الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اتجاهات العقلية العراقية في الحياة اليومية ج 1

سعد سوسه

2018 / 10 / 26
المجتمع المدني


لتفسير حركة ما هو غير ذاتي ، وهو ما اراد جان بياجيه ان يؤكده العالم في تصورات الطفل : " عندما نرجع الى الوراء الى نقطة البداية ، في حياة الفكر البشري نجد وعياً غير قادر على أن يصنع أي تمييز بين الذات والاشياء ..هكذا هكذا ليس هنالك في البداية ذات أو عالم خارجي ، بل استمرارية هنا نجد أساس الانوية التي يرى فيها بياجيه الحاجز الاهم أمام النمو العقلي للكائن البشري" وبهذا المعنى تنتفي الموضوعية ويتراجع التفكير العلمي . وأغلب الظن ان هذه الشخصنة او التشخيص للمواقف والعلاقة مع الاخر ناجم بحسب ما نتصور عن جذور عميقة ، فالاطفال العراقيون يتعلمون بسرعة مفهوم " هذا الشيء لي" أو هذا الشيء خاصتي " او باللهجة العراقية " مالتي / الّي" ولكنهم يواجهون ربما (لاسباب طبيعة التربية) صعوبة في تعلم مفهوم الاخر ، اقصد " هذا لك َ" او هذا خاصتك " او "هذا مالتك – هي الك " كما نسمع باللهجة العراقية وعندما نأول ما يترتب على ذلك نجد ان هذه المشكلة تؤدي الى ان يتركز جهد الاطفال على الذات (الانا) ربما بشكل اكثر تركيزاً مما نتوقع ، ويكشفون فيما بعد عن قدرة فائقة في التحول الى مستبدين ذوي مطالب ملحة . من هنا تنبع فكرة شخصنة الاشياء في فعاليات البنية العراقية ، ولكي نكون أكثر دقة في عرض هذه الملاحظة ، فان الطفولة بشكل عام تتميز بشخصنتها للاشياء والعلاقات ، وفقاً لما يرى علماء النفس ، لكن للمدارس وليس العائلة فقط تعلم من خلال مناهجها تطوير فكرة الاخر الشريك من خلال فعالياتها التعليمية ، فيما لم نتمكن نحن الى الان من بناء مناهج او معلمين او مدرسين ناضجين يدركون حقيقة ما يحدث في العالم خارج العراق من تطور هائل وعنيف لا يقاوم والتقدم الذي يعصف بأنظمة التعليم والمعرفة وتقنيات التعليم والتدريس حديثة العهد . الطفل لايستطيع رؤية الاشياء بوصفها أشياء مستقلة عن أرادته فهو " يشخصن الاشياء " هكذا كانت الشعوب البدائية ( المرحلة الطفولية من التطور المجتمعي ) يسبق خيالها علاقاتها ومشاعرها وعلاقاتها مع العالم وطبيعة ..وهكذا تعيش الجماعة العراقية وأفرادها . فالفرد العراقي الى اليوم لا يعي شيئاً خارج حوافزه الذاتية يتقوقع فيها ، ولا يستطيع الخروج منها والنظر الى الواقع بوصفها واقعاً موضوعياً قائماً في ذاته وليس في عقل الفرد ، وهذا شكل من السذاجة التفكرية التي تظهر على الدوام في أنه يؤكد ان العالم يجب ان يذعن لمفاهيمه ومخططاته المعرفية وأساليبه في التفكير .وهنا بالتحديد تكمن المشكلة التي نضعها هنا في خانة الخصائص البنيوية الذهنية التي تعرقل النمو العقلي للمجتمع او الجماعة العراقية ، لان نضوج الفرد يرتبط أساساً بأدراك الوسط الخارجي بوصفه واقعاً قائماً في ذاته ، أن أكتشاف حقيقة العالم الخارجي كما هو ، في أشياء لا شخصية في ذاتها ، وغير مرتبطة بشخصية الفرد العراقي ، يشكل جزءا اساسياً وضرورياً في تحقيق نسبة ممتازة من العقلانية وهو الذي يعين النضج العقلي للفرد العراقي . وعندما نتابع الحياة العقلية للافراد في مجتمع تقليدي مثل العراق نرى او نلحظ بيسر بعض من المقولات الشعبية التي تؤيد تفسيرنا هذا جيداً ، الكثير من الافراد عندما يختلف مع شخص اخر ، ومن ثم يصاب هذا الفرد( الاخر ) بطاريء او حادث او مرض او اي شيء ، يقول الاول لقد تسببت انا في سقوطه او عذابه ، وهو ما يردده العراقيون عادة منتشرة جداً :"شورت بيه " لانني " دعيت عليه " او لانه " ظلمني " ، هذه الفكرة ربما تميل الى تأكيد حكاية الدكتور الوردي عن الفراشة التي ارادت ان تطير عن ظهر الفيل ، فشعرت بالحاجة الى اعلامه لئلا يرتبك : " انتبه الى نفسك سأطير عن ظهرك " . وأتذكر في الصيف الماضي ، وبينما كنت في احد المناطق أسير تسحقني اشعة الشمس ،افكر في العودة المسرعة لألتقي أحد اصدقائي الذين كنت على موعد معهم ، فسألت أحد الرجال الذين يسيرون في الازقة الى جانبي :
- عفواً كم الوقت الان ؟
- قال الرجل نصاً " أهوو .. يمعود بعد ساعات على الفطور ، شجاي تحجي ..
لم أفهم للوهلة الاولى ماذا كان يقصد ، لكنني فهمت بعد قليل الاتي : ان الرجل كان صائماً ، وانه كان جائعاً ، وأنني كنت قد ذكرته او أعدته الى عتلة الزمن ، الذي يمثل له (الفطور ) في سؤالي ، ولانه جائع يحسب الدقائق لسد جوعه بالافطار ، ظن انني مثله بالضبط صائم ، جائع ، أحتاج الى الطعام والماء ، وسؤالي محدد في هذا المجال ، فأختصر الامور كلها وجاءت من الاخيرأجابته عن سؤالي : "أهوو .. يمعود بعد ساعات على الفطور ، شجاي تحجي .."
ربما تسبب كل هذا الى انكفاء الفرد العراقي على ذاته تعبيرا عن شدة الخوف من الاخر وكذلك شدة الحساسية من الاحتكاك بأي جسم ثقافي غريب ، والاكتفاء بما هو متاح بيسر وسهولة من دون محاولة التطلع الى وأمتلاك ما هو صعب المنال ومن الانزواء في كهف الذات تتشكل جملة خصائص لعل أهمها : التخلي عن المبادرة (الفعل) والاكتفاء برد الفعل والبط بالتميز بين الاختيارات المتاحة والتراخي في استثمار الفرص الجديدة ، وأهمال عامل الزمن بما يقتضيه والتردد الطويل في اتخاذ المواقف في الزمان والمكان المناسبين . بالتالي ان التفكير الذي يعني تمييز الذات عن الاشياء الاخرى ، كأشياء قائمة في ذاتها ، ينمو او يمكن ان ينمو لدى الفرد العراقي مع معايشته التجارب التي يتفاعل معها الفرد وتمتد اليها تجربته ، كفيل ان يفصل بين الذات والموضوع في عمليات التفكر التي يطلقها الفرد في المجتمع .ويعني في النهاية ان ذاك الفرد يحتاج الى ان يطور هذا النمط من الكفاءة على التفكير المجرد أو النظري ، وأن درجة تحققها فيه ترتبط :1- بدرجة تدربه عليها وتمرسه فيها . 2- بقدرته الخاصة على الاستفادة من التدريب . 3- بدرجة تحرره النفسي والعقلي من مفاهيم وحوافز لاواعية تتناقض معها . 4- بدرجة انفتاح الثقافة والتربية الثقافية اللتين ينشأ فيهما لهذا النوع من التفكير نفسها . وكما نعلم ان التفكير المنطقي لا ينمو عفوياً من النشاطات اليومية نفسها ، وهذا يعني من الناحية العملية ، ان نمو التفكير المنطقي المجرد يجب ان يكون الهدف الرئيس من دروس العلم على جميع مستويات التربية والتعليم العراقية ، حديثة العهد .
4- المسايرة للتقاليد والعادات الاجتماعية والاذعان للسلطة (القوية) والرضوخ لها : تعد سمة الرضوخ للعادات الاجتماعية ومسايرتها من السمات المؤكدة في طبيعة المواقف العقلية للفرد العراقي وهي أحد المواريث والانماط السلوكية التي يرثها العراقي من المُعاش الاجتماعي ، وتعد أحدى المعيقات الثقافية التي تنشأ لدى الفرد العراقي من خلال هرمية علاقته مع السلطة الاجتماعية والعائلية وحتى التربوية ، فلكي يعيش العراقي في مجتمعه بأطمئنان ، عليه ان يتقبل قيم هذا المجتمع ويجاريها ، أما المعارضة للتقاليد التي تساعد فعلياً على تخطي الواقع الاجتماعي المعاش فهي من السمات القليلة النادر التي يتميز بها قلة من الناس . وهذه المسايرة العقلية تظهر بوضوح في رضوخ الفرد للسلطة وطاعته العمياء لها بشكل غير مبرر والشواهد على المسايرة ما يتداوله العراقيون من أمثلة: "الّي ياخذ أمي يصير عمي ".ويشير الباحثون الى ان العقلية التقليدية هي في العادة واقعة بين نوعين من المعرفة : المعرفة الماضوية ومعرفة راهن ، الاولى مدركة وناجزة والثانية مجهولة غامضة ، ان تقبلها العقل رفضتها التقاليد وأن اسندتها بنى العقل اسقطها المجتمع .
5- تبديد الوقت والكسل والتسويف والتراخي: تبديد الوقت هو عدم استخدامه بالشكل الامثل لتحقيق اهداف الفرد او المؤسسة التي ينتمي اليها ، او الاسرة التي يرعاها ويقوم بأرجاء الاعمال وتأجيل الاني والاتي .وهو نابع كما نوهنا في ملاحظاتنا حول المجتمع العراقي ، من نمطية العمل الزراعي الذي لا يستدعي بطبيعته أكثر من الانسيابية البطيئة في الاداء والحركة ، حيث كانت المواسم الزراعية هي وحدات القياس الزمني ، مما قلل من قيمة الوقت في الذهنية العراقية وحال دون ظهور دقة التوقيت وتبلور الوعي الزماني . والعراقيون يعرفون بعضهم البعض في المواعيد ان مواعيدهم تتأخر ساعة او تتقدم ساعة في أحيان أخرى ، ولذا إذا ما صادف العراقيون رجلاً يلتزم بفارق عشرة دقائق او نصف ساعة قالوا عنه متعجبين متفاجئين " انكليزي بمواعيده " او قولهم "يمشي مثل الساعة " بشأن الانضباط واحترام الزمن وديناميكية الحياة ، وقد ذهب العراقيون الى وصف اعتيادهم على الفشل المستمر وقلة الانجاز قولهم " تيتي ..تيتي ..مثل مارحتي جيتي "
التصلب في الرأي وأعتراض التجديد والابداع : تبدي أنماط التفكر لدى الفرد العراقي ميلاً شديداً الى الثبات والسكونية ، الثبات على القناعات ، والثبات في الامكنة ، وتميل بنى العقلية العراقية الى أن تكون نافرة من التجدد والقبول بالجديد والانغلاق والانطواء والعزلة . التصلب هو جزءُ من بنى العقل العراقي ويؤشر التمسك بالرأي وعدم التراجع عنه وأن اقتنع صاحبه بأنه خطأ ، والعراقي يظن ان الرأي الامثل هو الرأي المتوالد من رأس واحد ، لان في ذلك رجولة وفروسية ، ولان العراقي يحسب ذلك مرتبط بفقدان الكرامة ، ومؤشر على خلل في بنية الفرد العقلية ولذا يقول العراقي على الدوام في أمثاله " إذا اني مير وانت مير من الي يسوك الحمير " .وهذا المثل يطلق على من يفكر ان يحسن من وضعه الاجتماعي على سلم التراتب الاجتماعي . وقرين التمسك بالرأي والتصلب عليه ، التمسك بالقديم والاعتراض على كل ما هو جديد يمكن ان يهدد القديم . وهذا يتضح كلما واجه الناس تغيرا كبير في حياتهم او في حياة مجتمعاتهم . يميل أكثرية الناس أو يفضلون التمسك بحالة متوافرة او تقليدية لانها مألوفة لديهم ، على حالة جديدة لاتزال مجهولة منهم . وهو ما تعبر عنه الجماعة العراقية في الكثير من أمثالها الشعبية ذات الدلالات العميقة:" شين الي تعرفه أحسن من زين الي ما تعرفه ".والمعنى ان هذا الرجل او الانسان او اي شي الذي نعرفه ، على الرغم من سوءه ربما اذا فكرنا بتغييره بجديد يفاجئنا بسوء أكثر ولذا فليس من مبرر لتغيير الحال . من هنا ندرك أن الفرد العراقي أميل عقلياً للاحتفاظ بنمط معين من العادات السلوكية ونوع من الالبسة والالوان بعينها لدرجة تصير معها تغير الالوان او نمط الالبسة اشكالية كبيرة تربك عقلية هذا الفرد وتجعله يصاب بالتوتر . وهنالك الكثير من الامثلة الدالة بالفعل على ثبات القناعات وأستحالة تغيرها نورد على سبيل المثال في مدينة الديوانية قُبيل إحتلال العراق كانت تختلف عن المحافظات الاخرى بأحتفاظها بسيارة نوع روسي (فولكا ) وأستمرت على هذا النوع ثلاثة عقود من الزمن حتى أصبحت سيارة الفولكا بثمن يتجاوز ثمن السيارات نوع اليابانيTOYTA او الماني BMW ومن المفارقة في هذا التشبث الاعمى . ان الحكومة المحلية كانت قد ذهبت بعد ان سقط النظام السابق الى دولة روسيا الاتحادية وتعاقدت على نفس السيارة (الفولكا ) وأتت بها الى أعضاء مجلس المحافظة بوصفها السيارة الاكثر براعة واهمية على موديل العام 2005. ولم يتغير شيء على الاطلاق فقط الموديل كان لدينا اخر موديل لسيارة الفولكا 1975 التي وصل سعرها الى اربعة ملايين دينار عراقي في العام 1999. ثم بعد التغير دخلت الفولكا موديل 2006. التي (سبحان الله) لم تتغير كليا عن موديل1975. وتكمن المشكلة في ان ميل العقلية العراقية التقليدية للثبات والسكونية ، يقود ، كما يرى الدكتور بركات الى أنغلاقها على نفسها في عدم تقبل عادات أو تقاليد أو اساليب أو اتجاهات أو اي من الميول الاجتماعية الجديدة ما يذهب بالمجتمع الى دورة اجتماعية مغلقة على الماضي . وعلى الرغم من تسارع معدلات التحضر بين في القرية والريف العراقي لكنهم مازالو لا يظهرون كثيرا من روح المغامرة ، وهم يفضلون التكتل القرابي الجغرافي والسكني بوصفه وسيلة لزيادة الاحتراز من اخطار المستقبل غير المحسوبة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة


.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟




.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط


.. ردود فعل غاضبة للفلسطينيين تجاه الفيتو الأمريكي ضد العضوية ا




.. مخاوف إسرائيلية من مغبة صدور أوامر اعتقال من محكمة العدل الد