الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المنظر الطبيعي (paysage) في الممارسات التشكيلية من فن الكهوف الى فن المفاهيم

عبدالعزيز مسعودي

2018 / 10 / 18
الادب والفن


المنظر الطبيعي (paysage) في الممارسات التشكيلية من فن الكهوف الى فن المفاهيم
بدت الطبيعة خلال الممارسات التشكيلية بجميع أنواعها مترجمة من خلال العديد من التجارب الفنية وخاصة رسامي المشاهد الطبيعية أين تجلت عبقريتهم الفنية تلك العبقرية التي اتضحت بجلاء في ويليام تيرنر الذي اتضحت عبقريته في ذلك التعبير التشكيلي الدقيق عن الطبيعة، بما فيها من ضوء، وسحب، والحركة، في البحر والرياح، والأمطار، وأستخدم، ألوان قوية للوصول إلى أقصى درجات الإضاءة في رسم المشاهد الطبيعية. وفي قرون موالية نجد كذلك الفرنسي بول سيزان الذي تميز برسم المشاهد الطبيعية الهادئة، بألوان صامتة، متلحّفة أشكال هندسية رؤية صاغها من خلال لمسات لونية على شكل خطوط تحمل إيقاعا، والتي تتجلى بوضوح في تلك اللوحة التي رسمها على ساحل مرسيليا، والتي خلالها أظهر سيزان أمكانية خارقة في تصوير البحر وفضائه...، لتأخذ عدة اتجاهات في التحارب الفنية المعاصرة التي أصبحت مجالا يمارس من خلاله العديد من الممارسات فالطبيعة منذ فن الكهوف إلى فن المفاهيم لم تكن سوى مصدرا ملهما، لكنه يتبين لنا أن جل التجارب وخاصة في الفن المعاصر، لم تعد تنقل الطبيعة كما هو الحال في المدارس التقليدية ممثل المدارس الكلاسيكية والحديثة، وإنما تم تناول الطبيعة من وجهة نظر مخالفة للرؤى السابقة وجهة نظر تغير علاقة الفنان بمحيطه وبالعالم الخارجي، وما يمتاز به من تغيرات وتفاعلات، وتحولات جوهرية، وهي تقريبا نقطة التقابل التي ولدت بؤرة الإبداعات والتناولات الفنية والطرح الجديد لها الذي كان عبر خلق صيغ جديدة لها. وبالتالي فإن الفن المعاصر الذي كان بؤرة تعدد التيارات الفنية والتيارات ذات النزعة الطبيعية، مثل تيار فن الأرض(land art) الذي بدوره لا ينقل الطبيعة أو بالتحديد المشاهد الطبيعية بمجرد المحاكاة لها. وإنما يتناولها كمادة لتّمشي العملي أي أن الأعمال الفنية أصبحت تنجز مباشرة في الطبيعة، بالرغم من زوالها وتحولها الجوهري والفطري

