الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الطريق إلى باريس

طارق قديس

2018 / 10 / 22
الادب والفن


إلى باريس

باريس، عاصمة النور. أنا على موعدٍ معها بعدَ عدة ساعات. يا للروعة ! هأنذا أوضب حقيبتي. أمُرُّ عليها باللَمساتِ الأخيرة. العِطْرُ في مَكانِه. أدواتُ الحِلاقة في مكانها. ملابسي مكانها. النتيجة، كلُّ شيء على ما يرام.

جلستُ على المقعد في غرفتي أقلِّبُ جواز السفر. توقفتُ عند تأشيرة السفر. إبتسمتُ ابتسامة جافَّة ، ثم ألقيتُ به إلى السرير. أسندتُ ظهري إلى الكرسي واستسلمتُ للتفكير. هاجَمَني تأنيب الضمير، لماذا قَبِلْتُ بالسفر لمدة سَنَةٍ إلى باريس؟ لماذا لم أرفضْ ترشيحي من قبل المسؤول لتمثيل الشركة في الدورة السنوية المنعقدة هناك؟ فأنا كيف سأرحلُ عنها طوالَ هذه المدة؟ هذا هو السُؤال الأهم.

كلُّ شخصٍ يتمنى أن يكونَ مكاني في هذه اللحظة، أن تَسْنَحَ له الفرصة بالتَسَكُّعُ في الشانزليزيه، بالصعود إلى برج إيفل، بالتقاط الصور التذكارية أمام قوسِ النصر، بزيارة قصرِ فِرْسايَ، بالتجوِّل داخل مُتْحَفِ اللوفر. كلُّ شخص ٍيتمنى أن يكونَ أنا إلا شخصا واحدا، إنَّهُ أنا !

ربما لو لم تَكُنْ تلك المرأة في حياتي لاختلف الوضع. لَكُنْتُ فرحاً أكثرَ من أيِّ إنسانٍ في الوجود. فَرِحاً بما كَسِبْتُهُ من ثِقَةِ الشركة، فَرِحاً بما سأحْصُل عليه من خبرةٍ جديدة، فرحاً بأني سأغفو الليل الطويل في حضن مدينة العطور باريس. إنِّي سعيدٌ بهذه الفرصة، لكنَّ سعادتي منقوصة، والمَرارَةُ أقوى من السعادة. فلو أنها معي. لو أنها تَصْعَدُ معي إلى الطائرة، وتجلسُ في المَقْعَدِ المُجاور. لو أنها تترُك نَفْسَها لي لِتُحَلِّقَ معي في سماءِ باريس، لَكُنْتُ الإنسان الأكثر حظا في هذا العالم. لكنَّ هذا مستحيل، لأن المسافةَ ما بيننا بعيدة، وحدودُ علاقتنا لا تتعدى السَلامَ باليَدَيْن.

إني أراها كُلَّ يوم، أراها من بعيد، أراها جالسةً على مَكْتَبِها تتناولُ قهوة الصباح، تارِكَة بقايا الحُمْرَةِ على حافة الفنجان. أحَدِّقُ بها. أتأمل ابتسامتها الخلابة وهي تَبْعثُ سِحْرَها في الهواء. أذوبُ في تفاصيل وَجْهِها الجَذَّاب، وشَعْرِها المنساب، وقَوامِها الممشوق. أتابِع انفعالاتها وهي تتحدثُ مع الأخريات من حولها. تنتابُني الغيرة حينما تبتسمُ لأحَدِهم، حينما تُطيلُ معه الحديث، حينما تتحدثُ مَعَهُ بصوتٍ خافِتٍ لِدَرَجِةٍ أَصِلُ بها حَدَّ الانفجار.

لم أحاولَ يوماً أن أُفصِحَ لها عن مشاعري، أن أُطَوِّرِ من عَلاقَتي بها، لأن ارتباطنا غيرُ ممكن، فالحاجز الطَبَقي ما بيننا يَكادُ أن يَخْتَرِقَ السماء. لذا اكتفيتُ بأنْ أُراقبَها من بعيدْ، وأن تَكون شَريكتي في صُنْع الخيالْ. ففي المنزل هي حاضرةٌ في كُلِّ مكان. في المرآة، في الأريكة، في الدالية الممتدة على جِدار المنزل. في كوب الشاي. في صفحات الكتب، وحتى في أَغْطِيةِ السَرير.

إني أتنفس رائِحَتَها. إني أعيشُ بوجودِها. أتصوَّرها تَرْقُصُ بجانِبي على إيقاع التانغو. أضمها إلى صدري. أتْرُكُها للنوم مُسْتَلْقِيَةً على طرفَ السرير. أُشاهِدُها وهي تَسْتَحِمُّ خلفَ السِتارة وقَطَراتُ الماء تَطرقُ أبوابَ جَسَدِها بعنف لطالما تَمَنَّيْتُهُ، فيما هي – أي القطراتُ - تُخْرِجَ ألْسِنَتَها لي هازئةً كأنَّها تقول: "لقد انتصرت عليك أيها الأحمق".

ربما – من جانبٍ آخر - ما يَدْفَعُني للمضي نحو باريس دون أن أُعيرَ لتلك التساؤلاتِ والمخاوفِ اهنماماً أنها ستظلٌّ بالخيال ماثِلَةً أمامي. ستمشي معي في الطرقات. ستركبُ المترو. ستجْلِسُ في المقهي. ستزور الحي اللاتيني. ستدخل إلى متحف اللوفر. سوف ترى الموناليزا وسوف تتأكد بنفسها أن ابتسامَتَها أكثرُ جاذِبِيَّةً من ابتسامة الموناليزا ألفَ مَرَّة.

حان الوقت للتوجُّهِ إلى المطار. قلتُ لنفسي. قُمْتُ عن الكرسي للتو. أمسكتُ حَقيبتي وجَواز السفر. خرجتُ من المنزل بسرعة بعدَ أن تأكدتُ من إغلاق النوافذ وفَصْلِ قاطعِ الكهرباء، لكي تُقِلَّني سَيَّارةُ الأُجْرَةِ إلى المطار .

هناكَ وقبلَ أنْ أصْعَدَ إلى الطائرة فكَّرتُ أن أتَّصِلَ بها. أن أسمعَ صَوْتَها. أن أقولَ لها ما لم أقله في السنوات الماضية. نَظَرْتُ إلى الساعةِ. إنها التاسعةُ مساءً. تَشَجَّعتُ وبَحَثْتُ عن رقمها في هاتفي. ضَغَطْتُ على زر الاتصال. أتاني الرَدُّ الآلي أن الخَطَّ مشغولٌ بمكالمة أخرى. لم أيأسْ. كَرَّرتُ المُحاولة. هَدَفي الوحيد أن تَعْرِفَ الحقيقة، فمن حَقِّها أن تَعْلَمَ بمشاعري، فربما تَكون التذكرة إلى فرنسا باتجاهٍ واحد فقط ! لذا لا بًدَّ أن تَعْلَم. رَنَّ جَرَسُ الهاتف أخيراً. رنَّ طويلاً. هناكَ صَوْتٌ ما. إنَّه ضجيج. بالكاد سَمِعْتُ. هذا ليسَ صَوْتَها. إنه صَوْتُ رجل ! ربما أخْطَأتُ في الرقم. قُلْتُ لنفسي. لكِنَّهُ هو. تأكدتُ من الاسم الظاهر على الشاشة. إنِّي أسْمَعُهُ يُكَرِّرُ "ألووو" باستمرار. تمالكتُ نفسي. لا بدُّ من السُؤال. "من معي؟" أليسَ هذا هاتف .. ؟ لم يَدَعْني أُكْمِلُ. إنه هاتِفُها لكنها ترقص. إنها حَفْلَةٌ، حفلةُ خِطْبَةِ إحدى صديقاتِها. لكنْ لماذا أجابَ هذا الشخصُ على هاتفها؟ من يكون؟ استجمعتُ شجاعتي. عَرَّفْتُهُ بنفسي وانتظرتُ أن يُعَرِّفَني بنفسه. أتاني الجواب. إنَّهُ خَطيبُها ! لم أعرف ماذا أقول و بأية طريقة سأكمل المكالمة، فأقْفَلْتُ الخَط، ثُم َّأغْلَقْتُ الهاتف . وذهبتُ إلى صالة الانتظار لأرتمي فوق المقعد، وأسندَ رأسي إلى الحائط، فرأسي مزدحمٌ بالأفكار، وأحاسيسي مُشَوَّشَة. فهل آن الأوان لأن أتنازلَ عن خيالي الجارف؟ وأن أعودَ إلى أرضِ الواقع ؟ هل أذهب وحدي إلى باريس وأنا أحملُ في جُعبتي بقايا خيالاتٍ من حُبٍّ زائف؟ لم أعلم ماذا أفعل، ولم أحْصُلْ على إجاباتٍ للتساؤلاتِ الحائرةِ في عقلي. فما أصعبَ أن يُعَلِّقَ الإنسان حَياتَهُ على السراب، ومأ أصْعَبَ أن يَتَمَلَّكَهُ السراب. لذا استسلمتُ للنظرِ إلى ساعة الجدار، و إلى نَوْباتِ التثاؤبِ في وجوه المسافرين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن