الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جزيرة مهجورة

دلور ميقري

2018 / 10 / 19
الادب والفن


كوخ أسرته، كان على مبعدة بضعة فراسخ من الشاطئ. وعليه كان أن يفيق باكراً يومياً، وفوق ذلك، أن يمضي لصيد الأسماك بمعدة شبه خاوية. في واقع الحال، لم يرث عن أبيه الراحل سوى صنارته وشيئاً من معرفته بالصيد. لسوء حظ هذا الابن، أنه الأكبر بين أخوته الستة، الذين يمضون النهار في التسكّع أو في اللعب مع أولاد الأكواخ المجاورة. لقد أنتزع باكراً من طفولته، بعيدَ وفاة الأب بصورة مفاجئة، ليُدفع به إلى العمل. ولكنه لم يكن ماهراً في الصيد كأبيه، وكثيراً ما عادَ بغلّة زهيدة أو حتى بدونها. كونه من النوع الحالم، فإن اعتاد قضاء جلّ وقته على الشاطئ وهوَ بالكاد يعير الصنارة انتباهه. جسده حَسْب، كان ينتصب بين الصخور، فيما أفكاره تمضي بعيداً.
ذات صباح صيفيّ، أضطر الشابُ لترك أفكاره جانباً. إذ لفتَ نظره جسمٌ ما، ضئيل الحجم نوعاً، يسبح فوق سطح الماء المُزبد وقد تلألأ تحت أشعة الشمس، يدفعه الموج باتجاه الصخور. سرعان ما استقر الجسم بين يديه، ليتبيّنَ أنها زجاجة، محكمة الإغلاق بوساطة سدادة من فلين. وكان باطن الزجاجة متسخاً جداً، مع أنه خال من الماء: " أتكون قمقماً، حُبِسَ فيه جنيّ؟ "، فكّرَ الشاب وليسَ بدون رعشة. مع ذلك، دفعه الفضول ( وربما الأمل أيضاً ) إلى نزع السدادة. لم يكن ثمة جنيّ، بل مجرد ورقة مطوية سرعانَ ما فُتحت على كتابة غامضة. ولأن الشاب يجهل القراءة، قرر أن يمضي بالورقة إلى جار عجوز كان والده الراحل يحترمه بوصفه أكبر الصيادين سنّاً.
كان الطقس رائعاً، آنَ أنطلق مع الرجل العجوز في مركبه ذي الشراع المزدوج. لقد علمَ من الرجل مسبقاً، أن عليهما الإبحار ليوم أو ربما يومين، كي يُدركا صاحبَ الرسالة في جزيرةٍ مهجورة: " وإنها تتوسطُ أرخبيلاً خطرَ المسالك، لطالما سمعنا كيفَ تحطمت على صخوره مراكبُ الصيادين والتجار والمسافرين ". إلا أنهما وصلا بالسلامة إلى شاطئ الجزيرة المقصودة، وذلك بفضل مهارة أحدهما ولا ريب. هنالك شاهدا عن كثب ما خمّنا أنه صاحبُ الرسالة، وكان في حالة من الإملاق بحيث بدا شبحاً من الأشباح. من موقفه وراء هيكل خشبيّ لسفينة محطّمة، لوّح لهما الرجلُ يده في وهن، صارخاً بصوت كالنباح.
قال لهما: " إنها سفينة تجارية، كان تحملني حينَ فاجأتها عاصفة في منتصف ليلة خريفية. لقد غرق الجميع، أو ربما نجا البعض بالسباحة إلى الجزر القريبة. فوجدتني وحيداً هنا، تحيطني صناديقٌ مليئة بالمجوهرات ومسكوكات الذهب والفضة ". ثم استدرك حالاً: " وكما وعدتُ في رسالتي تلك، فإنني سأتقاسم ومنقذي هذه الثروة ".
كان الفجرُ قد أرسل خيوطه الحمر، لما بان لعينيّ الشاب عن بُعد الشاطئُ الأليف. تذكّر عند ذلك عودته يوماً مع أبيه في مركب صيادين، وكان غلاماً يافعاً. أغاني أولئك الصيادين، المعبرة عن فرحة الوصول الآمن، كانت ما تفتأ تصدى في ذاكرته. وها هوَ يلقي الآنَ نظرةً على التاجر، المستغرق في النوم، ثم نظرة أخرى على المعلّم وكان صاحٍ وبيده دفة المركب: " إنهما في نفس السنّ تقريباً، وقد شبعا من الحياة ولا شك "، خاطبَ داخله وهوَ يرتعش كالمحموم لفكرة عذبته طوال الليل. ثم تنهّدَ مختتماً تهويمه: " حقاً إنّ الغدرَ حرامٌ، وحقاً أيضاً أنه لا يُرضي الله أن يتقاسمَ شابٌ فقيرٌ الكنزَ مع عجوزين على حافة القبر! ".
رفع المجدافَ الثقيل بيديه القويتين، ليهوي به مرتين متتاليتين. بعدئذٍ، همدَ هنيهة فوق السطح البارد. أخذ يهذي بصوت مسموع، وكان ما ينفكّ مرتعشاً: " تسعة صناديق لشخص واحد، ليَ أنا وحدي ". ثم عاد وفكّر حزيناً: " المؤسف، أنه كانَ بالوسع جلب المزيد من تلك الصناديق لولا أنّ ثقلها قد يُغرق المركب! ". على حين غرة، إذا بالضياء يختفي خلفَ سحابة سوداء. وبينما الرذاذ يصافحُ يده، فكّرَ الشابُ مرتاعاً: " يا إلهي، كأني به نذيرُ عاصفة..! ". وأوقف بقيةَ الجملة المذعورة هبوبٌ مجنون، انقض من السماء فجأةً ـ كما يفعل الباشقُ، الساقط رأساً على فريسته.
ساعات ممضة، قضاها الشاب بين طيات الموج الهائج على أثر انقلاب المركب بفعل العاصفة. أخيراً، حينَ خيّل إليه أنه وصل إلى الشاطئ الأليف، نهضَ أمام عينيه الهيكلُ الخشبيّ لسفينة التجار تلك، المحطمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و