والقادمة.
نم قريرا يا سلامة، كانت ايام بغداد ودمشق ومكابدة الالام والاحزان والافراح فيهما من اجمل تلك الايام.. سلاما يا سلامة، ووداعاً لقلبك الطيب الذي عرفت..
(سلامة كيله (1955-2018/10/2) ولد في فلسطين واكمل تحصيله الجامعي في بغداد وعاش بين دمشق وبيروت وعمّان والقاهرة، وأصدر ونشر اكثر من ثلاثين كتابا في السياسة والتراث والاقتصاد والنظرية الماركسية).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما التصريحات الجديدة في إسرائيل على الانفجارات في إيران؟


.. رد إسرائيلي على الهجوم الإيراني.. لحفظ ماء الوجه فقط؟




.. ومضات في سماء أصفهان بالقرب من الموقع الذي ضربت فيه إسرائيل


.. بوتين يتحدى الناتو فوق سقف العالم | #وثائقيات_سكاي




.. بلينكن يؤكد أن الولايات المتحدة لم تشارك في أي عملية هجومية