لقد ظلت الطبيعة محور اهتمام الإنسان منذ الأزل، حيث شهدت علاقته بها العديد من التحولات والتغيرات فسعى في بادئ الأمر إلى التحرر منها أي التحرر من كونه شيء من أشيائها وموجود داخلها. لكن هذا التحرر ظل مشدود بالعديد من الأشياء وظل يستند في حدّ ذاته إلى ذلك الرأي الماثل، بأن الإنسان لا يمكن أن ينعزل عن المحيط وعن الطبيعة. ذلك أن معاشه وحياته مرتبط بها ارتباط وثيق فهي أول شيء تشدّ حواسه، وتثير في نفسه العديد من الاستفسارات والتساؤلات، خاصة حول ظواهرها وكيفية تفاعلها تلك الظواهر، التي كانت ولا زالت تطرح العديد من التساؤلات سعى كل من المفكر والفيلسوف والعالم والفنان إلى فهمها و الإلمام بها وجعلها مادته الأساسية لكي يستمرّ المنهج ، وتنفتح أفاقه لكي يسعى إلى تحديد ذلك الفرق بين الطبيعة، وما يكتنفها من تغير وتحول وما يمكن أن يوجد وراءها ظل يسود نوع من الثبات أدى بدوره إلى ذلك التميز بين نوع من الإدراك. الأول إدراك عقلي والثاني حسي ذلك الإدراك الذي ظل يستند في قوامه إلى مدى قدرة الفنان المفكر إلى فهم الطبيعة، وما يمكن أن تؤول إليه التجربة والممارسة خاصة بعد ظهور ما يسمّى بالمنهج التجريبي وأصبحت الطبيعة مجالا حرّا، وشاسع أمام خيارات الفعل الإنساني بكل تجاربه العلمية والفلسفية خاصة التجارب الفنية التي كانت تستند إلى الطبيعة كموضوع رئيسي لها سوى كانت في علاقة مباشرة أو غير مباشرة معها من فن الكهوف الذي بدوره يثير العديد من التساؤلات، خاصة الجانب الأنطولوجي منها. فإنسان العصور القديمة سعى إلى مواجهة الطبيعة لأجل استمرارية الحياة، وقد جسد الرسوم الموجودة على الكهوف العديد من مظاهر الحياة وقد توزعت هاته الشعوب على أمكنة مختلفة من العالم يقول الدكتور صبحي الشاروني: " وتوجد في العالم إلى حدّ الآن أربعة مناطق رئيسية للشعوب البدائية التي يمكن اعتبار فنونها مثالا معاصرا للفن البدائي عند إنسان ما قبل التاريخ، وهي شعوب إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، والاستراليون الأصليون في قارة آسيا، والهنود الحمر، والسكان الأصليون في الأمريكتين، وقبائل الأسكيمو في القطب الشمالي. " وبالتالي الإنسان البدائي ترك أثاره عبر رسوماته على الكهوف فدراسة الجانب الانتروبولوجي للإنسان البدائي يكمن في تلك الرسوم الموجودة على الكهوف وخاصة على مستوى التقنية حيث يقول رولا عصام في كتابه الفن التشكيلي " التقنية البدائية التي إستخدمها الإنسان في تلوين هاته الرسوم الجدارية معقدة فقد إستطاع العلماء والأثريون أن يشيروا إلى أن الإنسان البدائي لم يستعمل أصابعه في التلوين فقط وإنما إستخدم الفرشاة البيدائية من شعر الحيوان وريش الطيور فقد كان يغمس الفرشاة باللون ويظغطها على الجدار أو بضربات عريضة كما استخدم طريقة رشق الالوان بالنفخ بواسطة القصب وعظام الحيوانات " ومن هنا ندرك العديد من العلاقات المتجذرة في تاريخ الفن التشكيلي فالضربات العريضة تكاد تذكرنا بالفن الحديث وخاصة طريقة رشق الألوان التي تذكرنا بالبقعية واللطخة (tachisme) والنفخ إحالة الى تلك الطاقة التي يفرزها الجسد وإنخراطه داخل العملية الإنشائية للعمل الفني وهو تقريبا ما يضعنا في موازية ضمنية لتجربة جاكسون بللوك وكيفية إنخراط الجسد داخل العملية الإنشائية.
أن الطبيعة وكتعريف ينضوي على العديد من المفاهيم التشكيلية، تبقى دائما تنفتح على كل ما هو ممارساتي وكذلك عن علاقة الفنانين التشكيليين عبر تاريخ الفن بالطبيعة، وخاصة رسامي المشاهد الطبيعية (paysagiste) فهاته العلاقة تمتد جذورها إلى قرون غابرة وتتضح بجلاء خاصة خلال القرن السابع عشر مع الفنان الفرنسي كلود جيلي المعروف بكلود لوران (Claude Gellée dit lorrain) هذا الأخير الذي يعتبر من أبرز الفنانين الذي رسموا الطبيعة، بتقنية بارعة، وإحساس عميق، ذلك الإحساس يجد عند لوران مهارة عالية، وحنكة كبيرة في تنفيذه وإتقانه، وتتميز جل لوحاته التي رسم فيها الطبيعة بالتناسق والدقة والإحساس المتفرد بنقل الضوء وتحولاته ولعل أكثر ما يشدنا في أعماله هو ذلك الترابط الذي يحصل بين أشخاصه والطبيعة الموجودين فيها كأنهم جزء من الأشجار والغيمات والبحر ويظهر أكثر هذا التفاعل والتناسق خاصة في لوحة ميناء البحر التي رسمها سنة 1648 كما أن بوسان سبق لوران في تصوير المشاهد الطبيعية وهما الفننان الذي تنقلا جغرافيا من الشمال الى الجنوب وبالتالي الى شمس المتوسط ليستقرّا في روما ويواصلا رسم المناظر الطبيعية .

Claude Lorrain, La campagne romaine, vers 1639
Londres, the national Gallery

وخلال القرن التاسع عشر نجد رائدا أخر من رواد رسم المناظر الطبيعية وهو الرسام الأنقليزي ويليام (william turner) الذي حاول رسم المناظر الطبيعية التي شاهدها خلال جولاته ولعل أبرز لوحاته نجد "غياب الشمس على البحيرة " التي تتمتع بمدى تعبيري كبير هذا الى جانب ذلك الإحساس المرهف بالضوء ومكونات الطبيعية حتى أن الناقد الإنقليزي جون رسكين قال عنه "إن لوحات تيرنر مكنت الناس من رؤية العالم بطريقة مختلفة وجديدة ومن خلال رسوماته حدّد من جديد العلاقة بين الطبيعة والفن " تلك العلاقة التي تحولت عنده إلى نوع من التكامل الضمني، الذي يمكن أن تقر من خلال موقعنا الإدراكي والحسي من الطبيعة، موقف دعمه تيرنر من خلال رسمه للمناظر الطبيعية بكل مكوناتها من ماء، وهواء، وأشجار، وضوء، حتى أنه سمي برسام الضوء، وخاصة ذلك الضوء الوامض الذي سمي على أنه ميزة من مميزات رسوماته


william turner
Coucher de soleil sur un lac vers 1840
Huile sur toile ,91/122,5 cm

وكذلك مميزات الأماكن التي زارها عكس مواطنه وكذلك رسام الطبيعة هو الأخر وهو جون كونستابل (John Constable) الذي انطلق يرسم من الريف الإنكليزي والمناظر الطبيعية كانت في جميع أعماله عبارة على موضوعات يوضح فيها الضوء والحركة كما قام بدراسات تبين مدى تأثير الشمس والريح على أشكاله ويتضح في الصورة التي تتمثل في الغيمات والضباب ومجرى المياه والنهر والأراضي بحقولها وملئها وفراغها وأشجارها أشكال تدل على استخدام كونستابل (Constable) لعبقرية خالصة وهي تقريبا ما يظهر في لوحته الشهيرة المسماة "طاحونة فلاطفورد" التي رسمها سنة 1821لفتت بدورها أنصار المدرسة الرومانسية.


John Constable 1776-1837
Moulin de Flatford 1817
huile sur toile 101,7 cmx 127 cm
Tate Gallery Londres

وهكذا تنوعت واختلفت تجارب فناني فن الطبيعة جعلونا ننظر الى تلك المواطن الجمالية التي يراها عادة الفنان ويلتقط مواطن الجمال فيها. ولكن وهناك دائما اختلافات ضمنية فهناك مثلا من يرى فيها جمالا وهناك من يرى عكس ذلك، وبالتالي إلى تلك الثنائية القائمة بحدّ ذاتها علاقة المرئي باللامرئي أي ما من يرى فيها جمالا ومن لا يرى فيها جمالا لكن إذا تعلق الامر بالتصوير وخاصة المناظر الطبيعية فإن مسار التفكير سيقودنا مباشرة الى تلك الرؤية التي يعلن عنها بول سيزان حين يقول « la nature est intérieure » وقد سماها مارلوبونتي « visibilité secrète » حيث يقول
« Puisque les choses et mon corps sont faits de la même étoffe, il faut que sa vision se fasse de quelque manière en elles ou encore que leur visibilité secrète : « la nature est à l’intérieur » dit Cézanne . »
فالجمال في الطبيعة هو ما ندركه وما يمكن أن نتفاعل معه، خاصة ذلك الذي يقدمه فنانو الطبيعة، التي يمكن أن تكون لها رؤية من الداخل حسب بول سيزان ويتجلى بوضوح في المرحلة الثالثة من أعماله عندما قام برسم لوحته المسماة ب" جبل سان فكتوار" ويتأكد البحث عن هذا الإدراك من طرف الفنان عندما قام برسم جبل سان فيكتوار خمس وخمسين مرة. وكان كل مرة يضيف ويحذف أي انه يعيد تركيب الأشكال، التي كانت تتجلى من خلال اللطخات الكبيرة الحجم ، كما أن العلاقة بالطبيعة لا يمكن أتكون بمعزل عن ذلك التأثير والانطباع ، الذي تتركه فينا وهو تقريبا ما يقودنا إلى الحديث عن تجربة كلود مونيه الذي أهتم بتلك التغيرات السريعة للضوء على المرئيات عبرعنها بلمسات متجاورة لفرشاته. كما ظل يرسم لفترات زمنية مختلفة من حيث اليوم الواحد حتى يدرك تغيرات الضوء وتحركه على الأشياء كذلك الضوء على المرئيات ويتضح ذلك بجلاء في لوحته "انطباع شروق الشمس"(impression soleil levant). وهي اللوحة التي قدمها سنة 1863
أن رسم المشاهد الطبيعية وخاصة في تجارب فناني القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر كان يأخذ إشكاليات عديدة تنوعت واختلفت باختلاف إدراك أولائك الفنانين للطبيعة وكيفية تحسس نقاب الجمال فيها حيث تمكنوا من إقرار الجمال داخلها، يمكن أن نستشفه في أشكال سيزان وكذلك من خلال أطياف كلود مونيه.
سعى المفكر الفنان دائما إلى اكتساب مواطن الجمال فيها وخاصة في تلك الأجزاء الجزئية والعابرة والمتحولة فيها، مثل مشاهدة قوس قزح أثناء نزول الأمطار وكذلك انبلاج الصبح، وطور المغيب، والأمواج المتلاطمة، كلنا نتأملها ونتفحصها تستفزنا ،فننساق وراءها لفهم ظواهرها وكيفية تفاعلها وسيطرتها علينا إلا أن التجارب الفنية السابقة، رغم ملاحقتها لتطورات الطبيعة وجزئياتها الفريدة، ظلت تمثل إلا صورة لها أو مشهد من مشاهدها (paysage) ففناني فن الأرض كأنني بهم أرادوا أن يركبو الطبيعة بكل تغيراتها وتحولاتها ، إلا أنه لا يمكن حصرها في بعد واحد وفي مفهوم واحد وفي ممارسة واحدة ، ذلك أن الأشياء التي لا نشاهدها في جزئيات الطبيعة هي أكبر وأشمل وأكثر حيّزا من تلك الأشياء التي نشاهدها لذلك تظل الممارسة على صلة كبيرة بتلك المعادلات التي ترجح وتنصّ على أن الطبيعة تبقى موطن الأسرار والجمال والرسم والشعر والحب...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة