الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا لا تصلح الديموقراطية في المجتمعات الإسلاموية؟ محاولة تفكيك الواقع المتأزم في مصر 5/5

ياسين المصري

2018 / 10 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تحالف الفاشيتين: العسكرية والدينية
يعود أصل كلمة الفاشية (Fascism) في جذورها إلى ما يُطلق عليه باللاتينية (Fasces) أي الرُّزمة أو الحزمة من القضبان، أو العُصْبة لترمز إلى السلطة التنفيذية والعقابية. وهي عبارة عن أيديولوجية سياسيّة ظهرت في أوروبا في العقد الثاني من القرن العشرين، إثر التحولات التي حدثت خلال القرن التاسع عشر، والتي رفضت النموذج المنتشر لنظام الحكم القائم على الليبرالية التقليدية والديمقراطية البرلمانية المتعددة في ذلك الوقت، فأعطت للسلطة التنفيذية وحدها كافة الحقوق والوجبات وفضلتها على بقية السلطات الأخرى، وعملت على تمجيد أية مبادئ تتبناها الدولة إلى حد التقديس، بحيث يكون رئيس الدولة هو النواة الصلبة للحكم ويكون وحده هو الآمر الناهي، ومصدر السلطات جميعها.
وفي عالم المتأسلمين سواء كانوا من العربان أو المستعربين أو غيرهم، وجد الحكام دينًا مؤدلجًا سياسيًّا ومهيَّأً في جوهره للشؤون الدنيوية، ويمثل سلطة عقابية فعَّاله، ويحظى بمكانة استغلالية عالية في الشؤون السياسية والحياتية للبشر، أي أنه دين فاشي بامتياز، فأي قارئ متعمق وحيادي لكتب السيرة يدرك بوضوح أن نبي الأسلمة كان وحده هو الآمر الناهي فيما يختص بشؤون العربان من حوله، بناء على نصوص تشريعية زعم أنها من إله يقبع في السماء، لا يمكن لأحد محاسبته أو الاعتراض على مشيئته. ومن ثم مارس كل صنوف الاستبداد والقتل والسبي والاغتصاب، مستعملًا الدين بشكل هلامي غير منضبط، كتقنية فعَّالة في مجتمع بدائي للسيطرة والاستغلال وتحقيق مآربه ومآرب أتباعه الشخصية، خصوصًا خلال العشر سنوات الأخيرة من حياته. وبذلك وضع في وقت مبكر أسسًا متينة وفعَّالة للفاشية الدينية والسياسية معًا. ولم ينسي أن يقول لمريديه الأشقياء أن يكون لهم أسوة حسنة، ينتهجون نهجة ويسيرون على سنته.
وفي عام 1952 عندما انقلب العسكر على النظام الملكي البرلماني في مصر، واستولوا على السلطة، كانت الدولة مازالت تتأرجح بين أن تصبح « بلدًا متقدِّمًا كبيرًا» تتمتع بنظام ديموقراطي كامل أو أن تكون أحد بلدان «العالم الثالث» الغارقة في التخلف والفساد! وكان المجتمع آنذاك متعددَ الأعـراق والطوائف والأديان. ولكن العسكر بجهلهم وكنتيجة لعجزهم عمدوا تدريجيًّا إلى نوع من «التطهير العرقي» ليصبح المجتمع فيما بعد إسلامويًّا إلى حد كبير. وبجلهم وعجزهم أيضًا بدأت إدارة الدول تتخد شكلا عشوائيًا أو قل عبثيًا، بتحركها على أربعة محاور رئيسية هي: الرئيس والجيش والبيروقراطية والدين.
لذلك كان لابد وأن تتوقف الدولة عن الحركة، وأن تصاب بالترهل من داخلها، وأن تفقد معالم الدولة الحقيقية. وربما يعجب البعض أن يصفها الرئيس العسكري الرابع (الجنرال عبد الفتاح السيسي) بأنها "شبه دولة"، ولكنه لا يستطيع التطرق إلى السبب كي يبطل العجب، فهو نفسه خرج من رحم المؤسسة التي مازالت تتحكم في البلاد وتسيِّس العباد حتى الآن.
