الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مَكّابِيُّون وليسَ مكّة: الخلفيّة التوراتيّة لسورة الفيل(2)

ناصر بن رجب

2018 / 10 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مَكّابِيُّون وليسَ مكّة: الخلفيّة التوراتيّة لسورة الفيل(2)

ترجمة وإعداد:
ناصر بن رجب




6 – سفر المكّابيّين 2: المَدَد الإلهي يُنقِذ يهود أورشليم من أن تُبيدَهم فِيَلة الحرب السلوقيّة
يسلِّط سفر المكّابيّين 2، وهو نصّ أُلِّف في الأصل بالإغريقيّة، على ثيمات الوفاء، والشّهادة، والمَدَد الإلهي، والبَعْث الجسدي(25). تُشكِّل فِيَلة الحرب السلوقيّة، مُتجسِّدة في القوّة الملكيّة السلوقية، خطرا مستمرّا على اليهود كما جاء ذلك في سفر المكّابيين 2، 11: 4، و13: 2، و13: 15، و14: 12، و15: 20-21.
يُمثِّل نيكانور الشّخصيّة الشرّيرة الرئيسية في المكّابيّين 2، وهو يُوصَف بأنّه "سائس الفِيَلة" أو "سيّد/قائد الفِيَلة". في مك 2، إصحاح 8، عيّن بَطُلْماوس الكافر نيكانور لمهاجمة اليهود. جمّع نيكانور جيشا وتعهَّد بسَبْي اليهود وبيعهم كعبيد مقابل الفِضّة وذلك "لِيَسْتَأْصِلَ ذُرِّيَّةَ الْيَهُودِ عَنْ آخِرِهِمْ". بلغ خبرُ مخطّط نيكانور إلى مسامع يهوذا المكّابي فحشد أتباعه وهزموا نيكانور في الوقت المناسب قبل أن يُدْركَهم السّبت(26).
بعد هذه المعارك، قرَّر ديميتريوس، الملك السلوقي الجديد، إعادة مهاجمة اليهود "فاسْتحضَر من ساعته نيكانور مُدبِّر الفِيَلة، وأقامه قائدا على اليهوديّة، وأمره أن يَقتُل يهوذا ويُبَدِّد أصحابَه، ويُقيمَ أَلْكِيمُسَ كَاهِناً أَكْبَر لأَعْظَمَ هَيْكَلٍ في العالم" (مك 2؛ 14 : 12-13). النّص هنا لا يقول بوضوح ما إذا كان المقصود هو نفس نيكانور الذي جاء ذكره في مك 2؛ إصحاح 8(27)؛ ولكن على أيّة حال، فإنّ نيكانور في المكّابيّين 2؛ إصحاح 14، يُقَدَّم على أنّه قائد فِيَلة ماهِر.
عَلِم نيكانور أنّ يهوذا ورجاله كانوا بمنطقة السّامرة، فقرّر مُفاجأَة الجيوش اليهوديّة ومهاجمتها يوم السّبت، أي حين يكون اليهود غير قادرين على القتال والخروج للحرب. توسّل اليهود الذين كانوا قد أُجْبِروا على مرافقة جيش نيكانور ألاّ يقوم بمثل هذا العمل القاسي والوحشي بل أن يرْعى حرمة يَومٍ كرَّمه الرّب وطهَّره وجعله أقدس الأيّام. ثمّ سأل نيكانور، الذي يصفه النّص بأنّه "أرذَل مخلوق على الأرض"، عمّا إذا كان هناك "في السّماء مَلِك أَمَرَ بِحِفْظ [تركيم] يَوْم السّبت؟".
فأجاب اليهود "إِنَّ الرَّبَّ الْحَيَّ والملك فِي السَّمَاءِ، هُوَ الَّذِي أَوْصَى بِحِفْظِ الْيَوْمِ السَّابِعِ [السّبت]". ولكنّ نيكانور قال لهم "وَأَنَا أَيْضاً قَدِيرٌ فِي الأَرْضِ؛ فَآمُرُ بِأَخْذِ السِّلاَحِ وَإِمْضَاءِ أَوَامِرِ الْمَلِكِ". وَلكِنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ قَضَاءِ مَأْرَبِهِ الشرّير"(28).
يُوضِّح المُخطَّط الكافر لنيكانور ازْدِراءَه الوثني لشريعة الله. وذكر مك 2؛ إصحاح 15، أنّ خطّة نيكانور هذه كانت قد فشلت على أرض المعركة بعد أن تضرّع يهوذا لربّه طالبا نُصْرَته ضد الجيش السلوقي السّاحق والفِيَلة التي هي رمز قوّته وجبروته:
"وقد احْتَشَد الْعَدُوُّ وَاصْطَفَّ الْجَيْشُ وَأُقِيمَتِ الْفِيَلَةُ فِي مَوَاضِعِهَا وَتَرَتَّبَتِ الْفُرْسَانُ عَلَى الْجَنَاحَيْنِ، تَفَرَّسَ الْمَكَّابِيُّ فِي كَثْرَةِ الْجُيُوشِ وَتَوَفُّرِ الأَسْلِحَةِ الْمُخْتَلِفَةِ وَضَرَاوَةِ الْفِيَلَةِ؛ فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَدَعَا الرَّبَّ الرَّقِيبَ صَانِعَ الْمُعْجِزَاتِ، لِعِلْمِهِ أَنْ لَيْسَ الظَّفَرُ بِالسِّلاَحِ، وَلكِنَّهُ بِقَضَائِهِ يُؤْتِي الظَّفَرَ مَنْ يَسْتَحِقُّه".
استطاع اليهود، بفضل المَدَد الخارق من ربِّهم، أن ينتصروا بكلّ سهولة على أعدائهم السلوقيّين والفِيَلة المصاحبة لهم. ففي حين كان أصحاب نيكانور يتقدّمون بالأبواق والأغاني ويدقّون طبول الحرب، كان أصحاب يهوذا يُواقِعونهم "... بِالدُّعَاءِ وَالصَّلَوَاتِ. وَفِيمَا هُمْ يُقَاتِلُونَ بِالأَيْدِي؛ كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَى اللهِ فِي قُلُوبِهِمْ؛ فَصَرَعُوا خَمْسَةً وَثَلاَثِينَ أَلْفاً، وَهُمْ فِي غَايَةِ التَّهَلُّلِ بِمَحْضَرِ اللهِ وَنُصْرَتِهِ" (مك 2؛ إصحاح 15: 26-27).
تعرّضت جثّة نيكانور إلى أبشع أنواع التّنكيل. فقد أمر يهوذا المكّابي بقطع رأس نيكانور ويَدِه وكَتِفه وحمل كلّ ذلك إلى أورشَليم. واعتبر اليهود أنّ هذا الإنتصار العظيم على نيكانور هو يوم عيد لهم: "ثُمَّ رَسَمَ الْجَمِيعُ بِتَوْقِيعٍ عَامٍّ أَنْ لاَ يُتْرَكَ ذلِكَ الْيَوْمُ بِدُونِ احْتِفَالٍ، بَلْ يَكُونَ عِيداً، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ الثَّانِي عَشَرَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ آذَارُ بِلِسَانِ أَرَامَ قَبْلَ يَوْمِ مَرْدَخَايَ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ" (مك 2؛ إصحاح 15: 36).
7 – سفر المكّابيّين 3 – المَدَد الإلهي لإنقاذ يهود مصر من بطش فِيَلة بطليموس الحربيّة
سفر المكّابيين 3، الذي كُتِب في الأصل هو أيضا بالإغريقيّة، يقوم بنقل الصِّراع بين اليهود وخُصومهم السلوقيّين إلى مملكة بطليموس في مصر. واسم السّفر غير مناسب لأنّه لا يتعلّق بالمكّابيّين. فهذا السّفر يَذْكر أحداثا تسبق العصر المكّابي ولذلك لم يكن للمكّابيّين دور فيها، بل هو يركِّز على الصّراع بين اليهود والملك بطليموس الرّابع (221-204 قبل الميلاد). وجاء أسلوب الكتاب في فنّ أدبي هو فنّ "الرّواية التّاريخية الإغريقية". ويمكن أن يكون مصدر القصّة الخياليّة نابعا من ذكريات ملوكٍ بطالِمَة قدامى، الذين قادوا فِيَلة الحرب ضدّ خصومهم وبالأخصّ السلوقيّين. وعلى الرّغم من الإختلاف في سياقاتهما التّاريخيّة فإنّ المختصِّين اعتبروا دائما أن السّفرين المكّابيّيِن 2 و3 كانا قد أُلِّفا في محيط متشابه جدّا، وتقريبا في نفس الوقت وبأسلوب ومحتوى أدبيَّيْن متماثلين بشكل صارِخ. إنّ "وجود ترجمة سريانيّة قديمة [لسفر المكّابيّين 3] يُحتِّم اهتماما أكثر عموميّة بالعمل من جانب الكنيسة السريانيّة"(29).
إنّ الحُبكَة الرّئيسيّة للكتاب بسيطة جدّا. فقد انتصر الملك بطليموس الرّابع في المعركة على عَدُوِّه السلوقي، أنطيوخس الثّالث؛ ونحن نعرف من بوليبيوس أنّ معركة رافيا [رَفَح الحاليّة] التّاريخيّة (التي حصلت سنة 217 قبل الميلاد)، قرب غزّة، كان قد شارك فيها من الجانبين عدد مهمّ من فِيَلة الحرب، حيث استولى الملك بطليموس في نهاية المطاف على العديد من فِيَلة الحرب السلوقيّة المتفوِّقة كغنائم حرب.
بعد انتصاره الباهر، يسعى الملك بطليموس إلى زيارة هيكَل أورشليم العظيم. ولكنّ عندما منع عليه الكاهن الأكبر سَمْعان القيام بهذه الزّيارة، غضب الملك غضبا شديدا وقَفل راجعا إلى مصر. وحال وصوله إلى مصر قام بطليموس باضطهاد اليهود كردّة فعل انتقاميّة. ولمّا رأى الملك أنّ اليهود المصريّين أخذوا يقاوِمونه زاد غضبه وبدأ يُفكِّر في إبادتهم عن بكرة أبيهم. وبأمر ملكي، وقع تجميع كلّ اليهود المصريّين وحوصِروا في ميدان سباق الخيل بالإسكندريّة في انتظار إعدامهم بالكامل.
يرسم الملك بطليموس خطّة مدهشة للقضاء على اليهود المحاصَرين: سيتمّ رَفْس اليهود حتّى الموت بخمس مائة من الفِيَلة المُدرَّبة بعد أن يدفعَها مُدرِّبها إلى حالة من الجنون بسبب ما شربته من النّبيذ وأكلته من اللّبان وتجهيزها بأسلحة مريعة. ولكنّ خطّة [مكيدة] الملك لم يتمّ لها النّجاح، فقد أنامَه الله يوميْن متتالييْن ممّا جعله غير قادر على قيادة فيَلته ضدّ اليهود المصريّين.
ولكن في النّهاية، اتَّجه الملك، الذي يُكابد النّعاس الإلهي، نحو ميدان سباق الخيل يقود فيلته المسعورة الثَّمِلة الخمس مائة وهو عازم على إبادة كل اليهود المصريّين بواسطة سحقهم تحت أرجل الفِيَلة. ثم بعد ذلك حدثت مُعجِزة. فلما حان وقت التنفيذ الفعلي لقتل اليهود، قام كاهن عجوز يُدعى أليعازر يُصلِّي ويبتهِل ويطلب من العناية الإلهيّة أن تَتدخَّل. فأجاب الرّب دعاءه وفتح أبواب السّماء فنزل منها مَلاكان:
حينئذ كَشَف الرّب، القَدير المَجيد، عن وجهه القدّوس. وفتَح أبوابَ السّماء فنَزَل منها مَلاكَان وَسِيمَان ولكن يُدْخلان كذلك الرّعب في قلب النّاظر إليهما [يرتَدِيان المجد والشّكل المَهيب]؛ وكانا يتراءيان لكلّ النّاس إلاّ لليهود. انتَصَب الملاكان أمام جيش الأعداء، وملآ قلوب الجنود رُعَبا وهَلَعا، وأوقفاهم في أماكنهم لا يتحرّكون وكأنّما غُلَّت أيديهم بالسّلاسل. وحتّى الملك نفسه فقد أخذته الرّجفة وسَرَت في كامل بَدَنه، حتّى أنّه نسي فجأة ما هو قادم عليه والهدف الذي كان يصبو إليه [وكان هذا من عمل الله، سيّد كلّ شيء، الذي زرع في ذهنه نِسْيان كلّ ما سبق له وخطَّطَه]. [ومن شدّة هلعها] أدبرت الفِيَلة وانقَلبت ضدّ الجنود المسلّحين الذين كانوا يمشون خلفها فسحقتهم دَوْسًا بالأقدام(30).
