الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المحاكاة

عبدالله بير

2018 / 10 / 18
الادب والفن


المحاكاة
تجول في المدينة يبحث عن قصة جديدة ، يتفصح الوجوه و الاماكن عسى ان يجد ضالته ، بعد انقطاع الالهام عنه إثر قراءته قصة لكاتب مشهور اثرت في طريقة تفكيره .
بعد ساعات بدأ الاعياء و التعب يتسربان إلى جسده و روحه واحس باليأس ، فاقتحم مقهاً شعبياً قديماً لأخذ استراحة و شرب كوبٍ من الشاي . كان الزبائن مجاميع من العتالين و الحمالين و عاملي النظافة و باعة متجولين و باعة القطع الأثرية في السوق القديم ، كانوا يتبادلون شذرات الاخبار و المواضيع المختلفة ، بدأ يرتاح لان جو المقهى كان مفعماً برائحة السجائر و الابخرة المعطرة برائحة الشاي المختلطة بزفير الزبائن .
مسح بعينيه المقهى من اقصاه إلى اقصاه ، مع كل الوجوه الموجودة فيه ، وهم يتحدثون و يتضاحكون ، فطلب كوباً من الشاي ، اخرج علبة السجائر ، بدا يدخن و يشرب الشاي و يتحدث مع نفسه :
- كل شيء طبيعي ، كل شيء طبيعي ، يقولون لو اردت ان ترى بشكل مغاير ، غير زاوية النظر لديك ، كيف يحدث ذلك ؟ فهذا عتال يبدوا عليه علامات الرضا و ذاك المعمر ذو الملابس الرثة يبدو فرحاً جداً و وجهه مشرقٌ و علامات السرور بادية عليه . وذلك الشاب المعوق ذو الرجل الواحدة ، جالس كأنه ملك الزمان. نظر إلى كوبه و السيجارة على وشك الانتهاء ، فلم يكمل الشاي و خرج بعد أن دفع حسابه لصاحب المقهى .
مشى باتجاه الحي القديم ، و خطط للتسكع في ازقتها ، عله يعثر على ضالته ، لكن ما استوقفه و منعه من ذلك هو وقوف مجموعة من الشبان حول مجنون يسخرون منه وهو نائم و قد افترش الرصيف و ذهب في سبات عميق ، صنع من ورق مقوى مخدة ، كان رث الثياب, اشعث الشعر ، ملتحٍ ، غزا الشيب صدغية و بعض من لحاه . نظر خلسة من وراء ظهورهم ، كان وجه المجنون يبدوا ملائكياً على قارعة الطريق و هو في ذاك السبات عميق ، لم يكدر صفو نومه أي شيء في هذه الدنيا ، فراشه الرصيف و مخدته ورق مقوى ملفوف و لحافه مظلة حديدية لدكان مغلق . احس ببركان من الافكار تنفجر في راسه ، بدأت الاسئلة تتزاحم و لا تدع له مجالاً للأجوبة, تشرق أخرى قبل مغيب الأولى ، كيف ، لماذا ، ما ، مَن ، متى ، اين ......؟؟؟؟؟؟؟ فرجع على عقبيه و راسه يتمايل من الافكار و لا يعرف من اين يبدا و اين ينتهي ، و طفق يردد مع نفسه :
- وجدتها ، وجدتها .....
عاد إلى البيت ، وهو يخطط في عقله أمراً و يتسأل :
- كيف يكون جانب الجنون من الحياة، كيف ؟
عكف في البيت لأشهر دون ان يغتسل او يبدل ملابسه او حتى يحلق لحيته او راسه ، فاصبح كالذي راه في الشارع رث الثياب أشعث الشعر كث الحية . نظر إلى نفسه في المرآة بعد اشهر ، فتفاجئ ، لأنه لم يكد يعرفها، فذهب إلى غرفة المكتب و فتح صفحة بيضاء جديدة في دفتره و كتب اعلاها " حياة مجنون "
ثم خرج إلى الشارع حافياً ، يتلبس الجنون . يجلس حيث يشاء ، يفترش الارصفة و يتناول من القمامة او ما يرمى له من طعام ، ينام في الشارع و يلف ورق مقوى لتكون له مخدة. مع كل اشراقة صباح يعود إلى البيت و يكتب جملة او جملتين مما شعر او احس او سمع او رأى في الليلة الماضية . ولت ليالي الخريف اللطيفة و بدأت برودة الشتاء تعشعش في الارصفة و توجع أطرافه, إلا انه استمر في اللعبة ، كان يصحو مع صوت الرعد او سيولٍ تمر تحته و تبلل ثيابه ، كان يقول في نفسه:
- لم تكتمل القصة بعد .
في احدى صباحات الشتاء الباردة جداً ايقظه شخص كان له مثل منظره و لكنه لم يكلمه ، إنما هزه و لما استفاق و كان يرتجف من البرد اوضح له الرجل بإشارات يدوية ان الجو بارد جدا، فعلا كانت كل بقعة في جسده وكأنها قطعة من ثلج فعاد إلى البيت طلباً لبعض الحرارة ، مكث يوماً او بعض يوم في كي يستعيد عافيته ، وكتب ملاحظاته مثل كل يوم ، وعاد إلى الشارع . في احدى الليالي كان البرد يقرص العظام و غطى الصقيع كل شيء ، كان يفترش رصيفاً تحت سقيفة احدى الدكاكين ، ملء كيس من نايلون بأوراق او بقايا اكياس ممزقة و جعلها مخدة له وافترش قطعة ورق مقوى و التحف بأكياس نايلون متهالكة ، كانت اسنانه تصطك و جسده كله يرتعش، كان البرد لا يطاق وهو يقول في نفسه :
- لم ارى او اسمع بان مجنوناً مات من البرد ، لابد أن لهم حيّل لقهر هكذا برد .
ظل يردد في نفسه هذا الكلام إلى ان شعر بدفً يقتحم رجليه و يتصاعد رويداَ رويداً إلى ان وصل إلى ركبتيه و احس انه يغطس بهدوء في حوض ماء دافئ ، فغفى .
في الصباح الباكر تجمهر بعض الباعة المتجولين و بعض العتالين الذين خرجوا للعمل و بعض الموظفين وهم في طريقهم إلى العمل على جثة رجل رث الثياب كث الحية و قد تجمد من البرد حتى الموت .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن