الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دارون والعنصرية الانجلوميركية..

وديع العبيدي

2018 / 10 / 24
حقوق الانسان


وديع العبيدي
دارون والعنصرية الانجلوميركية..
(خلق الله الانسان على صورته. على صورة الله خلقه)- (تك 1: 27)
(انا خلقنا الانسان في أحسن تقويم)-(التين 4)
(1)
ان الوجود معضلة. وعلة المعضلة هي (العقل). ولوما يفكر الانسان بلغز الحياة، ما أصابته الكآبة، وما صدر عنه 99% من تصرفات ومواقف اشكالية ذات أثر عدواني تخريبي. والحضارة التدميرية، تدين سلوك الانسان، ولكنها، لا تتحمل مسؤولية المحفزات ودوافع السلوك، ولا تجتهد لايجاد أجوبة واستجابات. عند النقطة الحرجة يظهر (القمع)، بشكل أو آخر. وتحتكر سلطة القمع البراءة والنزاهة لنفسها حصريا.
التاريخ نسيج واحد، وثقافة هروبية قمعية لا مسؤولة واحدة. ولم تضف الحضارة والتمدن له، غير الرياء والقمع والاذلال. القيمة الحقيقية للفكر وكل ما يدعى حضارة وتفوقا، هو اقتراف أسئلة الوجود وفك ألغازه. وما عداه، لا يستحق غير السخرية والابتئاس. يتساوى في ذلك الدين والدولة، الشرق والغرب، التمدن والهمجية، الانسان والحيوان. المتفوق المغرور والمتخلف البائس.
فلا غرو أن تتكشف البراغماتية الانجليزية عن شيء مثل (التطور وأصل الأنواع)/(1859م) باسم تشارلز دارون [1809- 1892م]، لتأسيس أكبر هزيمة لمغزى العقل والفكر البشري؛ عندما فسّر الماء بالماء، وأعاد أصل الانسان للحيوان، وهو لا يعرف أصل (الحيوان). علما أن (حيوان) الجاحظ [776- 868م] سبقه بعشرة قرون، دون تسليم لانحطاط العقل والفلسفة، والتي ستتسامى في بلاتونية الفارابي [874- 950م] وارسطالية ابن سينا [970- 1037م].
المتهم البريء العاجز عن اثبات براءته، وردّ التهم الموجهة إليه من قبل محقيين أشرار، يضطر أخيرا للاعتراف بالجريمة، ويوقع اقرارا على التهم الموجهة إليه، لعجز عقله وإرادته عن اثبات ذاته والدفاع عن نفسه. وهذا ما فعله الدارونيون الجدد، لأن دارون(*) نفسه بقي حائرا، متشككا، غير مقتنع بفرضيات مشاهداته في السواحل الجنوبية لأميركا اللاتينية واستراليا، التي كانت البحرية الانجليزية تحوم للاستيلاء عليها، وتتجسس مواردها الطبيعية.
نشر دارون كتابه الأولي عام (1859م)، وكان موضع ضجة واحتجاج وآراء متناقضة في الأوساط بما فيها الكنسية، وكان كتاب آخر في نفس الاتجاه صدر صدر في نفس الفترة، وهو الدافع وراء قرار دارون بنشر أرائه وفرضياته. عقدت ندوات لمناقشة تلك الآراء والردّ عليها، مما عزّز انتشارها، وعزّز مكانة صاحبها بوصفه عالما جديدا يقدم اكتشافا في سلة الحضارة.
لكني أرتاب في حقيقة وأهمية الآراء المنسوبة لدارون، باعتبار ان الكتاب تعرض للتعديل والتنقيح وأعيد طبعه، بذريعة تدعيم أسسه العلمية والمنطقية، وسيما من قبل الدارونيين الجدد أو ما بعد دارون. وما الذي جعل الجوّ الثقافي المعاصر للحدث يتجاهل الأمر، ويبقى خارج الصورة.
شكي في المنسوب لدارون، يشمل جملة المنسوب لغيره، وعامة الانسكلوبيديا الانجليزية الخاضعة للفكر السياسي الامبراطوري لسلطة التاج، لتأسيس الثقافة الامبريالية الانجليزية وامحاء كل ما سواها في العالم. وأنوه هنا بتصريح ادوارد سعيد عن الثقافة الاميركية، [ان الدولة داخلة في كل شيء، وفي جملة النظام التعليمي، بحيث يتخرج الطالب وهو (مادة مؤدلجة جاهزة)!]، وهو ما يصح الفكر السياسي الانجليزي (حاضنة الدولة الاميركية)، والتي تجعل كل المفكرين والعلماء والادباء الانجليز يغردون للتاج، ومن تمرد، يوصم بالهرطقة!.
ولا ننسى هنا، أنه كان ثمة مفكرون وعلماء وفلاسفة بارزون عاصروا دارون، ومنهم ماركس [1808- 1883م] وانجلز [1820- 1895م] وسبنسر [1820- 1903م]، وكل منهم رافق وناقش كل ظاهرة طارئة في زمنه، ولم يهمل صرعات لندن الفكتورية.
لقد تعرض سرن كركجورد [1813- 1855م] لحملات صحفية ساخرة ومتهكمة، حول أفكار أقل إثارة وتغريبا، من نسبة الانسان لأصل حيواني، بغض النظر عن نوع ذل الأصل، كان قردا أو بعوضة. ولكن الهومور/(humor) الانجليزي، لم يجد فرصة للتعبير في صحافة الانجليز الدمقراطية.
ربما كان الأجدر.. ظهور هذه الفكرة في الدنمارك أو هولنده، لتجد مجالا أكثر حرية للمناقشة والتعليق، لا تتدخل فيه الحصانات الملكية التي كانت تحيط بعضو الجمعية البيولوجية الملكية تشارلز دارون. لكن طروء ذلك كان من المستحيلات، في بلد غير انجلتره الباحثة عن التميز والتغريب والمجازفة، لتسجيل رقم قياسي وإحداث بدعة شاذة، تثبت بها تفوقها على الآخرين.
وطالما أن الموضوع يتعلق بالفكر والدين والفلسفة والعلوم، فكان أولى أن يظهر في بيئة الثقافة الالمانية أو الفرنسية، حاضنة الفكر الفلسفي العالمي الحديث. وهذا يعيدنا للجذور الأولية السابقة في هذا المجال، على أيدي الاغريق. وذلك الجدل القديم بين البلاتونية والارسطالية، بين العقلية المثالية وبين الواقعية الطبيعية والوضعية.
وفي العموم، ما كان للدارونية ان تحظى بهذا الدعم والشيوع والتسلط المعرفي، لو كانت ظهرت في بلد غير امبريالي فكتوري، حيث تصف انجلتره نفسها بالقوة الاعظم فوق الأرض. افترض ان دارون ظهر في العراق أو الصومال، هل كان أحد يفطن له، ولو اكتشف أعظم فكرة. وقد قال المتنبي [915- 965م]..
وتعظم في عين الصغير صغاره.. وتصغر في عين العظيم العظائمُ
ــــــــــــــــــــــــــ
* دارون كان شخصا مؤمنا ومات مؤمنا وقبره بين أربعة أشخاص في كنيسة ويستمنستر ابي المركزية في لندن.
(2)
بحسب فرضيات الاثاريين والبيولوجيين نشأت الحياة على الأرض تطورا من سلف سابق نحو (3,7) مليون سنة، عبر سلسلة عتيدة من التكرار النمطي والتجدد/ (الطفرات الجينية)، والأخيرة تتحدد من خلال خصائص الشريط الجيني (DNA) وجزيئات البروتينات الحيوية، فضلا عن مظاهرها المورفولوجية. وقد تعددت كشوفات الحفائر عن اجيال ونماذج متعددة من أشباه/ انصاف البشر.
ان ما تتعدد تسمياته من ارك هومو- هومواريكتوس- هو موسوفينز- هومونياندرتال- هومو رودسيانز- هومو سابينز سابينز، ليست اجيالا سلالية متعاقبة، وانما هي في الغالب، أنواع وأجناس ذات تاريخ سلالي مستقل عن الآخر، وتتعدد تواريخ ظهور تلك الانواع والنماذج حسب المتعارف للحين، ما بين اربعة ملايين ودون المليون. وهذا لا ينفي وجود هومو/انسان يعود تاريخه إلى أول نشأة الطبيعة، أو ظهور الحياة على الأرض.
هذا الأمر يقدم اجابة عن اختلاف بشري اليوم وتفاوت طبيعتها ودرجة تطورها ورقيها العقلي. وكل ما أمله العلماء، هو استمرار التلاقح والانصهار بين النواع والأصول السائدة، لتحسين النوع الانساني، واختزال الفوارق الوراثية بين البشر. هذا أيضا يكشف سر الحاف الغرب على الانتخاب الصناعي من جهة، والتدخل للاستئثار بنوع سيادي غربي ذي خصائص متفوقة ومميزة عن الانواع الدنيا، التي تختفي وراء طروحات وابحاث موضوعة التطور/(evolution).
هذا يعني ان (الانسان هو مستقبل الوجود!). ويعني أيضا (الانسان سيد الوجود!). وهذا ينقل السؤال مرحلة أخرى، (أي نوع/ جنس/ جذر من الانسان!). هذا ما تتصارع فيه الابحاث الغربية الرأسمالية، ويغيب عنه أهل الشرق والجنوب.
عقيدة التطور وخروج أنواع من أنوع، تعود للأغارقة أمثال أناكسيماندر وايمبيدوكليس [490- 430 ق. م.]، فضلا عن ارسطو [384- 322 ق. م.] الذي اعتمد منظورا أشمل لكائنات الطبيعة الحيوية وغير الحيوية، ووصفها بتحققات عشوائية/ (غير مثالية) لاعتبارات طبيعية للأنواع/[أشكال/ أفكار] بالتعبير الاغريقي.
وكان من رأي أرسطو، أن كل كيان طبيعي له دور ومهمة محددة ضمن (الغائية الكونية)، يقوم بتاديته في سياق نظام كوني شمولي، مرتكزا في ذلك على القاعدة الأساسية لنظرية المثال عند معلمه أفلاطون [427- 347 ق. م.]، وتطويرها، عبر تجريدها من هيئتها المثالثة الجمالية، معتبرا ان (الصور) الأرضية، هي تجسدات عشوائية، غير مثالية، للتصور الكوني/(الالهي) المراد لها في الأصل.
بدايات البيولوجيا اذن، تعود لأرسطو [384- 322 ق. م.]، وهو صاحب أول متحف وأرشيف بيولوجي للحشرات والنبايات والطباع والتسلكات من أطراف العالم، ولم يكن أطباء الاغريق والمسلمين غائبين عن علم التشريح والجراحة، التي وضع فيها العرب تصانيف مهمة. بل أنهم كانوا يجربون عقاقيرهم الجديدة على أفراد من الحيوان ومراقبة مفعولها، قبل تقديمها للانسان. وهذا يؤكد من باب أولى، ادراكهم العميق، بوجود الصلة العضوية والبيولوجية بين الحيوان والانسان.
وقد اعتقد الشاعر الفيلسوف الروماني لوكريتيوس [99- 55 ق. م.]، بامكانية حصول تغيرات نوعية متقدمة في العالم الحيوي. أما مصلطح (الأنواع) في الدلالة على التصنيفيات الحيوية الطبيعية فيعود للانجليزي جون ري [1627- 1705م]. فكل تصنيف حيوي هو (نوع) يتميز/ يتوفر على خصائص طبيعية وراثية مستمرة في نسله، وهي مصممة من قبل (الله). أما الخلافات النسبية التي تظهر بينها عبر الزمن، فتعود لعوامل البيئة.
وفي عام (1735م) قدم عالم النبات السويدي كارلوس لينوس [1707- 1778م] جدولا لتصنيف حيوي، له صفة الثبات بحسب تنظيم إلهي. وفي عام (1751م) اعتقد موبرتيوس بامكانية طروء تغيرات تراكمية عبر التكاثر، يمكن أن تسفر مع الزمن عن أنواع مستجدة. أما عالم الطبيعيات الفرنسي بوفون [1707- 1788م] فقد قال بامكانية ظهور أنواع مختلفة عن الأصل. ورأي اراسموس داروين [1731- 1802م] ان الكائنات ذات الدم الحار قد تكون تحدرت من كائن مجهري واحد.
وفي عام (1809م) نشر عالم الطبيعيات الفرنسي جان باتيست لامارك [1744- 1829م] اول نظرية علمية كاملة للتطور باسم (تحوّل الانواع)، قائلا ان التولد الذاتي ينتج باستمرار أشكال حياة بسيطة يضطرد تعقيدها في سلالات متوازية مدفوعة بنزعة فطرية تقدمية. وهذه الخيرة تتكيف مع عوامل البيئة بتوظيف التغيرات الناتجة عن عدم استخدام بعض الخصائص الوراثية في جيل الاباء، وقد دعيت نظريته لاحقا بالنظرية (اللاماركية) نسبه إليه.
عالم الحيوان الفرنسي جورج كوفييه [1769- 1832م]، أحد الذين فنّدوا تلك الأفكار، وقال بأن الانواع ثابتة مستقرة، ولا توجد صلة/(وراثية تطورية) بينها، وأن التغيرات ما بينها تعود لتصميم إلهي يناسب خدماتها/ أدوارها الوظيفية المصمّمة لها. وقد وافقه في ذلك ويليم بيلي الذي طوّر أفكار جون ري عن التصميم الالهي الثابت، بما دعي باللاهوت الطبيعي. واعتبر ان التغيرات التكيفية دليل مرجعيتها الإلهية. وكان تشارلز دارون منحازا لها.
والد تشارلز دارون كان طبيبا، وكان يريد لابنه أن يكون مثله، ولكن الابن كان ميالا للطبيعة، مهتما بمراقبة الحشرات وجمعها. وقبل أن تقوده سني الدراسة للتخصص في الطب، كان قد غادر المنزل. في جامعة كامبردج ساعد في دراسة الفقريات، ومنها تم ترشيحه لمرافقة رحلة بحرية على السفينة [HMS Beagle] في جنوبي أميركا الجنوبية. وطيلة الرحلة، كان مرافقا لربان السفينة ومعه سجل، يدون فيه كل ما يجري أمام بصره، وعندما تكلأ السفينة في مكان ما، يقومان بجمع عينات من التربة والمواد والحشرات والنباتات ويحملونها معهم في طريق العودة. وبناء على الملاحظات والتأملات، كان دارون يسجل تعليقاته وملاحظاته، وليس فقط توصيف العينات.
تلك الهوامش والتعليقات والاستنتاجات اللاحقة، سيما بعد عودته لبلده، ستشكل فحوى كتابه اللاحق. وبحسب دارون، لاحظ وجود تشابه بين فقرايات الانسان والحيوان، واحتمل وجود قرابة ما، لكن زعما أو جزما، بانحدار الانسان من حيوان أو قرد تحديدا، كان من زعم اللاحقين. لكن دارون صاغ محاججة علمية لقواعد نظرية التطور من خلال (الاصطفاء الطبيعي). وقال البعض، ان دارون العالم، كان مشغولا بالعثور على (حلقة مفقودة) بين الانسان والقرد، ذلك [lost code] لم يوجد حتى اليوم.
وفي الوقت الذي كان دارون منشغلا ببلورة طروحاته في (الانتخاب الطبيعي)/ (منذ 1838م) و(أصل أنواع)/ (منذ 1842م)، كان زميله في جمعية لندن، الفرد راسل ولاس [1828- 1913م] قد انتهى لصياغة نظريته في نفس المجال، وأرسل له مسودته عام (1858م)، وبالمقابل أرسل دارون له مسودته، وقدم الأثنان بحثيهما للجمعية كلّ على انفراد، لتفوز مسودة دارون عام (1859م). وفي وقت لاحق، ردّا على النقاط المبهمة والغائبة وآلية التطور سيقوم دارون بتطوير طروحاته ويطرحها تحت مسمى جديد هو (نظرية شمولية التخلق). بيد أن نظرية الوارثة/ (1865م) للراهب النمساوي وعالم النبات ومؤسس علم الوراثة غريغور يوهان ماندل [1822- 1884م] وكشفه لـ(الجينات) التي تتولى التوزيع المستقل وفصل العوامل، نسفت طروحات دارون الأخيرة. وفي عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، قام بعض العلماء بدمج نظرية الوراثة لمندل مع الاصطفاء الطبيعي لدارون.
عند هذا الحدّ يتكشف أن الهالة النظرية والاستكشاف العلمي لفرضيات التطور الانجليزية تفقد مصداقيتها، في ضوء كشوفات ارسطو البيولوجية وتجارب الاطباء العرب التشريحية. وما لم يقله أولئك، لم يجرؤ دارون على زعمه أيضا. أما تطبيق طروحات دارون على البشر فيعود الى عالم الطبيعيات الانجليزي توماس هنري هكسلي [1825- 1895م] الذي سيقول أن للبشر والقرد اصلا مشتركا.
وقد ذهب اللبناني حنا نمر [1900- 1964م] في كتابه (الدارونية)* الصادر عام (1982م)، ان الانسان لم يتحدر من قرد، وانما كلاهما تحدر من أصل واحد سابق، وكانت له أراؤه في النشوء والانتخاب والارتقاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* ثمة عديد المفكرين المعاصرين العرب ممن عنوا بفكرة التطور ونشأة الكون، منهم اللبناني حنا نمر [1900- 1964م] والمفكر المصري اسماعيل مظهر [1891- 1962م] وشبلي شميلي [1860- 1917م] صاحب كتاب فلسفة النشوء والارتقاء/(1910م)، وعبدالله صالومه الذي وضع كتابه (قانون التطور) ونشره الكترونيا عام (2010م)، يتعرض فيه للتطور والدارونية الاجتماعية. ولعل سلامة موسى أكثر المتطرفين في تأييد هنري هكسلي في كتابيه (التطور وأصل الانسان)/(1957م)، (الانسان قمة التطور)/(1961م) ، معتبرا بأصول حيوانية للبشر، دون الجزم بقردنة الانسان.
(3)
ومن المنظور الفلسفي، فأن مبدأ/ فلسفة وحدة الوجود، ووحدة الطبيعة الذي عرفه الأغريق واعتنقه بعض العرب والمتصوفة قديما حتى جبران خليل جبران [1883- 1931م]، كانوا أكثر ادراكا، ليس بوحدة مرجعية الحيوان والإنسان، وانما بشمولها النبات والحجر والهواء أيضا، بناء على النظرية الذرية لأناكساغوراس [500- 428 ق. م.]. لكن وحدة الطبيعة ووحدة الوجود والتجانس العضوي والمظهري بين الكائنات الحيوية، يؤكد وحدة المرجعية الكونية ووحدة الخلق والخالق.
وكما أن للنجار والمعمار بصمة خاصة تتكرر في منتجاته، وللشاعر والمؤلف الموسيقي بصمة خاصة يمكن تمييز أعمالهما من خلالها، فذلكم هو أيضا حال الخلق والخالق. وعلماء الفضاء الامبرياليون، يجهدون منذ عقود حول أجواء طبيعية وعضوية في الأجرام الكونية، قياسا على أجواء الأرض وعناصر الماء والهواء والتربة.
ولكن ما الدليل على أن [الماء والهواء والتراب] هي الخصائص الوحيدة القطعية والحتمية، على وجود الحياة. لماذا لا نفترض امكانية وجود صور للحياة، مختلفة لمنتجات السوق الأرضية. سواء في الجانب العضوي أو الشكل أو خصائص الحركة.
فما المانع، مثلا، ان سطح التربة، أو جانبا من تلة أو جبل، طالما رأيناها في مكانها، واعتبرناها (جمادا) بحسب حذلقة علماء الأرض، في لحظة ما تأخذ هيئة طائر أو شجرة أو أسد وتنطلق باتجاه ما، والانسان ينظر فاغرا فاه، لا يفهم. وربما لا ينتبه. وعندما نكون في غابة أو بستان، هل نتوفر على رصد وثائقي مطلق، بعدد وشكل كل موجوداته، لنعرف، أن شجرة ما أو ذرة من رمل، لم تتحول إلى حشرة أو طائرة، أو تختفي من العيان مرة. لكن تحول التراب إلى حشرة، والدقيق إلى دود والشجرة إلى كائن ذي خصائص حيوانية وبشرية ناطقة ومتحركة، لا صلة له بأنساق التطور التدريجي أو غير التدريجي، ولا الطفرات الوراثية أو الاضطناعية.
أريد أن أكشف نمطية وجمود جهود العلماء الغربيين التكرارية، التي تم تاطيرها في بودقة (معارف انسانية) و(مكتشفات علمية عقلية)، وصولا للتكنولوجيا التي يستخدمها الغرب ويفرضها على العالم فرضا قهريا، لاثبات تفوقه على غير الأوربيين، بل يتبارز ويتنابز، ليزعم الانجليز أنفسهم أفضل من الألمان والفرنسيين، وتخطف الولايات المتحدة علماء العالم وتدفنهم في مقابر أجهزتها الأمنية لتؤكد تفوقها على أهل الغرب والصين.
ان عالم الغرب الامبريالي المتعلق بالهيمنة والسيادة المطلقة، لا يتورع عن ارتكاب حماقة تاريخية عظمى، إذ يزعم ان ما توفر عليه من معارف وعلوم هي نهاية المعارف والعلوم، وكأن البشرية ليست في لزوم للعقل بعد اليوم، وبنفس المنظور، تفرض خرافة، ان الحفريات التي جرت قبل الآن، وطريقة ترجماتها، انتهت من عملها، ولن يوجد أي جديد في حفائر مستقبلية، أو طريقة مختلفة لترجمتها وتأويلها، وبشكل خدم حتى الآن المنظور الكولونيالي للمركزية الغربية.
المؤكد ان الترجمة الصينية أو الروسية أو الهندية أو الكورية أو العربية للحفائر والعثريات التاريخية سوف تختلف عن القراءات الغربية. ثم ما الذي يجعلنا نسلم بمصداقية الغرب القائمة حضارته على النهب والكذب والتزوير. لقد درسنا نظرية الاحتمالات، والكثير من أبواب المعارف ومناهجها، فلماذا يجري تهميشها واختزالها من البحث. أنا أفند كل اليقينيات الغربية والتي يروجها تحت عنوان العلمية وتزخر بها مناهج التعليم والاعلام والنشر، وليست في جملتها غير (علف مؤدلج) لترويض البشرية وغشيل الامخاخ، بحيث لا يبقى ايمان في الارض غير تبعية الايمان والدعاية الغربية.
هل عقولنا وعقول أربعة اخماس البشر موضوعة للتبعية والتقليد والتلقين؟.. أليس عقل كل فرد قادرا ومؤهلا لولوج وابتكار وتمحيص ما سبق اليه الغربيون.
أليس استمرار تخلف بلداننا وخلوها من القواعد المؤسساتية للابحاث والفكر الحر، عملية مهندسة للحط من مكانة مجتمعاتنا، وبفضل طوابير من العملاء والمرتزقة الذين ما زالوا يدفعون مجتمعاتنا للدونية والانشغال بالطعام والثياب والكرامة والأمن، بينما يتوفر العرب والمشرق عموما على كفايته الحضارية والسيادية: [طاقات بشرية، امكانيات اقتصادية، مواد أولية طبيعية]، وكلها وضعت تحت تصرف الكولونيالية الرأسمالية، وما زال ولاة أمر العرب والمسلمين، يلهثون لتجفيف مصادر الابداع والانتاج والنهوض العربسلامي، لحفظ كراسيهم وديمومة التفوق الامبريالي.
ما أقوله هنا، هو أن لا حدود للعلم والمعارف والمكتشفات، ما وراء الطبيعة وما تحت الأرض وما داخل عقل الانسان. وأن تشميعها واصدار افكار ونظريات قمعية لاستعباد البشرية، هو عملية سياسية عنصرية، مخالفة لمنطق العلم والعقل والأخلاق وروح الدين، الأكثر رقيا وانفتاحا من تخريجات الحماقات الأمريكية، التي لا يجرؤ أحد على رفضها أفرادا ومجتمعات، من العامة وذوي الاختصاص، وهذا هو الغلط بحسب المناهج الغربية نفسها.
وإذا كانت برامج الحداثة والتنوير تفند تخريجات العولمة الأميركية، فأن المنطق العلمي والفلسفي القديم والعالمي غير الاوربي المعاصر، يفند ويفضح انحرافات كثيرة تحت قش الحداثة والتنوير. وعلى مجتمعاتنا التمهل والتمعن والحذر في التسليمية اليقينية والثقة العمياء بترهات الغرب، ومن لا يريد أن يكون بوقا مرتزقا، ان يسخر جهده للانتاج وليس الاستهلاك، ، الاستقلالية وليس التبعية. ان مستقبل الانسان ليس العبودية واختزال العقول كما هو سائد اليوم.
حرية الفرد وحرية الارادة والمواثيق الغربية المنظمة للاجتماع والسياسة والعلوم، خضعت كلّها لمبدأ واحد ومبرر واحد، على شاكلة الفكر الديني القديم، وهو عقدة تفوق الغرب على أجناس الأرض، قياسا على عقدة التفوق التوراتية على بقية الشعوب وعقدة تفوق الاغريق القدماء على سواهم، وبالشكل الذي جعل اهل روما، يتميزون عن الكل، بأنهم من نسل الآلهة. وفي موروثنا الشعبي الأصيل، ترد جدلية تهكمية وجودية: واحد ألله خالقه، وواحد ما خالقه ألله، واحد مخلوق من تراب، وواحد مخلوق من خشب!..
الآخر.. جدلية وجودية حاضرة دائما، في ندار العقل والخيال والشعر، حتى لو انعدمت على أرض الواقع. وهذا يفند الأسس النظرية لفكرة التطور الغربية، التي لم يظهر خارج أوربا، من يجرؤ على امتحانها ومناقشتها، وتقديم منظور بديل مقابل. نحن والراهن الثقافي ضحايا المركزية الغربية العجفاء، وان الكولونيالية وعهودها المقيتة، ليس غزوا عسكريا ولا نفوذا سياسيا، ولا أطماع ومصالح اقتصادية فحسب، وانما هي تجسيد صراع الانسان ضد الانسان، ومحاولة هروب للمام للتخلص من سؤال الجدوى وموت المعنى/(الروح الخلقية) في المجتمع الغربي.
الانجليزي عندما يغزو الهند، فهو لا يثبت تفوقه وكبرياءه على الهندي صاحب احضارة العريقة السابقة على وجود الانجليز بآلاف الانجليز، وانما ينظر بعين الغيرة والحسد لسعادة الآخر الفطرية، والتي يعدمها في حياته رغم اسرافه المادي المتنوع والمتعدد.
الامريكي الذي يحتل فيتنام والعراق، ويدمر الانسان والطبيعة بوحشية تكنولوجية، لافناء آثار الشرق الحضارية ويهين أبناءه، فهو يصدر عن غيرة وحسد وافلاس روحي وأخلاقي. فليس الامريكان غير امة ودولة مارقة قامت على مبادئ الابادة البشرية والتطهير العرقي والممارسات الاجرامية المنافية للدين والانسانية والضمير، ولابد من محاكمتها دوليا وبشريا، للانتصار للضمير والكرامة الانسانية. لكن خنوع العالم ولامبالاته دفع الامريكان لتصدير الوحشية واذلال البشرية.
لذلك جرى تغييب الفلسفة الانسانية والقيم الاجتماعية، واحتكار الديانات والمعارف والأخلاق، في انجلتره والولايات المتحدة الأمريكية، لخشيتها من سؤال الجدوى، وشعورها بالفراغ الشامل، وسدّ احتمالات العصيان العالمي والثورة الاممية ضد أعتى وأحط اللصوص والقراصنة في التاريخ.
وماذا ينتظر المرء اليوم مما الهزال والتسفيه الذي بلغته الانماط الثقافية الأدبية والفنية والموسيقية على أيدي صرعات وبرامج العولمة المريكية، والنظام العالمي الشمولي لتسذيج الاطفال والناشئة، وتجريدهم من كل اعتبار ذاتي أو أخلاقي أو روحي، ليتساوى العالم مع الغباء والفراغ الأمريكي الأعظم.
استطيع أن أتصور هزيمة الامريكي أمام من يوصف بالهندي الأحمر، والانسان الأفريقي. على نفس نفس مستوى هزيمة الانجليزي أمام الهندي والاستراكي الأصلي والسكان الأصليين لجنوبي أفريقيا. لا أعني نلسون ماندلا تحديدا، ولكنه دالة هزيمتهم وانحطاطهم.
الانجليزي والامريكي المسيحي والمتطرف المغالي في مزاعمه الدينية، أخذ صورة القاتل واللص والمدمر في (يو10:10)، وبنى حياته ومجتمعه ودولته على حساب أشلاء ودماء أطفال وأرامل وناس، لا صلة لهم بانجلتره وامريكا. لكن ذلك الانسان المسحوق والمقتول والمتعبد والمستغل والذي تم تسليعه وبيعه وامتهانه، بحسب أصول حقوق الانسان البايبلية والغربية، أكثر من ثلاثة قرون، ذلك العبد والمهان والمقتول يقوم من موته ويسامح القتلة واللصوص، ويغفر لهم، ويدخل مجددا في سلك خدمتهم ورعاية مصالحهم ومجتمعاتهم. بينما يعجز الغربي عن الغفران، ولا يجد ملاذا من عقدة الخوف والنقص القاهرة في داخله.
ولم تجد السياسة الأمريكية، في مستهل انفرادها بعجلة القيادة التي لن تستمر طويلا، إلا بتشديد تيارات اليمين والممارسات العنصرية والنازية والشوفونية ضد الملونين وغير الصول الغربية. مقرة دون أن تعرف، بهزيمتها الشمولية أمام الشرق، أمام ابتسامة الانسان الشرقي وبساطته وتسامحه، وهو من ثقافات توصف بالتخلف، وعقائد توصف بالعنف وغياب الغفران، طبعا مقارنة بالكلايش الغربية الديماغوجية القائمة على الكذب والتزوير والتزييف.
لماذا يحل لواشنطن ما يحرم على الشرق. لماذا تحتكر العلم والمال والامكانات وتستخدما وسيلة للاستبداد والاذلال، وللعقاب والثواب، وهي القائمة من البدء حتى النهاية على السلب والنهب والخطف والابادة..
أليس غريبا استسلام المدنيات الشرقية القديمة للمسخ الاميركاني دولة ومجتمعا..
وإلى متى يفتخر عرب اليوم بالاغضاء أمام مناظر الخراب والفساد في بلادهم، ويتجاهلون معاناة الارامل واليتامى من ضحايا الحروب وانفتاح السوق ولبرالية التجارة، لينعم الاميريكي بمستوي معيشي واقتصادي وسيادي، على حساب جثث وخراب البلدان. هذا كل معروف وشائع. ولكن الرقص للطغيان عار تاريخي. والغول الامريكي لا يستطيع الغاء الاخلاق، لتمرير عقيدة العبيد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزيرة تحصل على شهادات لأسيرات تعرضن لتعذيب الاحتلال.. ما ا


.. كيف يُفهم الفيتو الأمريكي على مشروع قرار يطالب بعضوية كاملة




.. كلمة مندوب فلسطين في الأمم المتحدة عقب الفيتو الأميركي


.. -فيتو- أميركي يفشل جهود عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدة




.. عاجل.. مجلس الأمن الدولي يفشل في منح العضوية الكاملة لفلسطين