وهكذا نرى أنّ فِيَلة الملك تدوس وتسحق جُنوده سحقا تامّا. وفي تَطوُّر قصصيّ مُذْهل، لا يمكن تصديقه، نرى الملكَ يتحوَّل تحوُّلا جذريّا حين يُشاهد الملاكَ يُدخِل الرّعب على الفِيَلة التي تستدير على أعقابها لتسحق جيوشه المصدومة والمذعورة. استنكر الملك بطليموس خطّته الشرّيرة وألقى باللاّئمة على مستشاريه. فأمر بإقامة عيد عظيم لليهود يمتدّ سبعة أيّام، على حساب الخزينة الملكيّة، ثمّ أطلق سراحهم وسط صخب الفرحة العارمة. هكذا ينتهي سفر المكّابيّين الثّالث بالانتقال من الضرّاء إلى السرّاء بفضل المَدد الغيبي الطّارئ، فيهرَع اليهود المصريّون يُباركون ويُهلّلون لمُخلِّصهم الإله القدّوس، بعد أن كانوا على شفا حفرة من الإبادة الجماعيّة، بل هم أصبحوا يتمتّعون بقائمة من ضمانات الحماية الملكيّة ذُكِرت بأدقّ تفاصيلها. "وتمتّعوا بسلطة أكبر من قبل، لدى أعدائهم، واعُتبروا اعتبارًا كبيرًا، وحلّت مخافتهم بحيث لم يجرؤ أحد أن يسلبهم أموالهم. استعادوا كل ممتلكاتهم، حسب السجلات، والذين كان لهم خير استعادوه بخوف عظيم. فالإله العظيم أتمّ عظائم من أجل خلاصهم. مبارك مخلّص إسرائيل من الأبد إلى الأبد. آمين."
8 – المكّابيّون: النّص التحتي لسورة الفيل
إنّ أوجه الشبه بين سِفرَي المكّابيّين 2 و3 من جهة وسورة الفيل من جهة أخرى واضحة تماما. فالنّصوص الثلاثة تتحدّث عن مَكِيدة جهنّميّة نصبها ملوك مشركون أعداء وتتمثّل في استخدام فِيَلة الحرب لتدمير جماعة من التُّقاة المؤمِنين التوحيديّين. وفي النّصوص الثلاثة نرى كيف أنّ المكيدة الّتي خطَّط لها المشركون تفشل فشلا ذريعا عندما يستجيب الرّب الحقيقي لصمود المؤمنين الذي لا يلين وإخلاصهم في إيمانهم رغم الأهوال والمخاطر التي يتعرّضون لها وذلك بتدخّله بشكل دراماتيكي ضدّ الطّغاة الوثنيّين لإنقاذ شعبه المختار. في الحالات الثلاث، يُسبِّب التدخّل المُذهِل للرّب تدمير جيوش المشركين التي تُرافق الفِيلة.
تبدأ الرّواية القرآنيّة بالإشارة إلى أنّ جمهور المستمعين كان يعرف سابقا خلفيّة هذه القصّة؛ إذ أنّ السّورة تبدأ بعبارة "أَلَم تَرَ". ثمّ تُذكِّر مستَمِعيها كيف عامل رَبُّهُم (رَبُّكَ) أصحاب الفيل وذلك بإحباط مكيدتهم/مخطَّطِهم. النّص التحتي المكّابي يشرح هذا الوعي عند الجمهور: إنّ جماعة تعرف القصص البِيبْلي كان من المتوقّع أن تكون على دراية بالقصص المؤثِّرة تحكي عن يهودٍ أُنْقِذوا من مخالب القوّات الوثنيّة الغازية وفِيَلتها الحربيّة بفضل وفائهم الرّاسخ للرّب. من المفترض أنه كان لهذه الحكايات صدى خاصّا لدى التوحيديّين في أواخر العصر القديم، وذلك من حيث أنّ تأثير التهديد الوثني الإمبراطوري اللاّحق للسّاسانيّين، الذين اشتهروا باستخدام فِيَلة الحرب الهنديّة المُرْعِبة، كان مستشريا في جميع المناطق النّاطقة بالعربيّة(31).
لماذا تركِّز سورة الفيل على "الكَيْد"، أي المخطّط الشيطاني، وعلى "التضليل"، أي ضلالة هذا المخطّط؟ النّص التحتي المكّابي يقدِّم لنا لمحة عامّة. فالسِّفران المكّابيّان 2 و3 يحتوي كلّ منهما على حلقات مركزيّة تؤدّي فيها المكيدة الوثنيّة الشيطانيّة ضدّ اليهود وظيفة سرديّة هامّة بصرف النّظر عن محاولة تنفيذ هذه المكيدة(32).
في سفر المكّابيّين 2، نرى أنّ مكيدة نيكانور المشؤومة المتمثّلة في مهاجمة اليهود يوم السّبت بجيوش من الفِيَلة كان قد تأسَّف لها شديد الأسف مستشاروه اليهود. فهذه المكيدة استُخْدِمت هنا إذن لإبراز نقيضيْن، فهي تضع شرّ نيكانور اللاّمتناهي مُقابِل إخلاص اليهود للشّريعة السّماويّة (مك 2؛ 15: 1-5). ومن خلال التّركيز على مُخطّط انتهاك حرمة يوم السّبت، فإنّ منزلة نيكانور، الذي يوصَف بأنّه "أرذَل بشر على وجه البسيطة"، تتناقض مع اليهود المخلصين والملتزمين بقدسيّة يوم السّبت والذين هم شعب الله المختار والمُحبَّب إليه. فإخلاص اليهود المتين للشّريعة الإلهيّة، الذي يبدو وكأنّه ضعفهم الكبير، يتّضح على العكس من ذلك أنّه سبب خلاصهم لأنّ الله يجازي دائما هذ الإخلاص، الذي أصبح دراماتيكيّا مع نيكانور ومكيدته، ويُعاقب الأشرار الذين يحاولون استغلال هذا الضّعف.
يصف سفر المكّابيّين 3 وصفا دقيقا مخطّط الملك بطليموس لإبادة اليهود المصريّين إبادة تامّة بواسطة استخدام فِيَلة هائجة. ولكنّ تدخُّل العناية الرّبّانيّة تُفسِد في مرّات عديدة مكيدة الملك بطليموس بَدْءًا بإجباره على النّوم مرّتين، ثمّ عندما أرسل الملاكيْن اللاّمرئيّيْن استجابة لدعاء أليعازر واللّذيْن رَوَّعا جيوش الملك وجعلا الفِيَلة تنقلب على الجنود وتدوسهم حتّى الموت تماما كما كان الملك يريد أن تدوس فِيَلتُه اليهود المصريّين.
إنّ هذه المخطّطات الشيطانيّة في النّصوص البيْبليّة تشكّل تفسيرا يتّفِق إتّفاقا تامّا مع العبارة القرآنيّة "كَيْدَهم" في سورة الفيل. ولكن يمكن أن نتساءل عن أيّ من النصَّيْن المكّابيَّيْن وخِطَطِهما الدّنيئة هو النَّص البيْبلي الذي يتماشى أكثر مع هذا؟ من المرجَّح أن يكونا كلاهما معا وقد مَزَج بينهما القرآن، وذلك بالرّغم من أنّ احتماليّة أن يكون الأمر متعلِّقا بهذا أو ذاك من النصّيْن تظلّ واردة ولا يمكن تجاهلها. ففي المكّابيّين 3، نرى أنّ فِيَلة الملك تلعب دورا مركزيّا في المكيدة ضدّ اليهود ولها على الأرجح تأثير أكثر قوّة هنا. ومع ذلك فإنّ غياب عناصر سرديّة مُوَسَّعة في سورة الفيل -إيجازها المُلْغِز- يتطابق مع عادة القرآن في اتّباع هذا الأسلوب للإيحاء للقصص البيْبليّة التي كان جمهور مُستمعيه يعرفها سَلَفًا. بالإضافة إلى ذلك، عندما يكون هناك احتمال لتعارض النّصوص المقدّسة السّائدة (مثل قصّة الفِتْية النّيام(33) "أهل الكهف")، يميل القرآن إلى التّركيز على الرّسالة الرّئيسيّة المشتركة بينها، في حين أنّه يُقلِّل من شأن الإختلافات سواء ما كان منها غير ملموس أو غير مؤكَّد. إنّ الثّيمة المركزيّة للمكّابيّين 2 و3 ورسالتهما يتمّ التعبير عنهما بشكل رائع في التّذكير القرآني بهما في سورة الفيل وهما خاليتان من أيّ جزئيّات سرديّة متضاربة.
إن مجيء هذا النّص التحتي البيْبلي في سورة الفيل هو منطقي جدّا ومعقول تماما لا سيما وأنّ المكّابيّين 2 و3 هما نصّان تضمّنتهما المخطوطات المبكِّرة للعهد القديم السّرياني (البسيطة)، ويمكن أن يكون لهذا المُعطى تأثير مُفتَرض. فبَدَلاً من أن نتعرَّف هنا على سردٍ لحادثة تاريخيّة لا تُصدَّق، تتمثّل في قيام قريش المُشركة بالتوسُّل إلى الله أن يسحق جيشا من فِيَلة حاكمٍ مسيحي يزحف نحو مكّة، يجب بالأحرى أن نفهم سورة الفيل على أنّها مجرّد إحالة مباشرة للقصص البيْبليّة المُنشِرة بخصوص يهود العصور القديمة الأتقياء تمّ إنقاذهم من الجيوش الوثنيّة ومن فِيَلتها الشّرسة بفضل تدخّل الرّب الوفيّ لشعبه المختار حيث يقوم بإفشال مخطّط الوثنيّين الشرّير وإرسال فِيَلة الحرب ضدّ أسيادها لكي تسحقهم سحقا. والعْبرة من وراء كلّ هذا هي وجوب المثابرة في الإيمان بالرّب ضدّ السّلطة الدنيويّة الوثنيّة(34). فعندما نفسّر سورة الفيل على ضوء هذا النّص التحتي البيْبلي القانوني عوض أن نفهمها من خلال المأثور الإسلامي التقليدي، فإنّها تقوم عندئذ بتكرار مواضيع القرآن الرئيسيّة وتُقوّيها. فسورة الفيل، على غرار السّور المكّيّة المبكِّرة الأخرى، تحثّ على التّقوى والمثابرة في الإيمان اللّتين بفضلهما ينتصر المؤمنون الموحّدون ضدّ اضطهاد وبطش الوثنيّين، ومشدّْدة على وفاء الرّب بصفته الحامي لشعبه المختار والذي يتوعَّد المشركين بتسليط العقاب السّماوي عليهم. وهذه الثيمة المركزيّة تؤكِّدها قصص بيْبليّة كثيرة أخرى، مثل قصّة شقّ البحر الأحمر وخلاص لوط ... وما إلى ذلك، التي كان القرآن مولَعا بإعادة سردها. من المفترض أن يكون جمهور المستمعين الأصلي لسورة الفيل قد فهم بكلّ سهولة هذه التذكيرات الوعظيّة التي تستند على خلفيّة القصص التّوراتّية التي تتّخذ شكل "أَلَمْ تَرَ؟".
9 – الكبريت والطير – أو بالأحرى الملائكة المصطفّة – باقي سورة الفيل
سوف نناقش لاحقا باقي نصّ سورة الفيل بشكل مقتضَب. فعلى الرّغم من أنّ قراءة سورة الفيل على ضوء "المكّابيّين"، التي عرضناها أعلاه، لا تتوقّف على هذا التحليل الإضافي، إلاّ أنّها توضّح مع ذلك كيف ينبغي لنا قراء سورة الفيل بالتّطابق مع الموضوعات الأساسيّة للتّوراة والقرآن، وذلك عوضا عن فهمها بالمأثور التقليديّ الذي يزعم، "بدوم أيّ رابط واضح جليّ"(35)، أنّها تشير إلى حلقة مُذهلة من تاريخ مكّة قبل الإسلام. يجب فهم الألفاظ الصّعبة للآيتيْن 3 و4 لسورة الفيل على أنّها إشارة مباشرة نسبيّا إلى مجموعة من الملائكة التوراتيّة وقد انتظمت مصطفّة لكي تُنفِّذ العقاب الإلهي على أصحاب الفيل.
الآية 4 من سورة الفيل تروي كيف وقع تدمير أصحاب الفيل بوابل من حجارة من طين "حجارة من سجّيل". وعلى الرّغم من أنّ المفسِّرين لم يكونوا قادرين على تقديم تفسير مُرْضٍ تماما للفظة "سِجِّيل"(36)، الذين اعترفوا أنّها مُشتقّة من أصل أعجمي، ويُرجِّح أغلبهم أنّها من أصل فارسي، فإنّ معناها في سياقها التقريبي واضح جدّا نظرا لورود صيغة متوازية لها في الآية 82 من سورة هود: "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ". والمقصود هنا تدمير سَدوم، القرية العظيمة الكافِرة، بوابل من حجارة من طين بالمعنى التقليدي للكلمة، أي "طين مُستَحْجَر"، وقال بعضهم "حجارة مشْويّة"، "مطبوخة" أو "قويّة صلبة"...إلخ. الآية 33 من سورة الذّاريات تقدِّم تعبيرا متوازيا في سياق الحديث عن زيارة المُرسَلين السّماويّين إلى إبراهيم وإخباره بأنّهم أُرْسِلوا لتنفيذ عقاب الرّب على "قَوْمٍ مُجْرِمِين" يقضي بأن يُمطِروا "عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ"، ولكنّهم أنقذوا من هذا العقاب مَن كان في هذه القرية من المؤمِنين فلم يجدوا فيها "غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ"، وفي هذا إشارة إلى الرّواية التوراتيّة لإنقاذ لوط. وهكذا، فإنّ المصطلح القرآني "سِجِّيل" كان قد وقع فهمه إذن على أنّه يُعادِل اللّفظة العربيّة "طِين" كما جاءت في الآية 33 من سورة الذّاريات، أي بمعنى الصلصال(37).
إنّ الروايات الإسلاميّة التقليديّة (على غرار تلك التي أوردها ابن كثير) تصف على الأرجح كُرات الصلصال هذه بأنّها تحمل أوبئة مثل الحَصبة والجُدَري تُسبِّب تعفُّن لحم وعظم الضّحايا. ويُروى أنّ أبرهة مات جرّاء ما خلّفته على جسده هذه الأوبئة التي أصيب بها.
من المرجّح جدّا أنّ هذه العبارة تُحيل إلى الكلمة التّوراتيّة "كِبْريت"، وهي إشارة عربيّة، باستخدام لفظة أجنبيّة اقتُرِضَت من الفارسيّة الوسطى، إلى الكلمة العبريّة "ڤُفْريت" الواردة في سفر الخروج 19: 24، التي كانت تعني حَرْق الكبريت "وَأَمْطَرَ الرَّبُّ على سَدُومَ وعَمورةَ كِبْريتًا وَنَارًا مِنَ السَّمَاوَات". بالإضافة إلى هذا نرى أنّ الآيتيْن 82-83 من سورة هود تصفان "الحجارة من سجّيل" على أنّها كانت "مَنضودَة" وهي "مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ"، الشيء الذي يوحي بوجود أمر أو حُكم إلهي مُسجَّل، أي مكتوب فوق كلّ حجارة (كما أورده ابن كثير)، وهذا يمكن أن يكون متطابقا مع العبارة الاعجميّة المُعرَّبة "سِجِّيل" مفهومة كأمر مكتوب من قِبَل امبراطور بعيد، وقدّمه ملاكا الله بصورة مُتخيَّلة على أنّه في نفس الوقت حُكم الله المكتوب وقع تنفيذه من طرفهما. الآية 33 من سورة الصّافات تأتي بصيغة مُعدَّلة "حِجارَةً مِنْ طِين" وهي "مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ"، ولكن على عكس ما جاء في سورة هود، فإنّ الحجر من طين الذي ورد في سورة الذّاريات لم يُوصَف بأنّه "مَنْضُود".
وهكذا نرى أنّ الآية 4 من سورة الفيل تتخيّل أنّ الجيش الوثني الشرّير وقع ضربه وتدميره بواسطة ما يُعَادِل الكبريت الإلهي، وذلك طبقا للتّعبير الموازي لتدمير سَدوم وعَمورة الذي تحدّثت عنه الآية 82 من سورة هود والآية 11 من سورة الذّاريات، على غرار الثيمة القرآنيّة العامّة المتعلِّقة بالعقاب السّماوي الذي أُعِدّ للطُّغاة المستهزئين. ولكن هناك اختلاف واحد مُهمّ. ففي الآيتين 82 من هود و33 من الذّاريات نلاحظ أنّ الحجارة من سجّيل/طِين رمتها مجموعة من الملائكة. في الوقت الذي يتعرّف فيه الرأي التقليدي في سورة الفيل على "سِرْب من الطيور" على أنّه هو الذي وُكِّلت له مهمّة تنفيذ نفس العقاب. فلماذا يا ترى وجود هذا الفارق بين هذه الإستخدامات القرآنيّة الثلاثة لِلُغة عقاب متطابقة تقريبا؟
الجواب على ذلك سهل. لا يوجد في الواقع فرق بينها. فجميع الأمثلة القرآنيّة الثلاثة لهذه اللُّغة العقابيّة يجب أن تُفهَم بالطريقة نفسها بالضّبط: الأمر يتعلّق في كلّ الحالات بأنّ العقاب الإلهي أُنْزِل من فوق على الكفّار الأشرار ونفّذته الملائكة. وهذا يجعل اللّغة القرآنيّة متّسِقة. كما يجعلها متطابقة مع النّص التحتي التوراتي لسورة الفيل. ففي اللحظة الحاسمة في المكّابيّين 3؛ 6: 18، الرّب "العَظِيم والمَجِيد والإله الحَقيقيُّ كَشَف عن وجْهِه القُدُّوس، وفَتَح أبْوابَ السَّمَاء مِنْ حَيْث نَزلَ ملاكان يَرْتَدِيان المَجْد والشَّكْلَ المَهِيب. فَرَآهُما الجَميعُ ما عَدا اليَهودُ". ثمّ سَحَقت الملائكة جيش بطليموس وفِيَلتَه. والآية 4 من سورة الفيل يجب أن تُفهَم كذلك، على أنّها تُحيل إلى عقاب إلهي نفّذه بنفس الطريقة جيش من الملائكة لإنقاذ المؤمنين (أي اليهود التوراتيّين) من براثن أصحاب الفيل.
إنّ القراءة "الملائكيّة" للآية 4 من سورة الفيل تُعين على حلّ مشاكل مستعصية عديدة في الآية التي قبلها والتي تبقى مع ذلك مُبْهَمة شديد الإبهام في قراءتها العربيّة الكلاسيكيّة عندما تفسّر "طَيْرًا أَبَابِيل" بـ"أسراب من الطيور" التي زُعِم أنّها رمت السِجِّيل على أصحاب الفيل. فإذا كانت الآية 4 من سورة الفيل تُشير إلى الكبريت، فإنّه من الصّعب فهم لماذا تكون الطّيور هي التي ألقته على الكافرين، وأصعب أن تكون هذه الطّيور "أبابيل". من المؤكّد أنّه لا ذِكرَ لأيّ طائر في الصيغة الموازية في الآية 82 من سورة هود، عندما يُدمِّر الله الظّالمين باستخدامه وابلا من "سجّيل" ترميه الملائكة وليس الطّيور. أمّا النّصوص المكّابيّة فهي نادرا ما تتحدّث عن الطّيور(39).
المُقتَرَح هنا أن يكون المفسّرون قد فهموا بشكل صحيح لفظة "أبابيل" بمعنى "أسراب" أو "فرق يتبع بعضها بعضا"، ولكنّ الآية 3 من السّورة تستخدم هذا المصطلح لوصف مجموعة من الملائكة السّماويّة وليس أقاطيع الطّيور. "أبابيل" هي ببساطة لفظة غير اعتياديّة استُخْدِمت للإشارة إلى ما هو شائع في القرآن والذي مفاده أنّ مجموعة من الملائكة السّماويّة "اصطفّت" أو "انتظمت في صفوف" – وهو مصطلح حاضر بقوّة في الخطاب القرآني إلى درجة أنّ هناك سورة بأكملها تحمل اسم "الصّافّات"، السورة التي تروي اصطفاف مجموعات من الملائكة في صفوف. هناك مثال آخر جاء الآية 22 من سورة الفجر حين يجيء الرّبّ ليوم الحساب هو "وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا". وكذلك الآية 9 من سورة الأنفال، التي فهمها المأثور التقليدي على أنّها تتحدّث عن معركة بدر عندما يقع تذكير المؤمنين: "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ"(40). وهناك العديد من الأمثلة القرآنيّة الأخرى بهذا الصدد. وهنا يسأل السّائل، لماذا يا ترى تَستَخدم الآية 3 من سورة الفيل اللّفظة الغريبة "أبابيل" للتّعبير عن هذه الثيمة المتكرّرة في القرآن حول وجود ملاك يحارب بين صفوف المؤمنين ذلك عوض أن تلجأ لاستخدام ما يعادلها من التّعابير القرآنيّة المألوفة مثل "صَفًّا"؟ التفسير البسيط الذي يتبادر إلى الذهن هو أنّ استخدام الكلمات العربيّة البديلة الأخرى كان من شأنه أن يُفسِد القافيّة الصارمة المفروضة في الآيات 1-4 من السّورة، والتي تقف كلّ واحدة منها على "إِيل"، في حين أنّ الكلمة الشّاذّة "أبابيل" تتناغم تمام التّناغم مع هذه القافية.
في الأخير، نقف قليلا عند كلمة "طَيْر" كما استُخْدِمت في الآية 3 من سورة الفيل، والتي فُهِمت تقليديّا في معناها الحرفي. وهذا التفسير الحرفي قد أربك التفسير التقليدي للآيتين 3 و4. وفقا للمناقشة أعلاه، فإنّ لفظة "طَيْرًا" يجب أن تُفهَم كتعبير مجازي مبسّط للملائكة التي، على غرار الطّيور، تمّ تصوُّرها وتصويرها كمخلوقات فضائية مُجَنَّحَة في النّصوص المسيحيّة والإسلاميّة في أواخر العصر القديم بما فيها القرآن نفسه. فنرى مثلا أنّ الآية 1 من سورة فاطر تصف بوضوح تامّ الملائكة بأنّها مخلوقات مُجنَّحة: "الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ"(41). إذن، لقد فُهِمت الملائكة، في الخطاب القرآني، على أنّها مخلوقات جويّة ذات أجنِحة وتكون لفظة "طَيرًا" بمثابة إستعارة طبيعيّة لها. ولكن، خلافا للطّيور، في معناها الحرفي، فإنّ الملائكة التوراتيّة والقرآنيّة على حدّ سواء غالبا ما يقع وصفها على أنّها تنزل من السّماء لكي تُنَفِّذ عقاب الرّبّ، تماما كما جاء ذلك في سفر المكّابيّين 2؛ 6: 18-21. ولذلك فمن المنطقي جدّا أن ينزل فريق من الملائكة المُجنَّحة (طَيْرًا) من السّماء صفًّا صفًّا (أَبَابِيل) لتدمير الطُّغاة المشركين وذلك "بِحِجَارَة مِنْ سِجّْيل"، كما تفعل الملائكة في الآيتين 82-83 من سورة هود، والآية 33 من سورة الذّاريات بتعبيراتها البديلة(42).
إنّ هذا التفسير "الملائكي" هو أكثر معقوليّة بكثير من الرؤية التقليديّة التي تعتبِر أنّ الآيتين 3-4 من سورة الفيل تحكي عن الفترة التي أرسل فيها الله طيورا ترمي الجنود المسيحيّين الأحباش بحجارة من الطّين المشوي في الفرن [الفخّار]. ما عدا تأويل كلمة "طَيراً" كإشارة للملائكة، فإنّ التّفسير لا يتطلّب أي فهم جديد للّغة العربيّة أو إملاء سورة الفيل. كما أنّه لا يتطلّب فهما غير مألوف للرسالة الوعظيّة للسّورة، أو لسياقها الاجتماعي الأصلي أو لأسلوب تأليفها. وبدلا من ذلك فإنّ هذا التفسير الذي قدّمناه يتعامل مع سورة الفيل كجزء متماسك من المُدوَّنة القرآنيّة في مجملها، ممّا يجعل لغتها أكثر اتِّساقًا مع لغة وثيمات القرآن الأوسع.
الآية الأخير للسّورة بسيطة الفهم نسبيّا؛ فهي تصف كيف أهلك الله ودمّر قوّات العدوّ تدميرا حتّى صارت كالقشّ أو التِّبن أو القشرة التي على الحبّة أو ورق الزّرع إذا أكلته البهائم فراثَته. وبالرّغم من لفظة "عَصْف" الغريبة سبّبت إشكالات كثيرة للمفسِّرين المسلمين، إلاّ أنّ معناها في سياق السّورة يبدو واضحا بما فيه الكفاية من حيث أنّ التهام شيء مّا يخلِّف بالضّرورة بقايا من فُتات أو رَوْث أو غيره من النّفايات. ملاحظة أخيرة نُشير بها إلى أنّ الكلمة "مَأْكُول" التي تَخْتِم السّورة تَكْسْر نظام القافيّة الصّارم في الآيات السّبقة وذلك بانتهائها بالرّويّ "ول" عوضا عن "يِل".
10 – خاتمة
سورة الفيل، بالرّغم من قصرها، هي نصّ ذو دلالة بالغة. من المُفتَرض أنّه كان لها وقع كبير في أواخر العصر القديم كلّما كانت تُتْلى على جمهور المستمعين النّاطقين بالعربيّة على أنّها مرجَع شعريّ للقصص البيْبليّة القانونيّة (أساسا عند الكنيسة المسيحيّة الشرقيّة) الواردة في سِفْرَي المكّابيّين 2 و3. إنّ سورة الفيل تَستَحضر وتُكرِّر الثيمة القويّة المتمثّلة في الإخلاص الإيماني التوحيدي الذي يجلب الخلاص من خلال العقاب الإلهي المسلّط على المشركين الطّغاة؛ هي نفس الثيمة التي تشكّل نواة المكّابيّين 2 و3 الرئيسيّة وتستخدم نفس المُبرِّر المدهش المتمثّل في فِيَلة الحرب الملكيّة كرَمْز وتجسيد للقوّة الوثنيّة المعادية وجبروتها.
إنّ سِفْريْ المكّابيّين 2 و3، باشتراكهما في التّركيز على طَلَب الشّهادة، والدّأب والمثابرة في الإيمان، والخلاص الإلهي، يقدّمان مفاهيم دينيّة تصبّ كلّها في اتّجاه ما سيُصْبح لاحقا الثيولوجيا القرآنيّة التي تنسجم مع أساس التوحيد البيْبلي المسكوني، وهي مفاهيم دأب الدّارسون على نحو متزايد على تحديدها كجزء من المحيط المبكِّر للقرآن.
من الممكن أن تكون سورة الفيل، التي هي واحدة من أقدم السّور القرآنيّة، قد اعتمدت على المعلومات المتوفِّرة آن ذاك عند جمهور مستمعيه بخصوص التّقليد الديني المتعلِّق بقصص الخلاص التي كان يتشاركها اليهود والمسيحيّون، والتي كان بإمكان كلّ النّاطقين بالعربيّة الموحّدين التعرّف عليها وتقبّلها بصفتها رسالة سماويّة.
وممّا يدعم هذه النّقطة ويُعزِّزها هو تفسير الآيتين 3-4 من سورة الفيل على أنّهما إشارة إلى فِرَق من الملائكة نزلت مصطفَّة من السّماء لتنفيذ العقاب الإلهي على الوثنيّين الأشرار، وبالتّالي إنقاذ المؤمِنين البيْبليّين الأوّلين.
وعلى النّقيض من هذا التّفسير البسيط والمتماسك لسورة الفيل المستَنِد على نصّ تَحْتي بيْبلي معروف جدّا، فإنّ التّفسير الإسلامي التقليدي لهذه السّورة (ونظيره الأكاديمي العلماني) يعاني في العمق من التخبّط في جزئيّات أسطوريّة، وتناقضات ومشاكل تاريخيّة.

__________________
الهوامش
(25) يظهر هنا أنّ طلب الشّهادة هامّ بصورة خاصّة، إذ يحاول السلوقيون مرارا وتكرارا إجبار اليهود على انتهاك شريعة الرّب، ولكنّهم في كلّ مرّة يرفضون ذلك رفضا تامّا.
(26) "34وَأَمَّا نِكَانُورُ الشَّدِيدُ الْفُجُورِ، الَّذِي كَانَ قَدِ اسْتَصْحَبَ مَعَهُ أَلْفَ تَاجِرٍ لِمُشْتَرَى الْيَهُودِ،35 فَلَمَّا رَأَى الَّذِينَ كَانَ يَحْتَقِرُهُمْ قَدْ أَذَلُّوهُ بِإِمْدَادِ الرَّبِّ، خَلَعَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ وَانْسَابَ فِي كَبِدِ الْبِلاَدِ مُنْفَرِداً كَالآبِقِ، حَتَّى لَحِقَ بِأَنْطَاكِيَةَ وَهُوَ مُتَفَجِّعٌ غَايَةَ التَّفَجُّعِ لاِنْقِرَاضِ جَيْشِهِ،36 وَبَعْدَمَا كَانَ قَدْ وَعَدَ الرُّومَانِيِّينَ بِأَنْ يَفِيَهُمُ الْخَرَاجَ مِنْ سَبْيِ أُورُشَلِيمَ، عَادَ يُذِيعُ أَنَّ الْيَهُودَ لَهُمُ اللهُ نَصِيرٌ، وَأَنَّهُمْ لِذلِكَ لاَ يُغْلَبُونَ، إِذْ هُمْ مُتَّبِعُونَ مَا رَسَمَ لَهُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ" (مكّابيّون 2؛ 8: 34-36).
(27) يقدِّم سِفْرا المكّابيّين 1 و2 روايات مختلفة عن حملات نيكانور ضدّ اليهود.
(28) أنظر، سفر المكّابيّين 2؛ 15: 1-5.
(29) أنظر،
H. Anderson, “3 Maccabees,” The Old Testament Pseudepigrapha, Vol. II, ed. J. Charlesworth (1983) p. 512.
(30) سفر المكّابيّين 3؛ 6: 19-21.
(31) يعود الإشتباك المُبكِّر والحاسم بين الفرس السّاسانيّين والجيوش العربيّة المُسلِمة إلى معركة القادسيّة عام 636 م. ويُروَى أنّ الجيش السّاساني كان يحتوي على 33 فيلا حربيّا هنديّا. وقد فازت الجيوش العربيّة بانتصار حاسم ضدّ خصومها السّاسانيّين.
(32) إنّ الحملات العسكريّة المتعدّدة التي ترويها النّصوص المكّابيّة يُفتَرض أنّها اتّخَذت خططا مختلفة. ولكن من الملاحظ أنّ رَصْد خطّة (مكيدة) جهنّميّة كموضوع سردي مركزي لم يَرد إلاّ في حالات خاصّة ومحدّدة.
(33) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا" (الكهف، 22).
(34) تتّفق هذه الرّسالة مع قراءة لوكسنبيرغ لسورة الكوثر، وهي إحدى السّور المكيّة المبكِّرة. أنظر:
C. Luxenberg, The Syro-Aramaic Reading of the Qur’an (2007), p. 295.
(36) أنظر:
N. Sinai, “The Qur’an As Process,” The Qur’ān In Context: Historical and Literary Investigations into the Qur’ānic Milieu, ed. A. Neuwirth (Leiden 2010), p. 428.
(37) أنظر، A. Jeffery, Foreign Vocabulary of the Qur’an (1938), p. 164
(38) في ترتيبه الكرونولوجي للسّور، يضع نولدكه سورة الفيل في الفترة المكيّة المبكِّرة، والذّاريات في أواخر الفترة المكيّة المبكِّرة، وهُود في الفترة المكيّة الثالثة.
(39) وبالتّحديد، مَلاكَانِ "(19) وقفا قبالة جيش الأعداء، وملآهم ضياعًا وخوفًا، وربطاهم بقيود لا تتحرّك. (20) وحلّت رعشة في جسد الملك، فصارت عجرفتُه ووقاحته كلا شيء. (21) واستدارت الحيوانات على الجنود الذين يتبعونها فسحقتهم ودمّرتهم" (مكّابيين 3؛ 6: 19-21).
(39) مع استثناء واحد ملحوظ. في مكّابيّين 2؛ 15: 33، نرى يهوذا المكّابي يتباهى بأنّه قَطع لسان نيكانور وألقاه إلى الطّيور: " ثُمَّ قَطَعَ لِسَانَ نِكَانُورَ الْمُنَافِقِ، وَأَمَرَ بِأَنْ يُقَطَّعَ قِطَعاً وَيُطْرَحَ إِلَى الطُّيُورِ وَتُعَلَّقَ يَدُ ذلِكَ الأَحْمَقِ تُجَاهَ الْهَيْكَلِ".
(40) ترجمة: Pickthall
(41) ترجمة: Pickthall
(41) قد يُساعد هذا في الإجابة على حلّ لُغْز قرآنيّ آخر: لماذا تقول سورة النّمل أنّ سُليمان قاد جُنودا "مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ" كانوا منتظمين كُلُّ في صفّ مرتَب له لا يتقدّم عنه ولا يتأخّر " يُوزَعُونَ"؟ قد تكون كلمة "طَيْر" في اللّغة العربيّة القديمة تُشير بكلّ بساطة إلى "الملائكة".، وهكذا يكون الملك اليهودي قد قاد جيشا متناظِرا متكوّنا من الكائنات المخلوقة الذّكيّة مُنتَظِمة في صفوف عسكريّة. تتّفق التّقاليد المسيحيّة واليهوديّة للعصور القديمة على أنّ الملك سليمان كان قد اشتَهر بأنّه ساحر عظيم يستطيع السّيطرة على الملائكة والجنّ مجتمعة مع الجيوش الأرضيّة؛ والنّص الأبوكريفا المعروف باسم "كتاب سُليمان" خير دليل على ذلك. ولكن مع تنامي صرامة التوحيد الإسلامي فإنّ الأوساط القرآنيّة بدأت تنظر شيئا فشيئا إلى لقيادة سليمان الأسطوريّة للملائكة على أنّها شِرْك لا يُقبَل البتّة، لأنّ الله وحده هو القادر على التحكّم في رُسُله من الملائكة وتسييرها بالأمر والنّهي؛ وعلى النّقيض من ذلك فإنّ الجنّ كانت نسبيّا مقبولة كخَدم للبشر. فحتّى محمّد نفسه لم يستطِع أن يأمُر الملائكة: "لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ" (الحجر، 7). بعد تصحيح مشكلة "الشِّرك" هذه في التقاليد الموروثة، أُعيد تفسير جيش سليمان الأسطوري "الطّائر" في معنى أكثر حرفيّة فأصبح يدلّ على طيور وديعة غير مؤذِية بدلا من ملائكة الله. إذا كانت هذه الأطروحة التخمينيّة صحيحة فإنّ قصص سليمان الواردة في النّص القرآنيّ تعكس المرحلة التي تمّ فيها تقريبا اكتمال هذا التحوّل الدلالي للّفظة. ففي وقت تأليف سورة الحجر، أصبح سليمان آنئذ قائدا لأسطول من الطّيور قُدِّم في أقاصيص جديدة بألوان زاهية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53


.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن




.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص