الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دراما الشرق: ​ جلال امين في التنمية والازدواجية الاجتماعية

مظهر محمد صالح

2018 / 10 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


دراما الشرق:
​جلال امين في التنمية والازدواجية الاجتماعية
​د. مظهر محمد صالح

​لــم ابتعد في المسافة الفكرية بين ما كتبه الاقتصادي المصري الراحل جلال امين في واحدة من روائع كتاباته المنشورة قبل سنوات في صحيفة الشروق المصرية والتي جاءت تحت عنوان ( التحدي الاكبر امام اي رئيس مصري جديد ) اقول لـم ابتعد عنه في تفسيره لظاهرة التخلف الاقتصادي المقيدة بالازدواجية الاجتماعية وانقسام المجتمع كما ساقتها ادبيات التنمية في خمسينيات القرن الماضي الى قسمين كخصيصة من خصائص الدول المتخلفة وتبعثر التنمية الاقتصادية فيها ولاسيما النظر الى مظاهر الحضارة الغربية وحجم الابتعاد او الالتصاق بين فئات المجتمع الواحد والذي يفسره البعض الى الاختلاف في النظرة الى الدين في المجتمع ومحاولة تقسيمه بين علمانيين ملتصقين بالمركز الاوربي او الغربي سلوكا مميزا لهم وبين الملتصقين بحاجز الدين وانغلاق مريديه الى الداخل .

​فالمجتمع كما يراه جلال امين مازال منقسما بين فريقين انقساما رهيبا اسبغ مشكلات جمة على حياة الناس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في تفسير الحرية والخبز والعدالة الاجتماعية وفي نوع الاتصال والتواصل بالمدنية الغربية .

​مهما قاله جلال امين ، فانه لم يبعدنِ كثير عن ذلك الحوار المُركز الذي استخلصته قبل اكثر من اربعة عقود ونيف من الزمن مع زميلي في الجامعة الذي كان ماركسيا من الطراز الاول ولكن ملتصق في صفوف شغيلة بلادي وفلاحيها وكسبتها في تلك الايام الساخنة التي كان يعيشها العراق في اقوى عصوره (ادلجةً) ، في حين كُنت من اشد الملتصقين في الجانب الاخر من الخيال الاديولوجي للمادية التاريخية والحركات المجتمعية عبر الالتصاق بالمركز الغربي وخيال الفكر ومناخ الفلسفة الاوربية في انقطاع رهيب عن تلك الجموع التي كان يتلصق بها زميلي ، في حين ان كلانا كان يمارس الازدواجية ولكن بنمطين مختلفين كما اشرنا . واللافت ان كلانا كان موحدا بنظرته في تفسير ظاهرة الازدواجية في مجتمعاتنا المشرقية على الرغم من اننا مستقطبين ايضا في معسكر الازدواجية الاجتماعية بطرق قـد يختلف فيها احدنا عن الاخر سواء في الهوية القومية او الطراز المذهبي او غيرها من انماط ضعف هذه البلاد وتفكك تجانسها .

​فبالقدر الذي إلتحمنا فيه نحن الاثنان في نسيج عابر للطوائف والقوميات والمذاهب ، اذ يلتصق صاحبي بقوى الشعب المنتج وانا التصق تلقائياً باشعاع الفكر الفلسفي الاوربي في تفسير حركة التاريخ وتطور المجتمعات ، الا اننا كنا متفقان بأن الرأسمالية في بلاد مابين النهرين هي الاخرى موحدة في معسكرها وعابرة للطوائف والقوميات تجمعها مصلحة واحدة هي تراكم رأس المال الذي يميل نحو الألفة والاتحاد حسب مركز المصلحة مع ممارسة الانعزال الشديد بالجزء الاخر من المجتمع مما يوفر استمرارا وتطورا في الازدواجية المجتمعية . وبعد ان انتهيت من زميلي وغادرنا سوية محاور لقائنا، اتجهت هذه المرة ( انا ورأس المال) في الذوبان في بوتقة الالتصاق بالمركز الرأسمالي والفكري الغربي ولكن بطريقيتين علمانيتين مختلفتين ، فهم بدون شك شلة من مالكي رأس المال التجاري الذي نسميه براس المال (الكامبرادوري) وهي الظاهرة التي يلتصق فيها رأس المال الشرقي بالمركز الرأسمالي الغربي ويتجانس معه في المصلحة وينفصل عن حركته الاجتماعية لترسيخ حالة الازدواجية ، وانا من جانبي غارق في خيال العلمانية وملتصق بآديولوجيا الصراع في المركز الاوربي العريق الثقافة كي انعزل عن حركتي المجتمعية بأنانية برجوازية خطيرة الميول !

​وعلى الرغم من ذلك ، نجد ان الرأسمالية الشرقية الموحدة والمتجانسة فيما بينها والملتصقة بالمركز الغربي والمعزولة بأسيجة قوية وساخنة عن مجتمعاتها ضمن ظاهرة الازدواجية الاجتماعية ، تجدها تلتحم ببرود مع النصف الاجتماعي الاخر تارة وتمارس ميول دينية ومذهبية وقومية ساخنة وتنتزع ثوب علمانيتها وتنفصل عنه تارة اخرى في اغتراب خطير وبمستوى لم يسبق لـه مثيل في حركة وجودها التاريخي، وحسب مركز مصلحتها وديمومة الانفصال بين الفريقين الاجتماعيين ، اذ امست تلك الرأسمالية تمارس ازدواجية ديناميكية للتخفيف من غربتها مع المركز الاوربي، كلما كانت في حاجة لتلتحم مع التناثرات الاقتصادية والاجتماعية في هوامش بلدانها ما يعزز وجودها وديمومتها والقدرة على الاستغلال ومصادرة الفائض الاقتصادي من جموع انهكتها صراعاتها و هي ماتزال منغمسة في تفسير ظواهر الميتافيزقيا او ماوراء الطبيعة .

​مازلنا نحن شعوب الشرق نعيش تصورا مبهماً في انفصال المجتمع وازدواجيته بين فئة علمانية ملتصقة بالمراكز الغربية ومدنياتها تدًعي الانفتاح نحو الخارج وبين فئة دينية تعيش الدين في أفق الشرق المغلق ، وفي الاحوال كافة نجد في هذا التوصيف للازدواجية هو ابتداع اخذ يغلف مكنونات صراع الطبقات وتذويب الاستغلال في حاضنة افتراضية من حواضن البنيان الفوقي (كما يحلو للماديين التاريخيين تناوله ) لنسيان الصراع بين القوى المستغِلة والقوى المستغلّة . وان من يريد ان يرتقي من القوى المسحوقة الى مصاف القوى الساحقة ،ليلغي ازدواجيته الطبقية ،عليه ان يتخلى عن مكنوناته الدينية ويتمتع بعلمانية منقطعة النظير والذوبان في مُسخراتها الايديولوجية وان كان مفلساً تسحقه ميادين الانتاج او ضياع فرصة الاتناجية وتدهور عيشه وفقدان الامل في المستقبل.

​وبالطبع ، فأن مايسري على الفقراء في الدين لايسري على اغنياء الدنيا في محاور العلمانية . انه انفصال اولئك الفقراء المتطلعين من داخل المجتمع الادنى وملتصقين بالمجتمع العلماني الاعلى في حاضنة الجذب، اسمها المركز الرأسمالي الغربي وهي تحاول تخطي ازدواجيتها الطبقية بهذه الطريقة المخجلة . وعندها ستكون العلمانية الفقيرة تابعة في ازدواجية اخرى عمودية في التصاقها مع رأسمالية تتجاهلها وهي في الوقت نفسه منفصلة عن واقعها الطبقي . وهكذا يجري تغليب صراع الطبقات كما تراه المادية التاريخية في الشرق وتحويله الى ازدواجية طبقية تحدث صراعا مخيفاً بفعل الانغلاق الديني او المذهبي وولوج عصر دول الطوائف او العصبيات القومية في اخطر ازدواجية اجتماعية ينال الشرق القسط الاعظم منها في الوقت الحاضر .

​هالني ماكتبه جلال امين وهو يتناول تلك الازدواجية التي يصطدم فيها مجتمع العلمانية ومجتمع التدين دون المساس بصراع الطبقات للاسف الشديد موضحا كيف تتفاعل وتتنافر تلك القوى داخل المجتمع المصري في يومنا هذا ، وقد نجده مصيباً على مستوى البنية الافقية المجتمعية في تناوله مسألة القوى العلمانية بكونها القوى الاجتماعية التي تغترب عن مجتمعاتها وهو يتحدث عن حال مصر حين ارتهنت تلك القوى الى مدنيات وثقافات خارج البلاد وخلق حاضنة سريعة التواصل لايوفرها المجتمع الديني داخل البلاد وعشوائياته وارياف مصر وصعيدها ، وان من يبلغ المدنية وولوج التقدم عليه ان يقلع عن واقعه الديني ويبدأ بعلمانية تذوب في اوكار المركز الصناعي الرأسمالي الاول . وفي اعتقادي كان على جلال امين ان يبحث مسألة الاغتراب المجتمعي كظاهرة لهذه الازدواجية المجتمعية في بنيان مصر الفوقي القائم على علاقات انتاج شرقية النمط عظيمة الاستغلال !

​يقول جلال امين ان التحدي الاكبر لأي رئيس جديد لمصر هو التصدي لهذه الازدواجية وسوف يدهش القارئ ان من الممكن ان يعرف ان التصدي لبعض المشكلات الكبرى في تلك البلاد هو في حقيقة الامر التصدي لازدواجيتها ، ويقول الكاتب ان علاقة الازدواجية بمشكلة توزيع الدخل هي علاقة واضحة وان القضاء على الازدواجية هو مدخل لعلاج على سبيل المثال لمشكلة البطالة ( ففي العمالة والبطالة ايضا ازدواجية بغيضة ) كذلك فان النمط الامثل لتوزيع الاستثمارات ( جغرافيا بين القطاعات الاقتصادية ) و علاج مشكلات التعليم والاعلام والقضاء على الفساد في الادارة الحكومية ( اذ لايمكن ان نتعقب فساد الموظف الصغير ونترك فساد الطبقة المحظوظة والمسؤولة عن منظومة الفساد ) . وان هذا المدخل في الاصلاح هو افضل بكثير من الاعتماد على ذاك المؤشر السقيم في نظرية التنمية : تنمية الناتج القومي ومتوسط الدخل ، فقد تبين الان ان هؤلاء الذين اكدوا على مشكلة الازدواجية في البلاد الفقيرة منذ نحو 60 عاما كانوا اقرب الى الصواب من هؤلاء الذين لم يكفوا طوال هذه الفترة عن تحقيرنا كما يقول جلال امين ،مرة بتسميتنا بلادا متخلفة وعن تملقنا مرة بتسميتنا بلادا نامية بينما يقدمون لنا نصائح بالتركيز على رفع معدل نمو الناتج القومي ، فلا نزداد نتيجة لذلك إلا بؤساً !





​وعلى الرغم من ان رأسمالية وادي الرافدين لا تختلف كثير عن رأسمالية وادي النيل ، فهي رأسمالية عابرة للطوائف وعابرة للقوميات وموحدة للمصالح ، الا انها تتعايش ايضا على بؤس الازدواجية المجتمعية(من وجهة نظر جلال امين وليس من وجهة نظر المادية التاريخية ) اذ تتعمق تلك الرأسمالية الى الداخل المنغلق وتسعى الى الغاء حواجزها المزدوجة كلما رأت ثمة حاجة لتلبس الكثير من اغطية المذهبيات والقوميات والعقد العقيمة لتلتحم مع الطائفة والمذهب والقومية عندما تجد ذلك مسوغا يخدم مصالحها بجرعات تصلح لديمومتها في معسكر وحدتها حالما تريد ان تمارس لعبة الازدواجية ثانية، لتقوي عزلتها عندما يحين وقت التراجع والتوحد في مراكزها المنسجمة العابرة للطوائف والقوميات بعلمانية عالية تلتصق بمراكزها الغربية لتترك المجتمع الديني المتهالك يتناحر في صراعات مذهبية وعرقية لانهاية لها ولا يفهم من هم مستغليه حقا .

​ان ماأريد ان اضيفه الى اطروحة جلال امين في مقالته الرائعة لايعدو عن فقدانه لتحليل صراع الطبقات برؤية المدرسة الاخرى في التنمية ،منوهاً ان اسباغ الطبقات المسحوقة بآيديولوجيات مغلفة بأباطيل فكرية مختلفة ياتي لضمان حركة الانقسام في صفوف الطبقات المسحوقة وخلق التناحر الابدي بينها ،كي تبقى الازدواجية الطبقية في وضعها الراهن المشتت والمصادر تاريخيا ويبقى رأس المال الكامبرودوري موحدا في استغلاله وباستمرار طالما يتعايش على ازدواجية المجتمع المسبوغ بالانقسام العمودي بين الدين والعلمانية من جهة وبين الانقسام الافقي المذهبي والعرقي من جهة اخرى ليدق اسفينا في مستقبل تنمية بلادنا، واصفا اياه مجازاً بـ: مسرحية الشرق او دراما الشرق !

​فاذا كانت شعوب الشرق في ثوراتها قـد رفعت شعاراً( يا عمال العالم اتحدو) فانها ربما كانت تدرك ان الازدواجية في مجتمعاتنا الشرقية قـد آلت الى توليد التفكك الذي اصاب الطبقات الفقيرة وتشضيتها في معادلة البؤس المذهبي والتعصب القومي شديد التنافر والتناحر ، متناسية في نفسها لقمة العيش ودرجة استغلالها لتدخل في خيالات التفكك والانقسام الى مالانهاية . انه مسرح الشرق الذي يعمق الفقر والاستقطاب نحو عدمية عالية ويقوي كثافة رأس المال باستمرار عبر تلك الازدواجية الاجتماعية المريرة،وخلق قطبين متنافرين الاول مالك شرقي شديد الثراء علماني في ايديولوجيته تستقطبه الاحادية المركزية الرأسمالية الغربية والاخر شديد الفقر تمزقه الاباطيل الطائفية او المذهبية او القومية ومختلف العصبيات التي تأتي تحت غطاء الدين او العرق وان الفاصل بين الطبقتين بهذه الازدواجية التي لـم يتناولها جلال امين هي ان الطبقة العليا لا تعيش الا على سحق رغيف خبز الطبقة السفلى في صراع آيديولوجي مزدوج لم ينته،اذ غلف الاول اسمه بعلمانية الاغنياء و غلف الاخر نفسه بصراع الاديان والطوائف والاعراق ليكون متعة لصيقة في سذاجة الفقراء !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القادة الأوروبيون يبحثون في بروكسل الهجوم الإيراني على إسرائ


.. حراك تركي في ملف الوساطة الهادفة الى وقف اطلاق النار في غزة




.. رغم الحرب.. شاطئ بحر غزة يكتظ بالمواطنين الهاربين من الحر


.. شهادات نازحين استهدفهم الاحتلال شرق مدينة رفح




.. متظاهرون يتهمون بايدن بالإبادة الجماعية في بنسلفانيا