من الطبيعي بل ومن الضروري إذا تحركت هذه المحاور الرئيسيّة الأربع أن يتحرك كل منها مستقلًا بذاته، بعيدًا عن المحاور الأخرى، نحو أهدافه ووفقًا لرغباته وأهوائه الخاصة، ولكن الأهم في حركتها هو التحالف بين المحور الأول (الرئيس) مُمَثلًا للجيش والمحور الرابع (الدين) مُتَمَثلًا في رجال الدين، وهو صراع قائم على قدم وساق منذ نشأة الفاشية الإسلاموية، إذ أن خضوع الدولة لحكم أقلية عائلية أو عسكرية، يخلق صراعًا اجتماعيًا (أو شبه حرب أهلية)، بين القائمين على نظام الحكم والجماعات الدينية والمدنية المعارضة لهم وأهمها على الإطلاق في الوقت الراهن جماعة الإخوان المتأسلمين. هذا الصراع كان يشتد تارة ويهدأ تارة أخرى. وكل منهما يحاول السيطرة على محوري الجيش والبيروقراطية والتأثير عليهما من الداخل والاندساس إلى صفوفهما لضمان الحماية والتأثير على الشعب.
في البداية وافق الإخوان على إنقلاب الضباط وناشدوهم، بسحق كل القوى السياسية المدنية التي كانوا يعتبرونها منافسة لهم، ظنا أن ذلك سيجعل الساحة خالية لهم وحدهم، بما في ذلك إلغاء جميع الأحزاب وأولها حزب الوفد، بيت الأمة والذي هزم مرشحه مرشح الإخوان الشيخ حسن البنا زعيم الجماعة نفسه عندما واجهه في الانتخابات البرلمانية، فلم تنساها الجماعة، كما باركت الجماعة تكميم الأفواه وسحق الاحتجاجات الشعبية وسجن المعارضين وقتلهم وإعدامهم، بل وطلبت من الضباط أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، باعتبارهم ممن "يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا"، على عادة الإخوان في امتهان الآيات القرآنية وتنزيلها في خلافاتهم السياسية مع خصومهم، كل هذا الميراث الكئيب شاركت فيه جماعة الإخوان المسلمين، وبالتالي، رغم كل ما نالها بعد ذلك من حكم ضباط "يوليو" إلا أنهم يرفضون الاعتراف بأنه (انقلاب)، حتى لا يرغموا على الاعتذار لمشاركتهم في انقلاب عسكري انتهى بخراب مصر، ومازال مصرًّا على الاستمرار في مزيد من خرابها.
بلغ الصراع ذروته عندما تمكنت الجماعة من الفوز في انتخابات شبه ديموقراطية (Semi-democratic) ووصول رئيسهم محمد مرسي العياط إلى سدة الرئاسة في عام 2012. إذ شعر العسكر عندئذ بخطر يهدد مصالحهم الكبيرة التي تحققت خلال الـ66 عام من حكمهم. وبصرف النظر عن الكيفية التي تمكنوا بها من إزاحة الرئيس المتأسلم عن السلطة بعد عام واحد من حكمه، فإن الشعب في غالبيته كان مغيبًا أو مغلوبًا على أمره، ولم يكن يدري أن هناك من يعبث بمخاوفه المِسَيَّسة، وأماله المعطلة منذ زمن بعيد!
واقع الحال الآن ونحن في عام 2018 يدل بما لا يقبل المجادلة إلى أن الإجراءات السياسية (الاقتصادية والثقافية) التي انتهجها العسكر خلال 66 عام لحكمهم قد فشلت فشلا ذريعًا في الارتقاء بالمستوى المادي والمعنوي للشعب، بل وقد أتت بنتائج عكسية من التخلف والانحطاط والفساد والسفالة اللفظية والسلوكية في أوجه الحياة المختلفة.
إن الصراع الدائر منذ عقود بين الإخوان المتأسلمين وزمرة العسكر المسيطرين لا يجري لمصلحة الوطن في شيء ولا يهدف إلى تحقيق مصالح المواطنين بأي شيء، فهو ليس إلَّا صراعًا بين المصالح الشخصية والمنفعة الذاتية للفريقين.. وهذا يقتضي فك الارتباط بين المحور الرئاسي والديني، والعمل على جعل المحاور المختلفة تمارس أعمالها على قاعدة واحدة هي خدمة الوطن والمواطن، والتزام بمبادئ الحرية والديموقراطية والكرامة الإنسانية.
******
لا فرق على الإطلاق بين الدين والتدين، أو بين ما يسمى بـ"الإسلام السياسي" وبين المتأسلمين أنفسهم، فالجميع بلا استثناء يرون أنفسهم دائمًا أحق من غيرهم بحكم البلاد وتسييس العباد تبعًا لعقيدتهم في نسختها الصحراوي الهلامية المفبركه، وبالشكل الذين يجدونه في تفسير قرآنهم والصورة التي شكلها لهم كُتَّاب السيرة والسنة النبوية من الفرس القدامى. وتعكس التصرفات الشاذة لنبيهم الكريم. لذلك ينظرون إلى كل من لا يسير على نهجهم في فهم الدين على أنه كافر، مما يستوجب الوقوف في وجهه ومحاربته. ولقد أتاحت لهم هشاشة الدولة وجهل العسكر وعجزهم في إدارتها أن يتلاحموا مع القاعدة الشعبية بشكل مباشر ويملأوا الفراغات السياسية ويقدموا الخدمات الأساسية التي من المفترض أن تقدمها الحكومات للشعب، كالتعليم والعلاج من الأمراض وتوفير المسكن وإيجاد فرص العمل ... إلخ. وفي مسعاهم الدؤوب للسيطرة على المحاور الأخرى، تمكن المتأسلمون تدريجيًّا من الاندساس داخل الجيش والشرطة ومكاتب البيروقراطية والإعلام، والسيطرة على المساجد ومراكز العمل الديني.
الانقلاب العسكري قاده ضباط صغار مغمورون لا يعرفهم أحد، وأطاحوا فيه بالقيادات العسكرية الرفيعة للجيش واعتقلوهم، ووضعوا ضابطا رفعيا كواجهة "محمد نجيب" ونصبوه رئيسا للجمهورية، ثم انقلبوا عليه بعد عامين فقط من رئاسته للجمهورية، واعتقلوه ووضعوه تحت الحراسة قيد الإقامة الجبرية .
خطط الضباط الصغار لاعتقال قيادتهم الكبار سرا، وحركوا الأسلحة والدبابات واستولوا على السلطة وعزلوا الحاكم وحلوا البرلمان وسرحوا الأحزاب السياسية واعتقلوا عددا من قياداتها وحلوا الحكومة وأوقفوا العمل بالدستور، ونصبوا قيادة عسكرية مؤقتة لحكم البلاد، قبل أن ينجح البكباشي جمال عبد الناصر في ترويض بقية زملائه واعتقال الرئيس محمد نجيب، لكي يقفز على منصب رئيس الجمهورية، ويرتب انتخابات هزلية مزورة بفجور، ويؤسس لظاهرة 99% في الانتخابات الرئاسية، التي أصبحت بدعة ـ من بعده ـ ونسخة معتمدة في الديكتاتوريات الانقلابية العربية التي انتشرت في سوريا والعراق وليبيا واليمن والجزائر بعد ذلك .
ومع ذلك دعم الشعب جمهورية العسكر الأولى، والتف حول قادتها وحول أهدافها الستة المعلنة، التي لخصت رغباته في تأسيس حياة ديمقراطية سليمة، وفي استقلال القرار الوطني ودعم عدالة اجتماعية للخروج من الجهل والفقر والمرض، ومن استغلال رأس المال والإقطاع، وتمكينه من تقرير مصيره ودعم تحرّره، ويكون هو بحق مصدر السلطة وصاحب الشرعية، بينما كان واقع الحياة السياسية يثبت كل يوم أن كل هذا لم يكن سوى كلام دعائي فج وكاذب. وبعد فشلهم الذريع في تأدية عملهم وهزائمهم المتكررة في حروبهم العبثية، تفرغوا لاستغلال موارد الدولة لصالحهم وتقوية جمهوريتهم داخل الدولة بمرور الوقت، بدأوا إذن في إضعاف الدولة وتحويلها إلى مزرعة دواجن، كي تكون أداة طيعة للحفاظ على مصالهم دون منازع. وهم يعرفون أن المتأسلمين المنازعين لهم على طول التاريخ عصيِّون على الترويض، خارجون عن طاعتهم ، مخالفون لتوجهاتهم، ولكنهم في نفس الوقت يعانون من أزمة أخلاقية، لأنهم كانوا شركاء فاعلين معهم في انقلابهم الناصري، وأنهم لا يستطيعون الاعترف بهذه الشراكة كيلا يعتذرون عن تورطهم فيها ومساندتهم في وأد المسار الديموقراطي وأيقاف الحياة المدنية ونشر الخوف والقمع والفقر والجهل والمرض في ربوع الوطن على نطاق غير مسبوق في تاريخها حتى أيام الاستعمار الأجنبي للبلاد.
وحكم العسكر كأي نظام شمولي في كل زمان ومكان لا يحتمل وجود رقيب يحد من أهوائه، ويقف أمام إرادته ورغباته. وهو نظام يستعلي على مواطنيه ويكذب عليهم ويعمل كل ما في وسعه لخداعهم وقمعهم بدون مساءلة، ولأنه نظام فاشي في المقام الأول، فإنه يسعى إلى احتواء السلطات التشريعية والقضائية وتسييسها وضمها إلى السلطة التنفيذية ومزجها مع بعضها البعض في بوتقة الخضوع والولاء، إنه يعتمد بالأساس على السلطة المطلقة في مقابل الطاعة المطلقة من قبل المواطنين أو (الرعايا) بمصطلح الثقافة الإسلاموية الصحراوية. وهي الثقافة الطاغية التي يغيب عنها صورة السياسي الذي يخطئ كغيره من البشر، ويجب محاسبته كغيره من المخطئين، ليحل مكانها صورة الإله الحاكم أو النبي المتحكم والقائد الأب والزعيم الملهم من الولادة حتى الوفاة. إن رسم هذه الصورة الملائكية للشخصيات المتحكمة والنافذة يجعل معايير محاسبة البشر العاديين على أخطائهم وهفواتهم أكثر صرامة وقسوة، مما يساهم بدوره في دفع المجتمع إلى المزيد من التشدد والتعصب.
كان الإخوان في البداية أكثر حماسة لتوجهات القمع والرعب التي نشرها الضباط، بما في ذلك إعدام العمال الأبرياء الذين تظاهروا للمطالبة بحقوقهم، بمحاكمات عسكرية هزلية وأحكام تمت خلال 48 ساعة فقط، فضلا عن سجن المئات الآخرين، ومناشدة الإخوان لهم الضرب بيد من حديد على "أعداء الثورة" وهو النداء الذي طبقه الضباط عليهم هم أنفسهم بعد ذلك، بعد انتهاء حاجة الضباط لدورهم الشعبوي في التغطية والدعم للانقلاب.
تحول الجيش المصري إلى مؤسسة أمنية وتجارية، وبدأت الطبقة العسكرية الحاكمة مع النخب الموالية لها من رجال الدين والإعلام والتجارة تعزل نفسها عن الشعب ببناء التجمعات السكنية الخاصة بهم المزودة بجميع الخدمات من أسواق وأندية ومدارس خاصة وكهرباء وماء وأسوار عالية، وحراسة أمنية متخصصة، لتصبح معزولة عن الحياة القاسية الصعبة التي يعيشها معظم المصريين، في غياب الخدمات وفرص العمل، ومع ارتفاع مستمر في تكاليف الحياة وشحّ الموارد.
أصبحت النخب الحاكمة والموالية لها تتحكم في مؤسسات الدولة وتسخّرها لتحقيق مصالحها الشخصية غير مكترثة بحال الشعب الذي يزداد فقيرًا وحرمانًا كل يوم. وراحت تلك النخب الانتهازية تتحكم بالاقتصاد والتجارة، وتستخدم الجيش والأمن لقمع الأصوات المعارضة وتمنع قيام حركات سياسية منافسة، بعيداً كل البعد عن كل الأطر القانونية والإخلاقية.
كثيرًا ما نسمع وما زلنا نسمع عن الاستعمار الأجنبي (الخارجي)، وأنه كان يستغل موارد البلاد المستعمَرة لتحقيق مصالحه، متجاهلا مصالح الشعوب، بينما استعمار النخب الحاكمة في الداخل يشكل إستعمارًا من أردأ وأقبح أنواع الاستعمار على الإطلاق، فهو يقوم على التحكم في مؤسسات وثروات الدولة وتحويلها إلى مزرعة خاصة تخدم مصالح النخب، ويديرها بالمكائد والجرائم والفساد والظلم. وتحوِّل الرئيس إلى زعيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه، لذا فكل من يهمس له بالحقيقة الموضوعية يؤرقه ويزعجه ويقض مضجعه ويكدر مزاجه.
الإخوان الذين يعتبرون انقلاب الضباط الشبان في يوليو 1952 ثورة شعبية، هم أنفسهم الذين يعتبرون ما حدث في يوليو 2013 انقلابا على رئيسهم المتأسلم، رغم أن ما حدث في يوليو 2013 أتى محمولا على طوفان بشري حقيقي في الشارع مهد لقرار الجيش، وهو ما لم يتوفر لما حدث في يوليو 1952، ومن العبث أن تسألهم عن "المنطق السياسي" في اعتبار ما جرى في يوليو 52 ثورة، كما قال مرسي، وما جرى في يوليو 2013 انقلابا، لأن المعيار باختصار شديد، هو أن ما جرى في 52 كان بشراكتهم وهم الذين ركبوه في البداية ضد خصومهم السياسيين، وأما ما جرى في 2013 فكان بمشاركة خصومهم، وهم الذين ركبوه ضدهم، أي أن المعيار "الأخلاقي" الوحيد لتقييم الموقف هو : لصالح الجماعة أم لغير صالحها .
من الطبيعي عندما تستحوذ عُصْبة من نوع ما (عسكرية أو دينية أو غير ذلك) فإن جل همها هو أن تكيِّف قوانين الدولة ومسارها السياسي بحيث ينسجم مع أهوائها رغباتها لخدمة أعضائها والموالين لها وحدهم من دون الآخرين. فنلاحظ أنه كثيرا ما توزع الحقائب الوزارية على أشخاص لا اهتمام لديهم بمجالات عمل وزارتهم، وذلك كمحصلة انتمائهم للحزب الحاكم أو لجهات معينة، تنضوي تحت النهج الحكومي، وليس حسب مؤهلاتهم العلمية أو كفاءاتهم المهنية. هؤلاء المرتزقة يدخلون في البداية مكاتب وزارتهم بتواضع ووجل، معتمدين على مستشارين ليعوضونهم عن الخبرة التي يفتقدونها بإسداء النصح الأمين لهم. ولكن ما أن تمضي بضعة أسابيع أو شهور قليلة إلا ويركب في عقول أولئك المسؤولين الأغرار أنهم يملكون مفاتيح المعرفة، وأنهم جهابذة في اختصاص وزاراتهم، وكثيرا ما يعزلون المستشارين الذين علموهم، أو يطيحون بمعاونيهم ممن أمضوا عمرا من الخبرة في مجالات عملهم.
الاستعمار الداخلي، مصطلح استخدم لأول مرة في كتابات مفكري أميركا اللاتينية لوصف العلاقة بين النخب الحاكمة والشعوب التي تحكمها. ووصفت تلك العلاقة بأنها استعمارية نظراً إلى طبيعتها الاستغلالية التي لا تختلف عن العلاقة بين الدول الاستعمارية والشعوب المستعمَرة. فالنخب الحاكمة تتحكم في مؤسسات الدولة وتسخّرها لتحقيق مصالحها الخاصة غير مكترثة بحال الشعوب الفقيرة المحرومة. النخب الحاكمة تتحكم بالاقتصاد والتجارة، وتستخدم الجيش والأمن لقمع الأصوات المعترضة ومنع قيام حركات سياسية منافسة، بعيداً عن كل الأطر القانونية. وبينما تعاني الشعوب تدهوراً أمنياً واقتصادياً، تعيش النخب في مجمعات سكنية محصنة، وترسل أولادها إلى مدارس خاصة، وتتمتع بالخدمات الرئيسية والكمالية، غير مكترثة لواقع غالبية المواطنين.
هذا النموذج الاستعماري برز في عالم العربان والمتأسلمين في صورة أكثر استغلالاً وقبحاً، حيث أصبح الجيش يمتلك الحظ الأكبر من الميزانية الوطنية، وينافس القطاع الخاص في المشاريع التجارية والصناعية، وتعيش أسر ضباطه في تجمعات سكانية معزولة عن الشعب، ويتلقى أبناؤه التعليم الخاص والبعثات الدراسية، بينما تعاني غالبية السكان من الظروف المعيشية الصعبة، مع غياب الخدمات وضعف مستوى التدريس وغياب الخدمات الصحية.
*******
الديموقراطية بعناصرها الأساسية التي ذكرت سابقًا لا تنسجم بأي حال من الأحوال أي دين ينسب إلى قوة غيبية تتحكم في شؤون البشر الدنيوية ولا يمكن إدراكها أو محاسبتها، فالديموقراطية هي تعبير عملي عن نظام الفكر الليبرالي، وفي جذورها وأصولها كما رأينا في المقالات السابقة تستند إلى القول بأصالة الفرد وهدفها الأساسي هر إعطاء الأصالة للإنسان بصفة كائنًا عاقلا ومسؤولا عن نفسه تجاه الآخرين وليس أمام الله.
إن المحاولات البائسة والمساعي الطائشة لخلق انسجام بين الديمقراطية والديانة الاسلاموية تعكس مدى الضعف الفكري والتخلف العقلي عندما يزعم الساعين إلى ذلك بأن تلك الديانة تمتلك منظومة سياسية واجتماعية كاملة، وبواسطتها يمكن قيادة البشرية إلى بر الأمان، من دون الإستناد إلى عوامل ذات صلة بالاستبداد أو بالديكتاتورية وتقديس الفرد على حساب المجتمع، بينما الحقيقة على العكس تمامًا من كل هذا.
إن الديموقراطية في جوهرها التصالح مع الذات ومع ذوات الآخرين بينما الإسلاموية ترسختعلى الصراع مع الذات ومع ذوات الآخرين بوصفهم (شرُّ الدَّواب)، وأنهم (كالأنعام، بل هم أضلّ)، وأنهم (كالحمار يحمل أسفاراً)، وأنهم (كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث)، ووصفهم بأنهم أعداء (الله) وأعداء الرسول، وأنهم من أهل النار، وأنهم حلال الدم والمال والعرض … إلى آخر هذه المنظومة الإجرامية، لذلك من الصعب جدًّا وبشكل أقرب إلى المستحيل أن تتخلى دولة إسلاموية ما عن هذه المنظومة المقدسة، لتتحول من نظام سلطوي فاشي إلى شكل معاصر للديموقراطية، بحيث يقبل الفصل ما بين الدولة والدين. خاصة وأن الإسلاموية أكثر من أي ديانة سماوية أخرى، تتدخل في كل نواحي الحياة الاجتماعية للأفراد والجماعات على حد سواء، وبشيء أكثر تحديدا ً، فإن الإسلاموية من حيث التعريف والنهج التراثي والتاريخي تتعارض مع فصل الدين عن الدولة. ومع أن هذا الفصل ما بين الدولة والدين قد حدث إلى حد كبير تحت حكم االأنظمة السلطوية العلمانية كنظام صدام حسين في العراق وعائلة حافظ الأسد في سوريا والقذافي في ليبيا. إلا أن السلطة الفاشية الإسلاموية ظلت موجودة وتعمل عملها في الخفاء أو في العلن كما كان الحال عليه ومازال في عهد الحكم العسكري الفاشي والفاشل في مصر. وذلك لأن فكرة فصل الدين عن الدولة عملياً ليس لها أي سند في التفكير الإسلاموي من ناحية والفكر السياسي لدي أولئك الحكام من ناحية أخرى. فحتى لو كان هناك حزب سياسي علماني بالاسم، فإن أتباعه لا يتجرأون على التخلي عن معتقداتهم الإسلاموية الأساسية.
كما أن الذين يتشدقون دائمًا بخرافة الديموقراطية الإسلاموية (الشورى)، ليسوا على أدنى حد من القناعة بأن أي احتمال أو فرصة لاقتران الإسلاموية بالمبادئ والمثل الديموقراطية يجب أن تعمل بالتزامن والتوافق على المستويات الدينية والثقافية والاقتصادية والسياسية. تركيا بهذا الخصوص تقدّم لنا بكلّ وضوح مثالاً لفشل اقتران الإسلام بالديمقراطية. ففي حين كان رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان يدعم عمليات التنمية الاقتصادية ويظهر بالكلام فقط ولاءه للحرية، كان يزج بالصحفيين وأصحاب الرأي المعارضين إلى السجون ويكسب لنفسه المزيد من السلطة الفردية، مع التزامه بشكل متزايد بالنهج الإسلاموي بدلاً من مبادىء الديمقراطية. ناهيك عمَّا حدث في مصر تحت قيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي الذي هو أبعد ما يكون عن الصيغة المثالية لمعادلة الإسلام بالديمقراطية، ويقدم نموذجاً سيئاً للفاشية، خيّب بشدة أمل الشباب الذي يتحتم عليه الآن أن يقاتل في جبهتين على حد سواء: ضد الاستبداد السياسي والاستبداد الإسلاموي. الأمر الذي يجعل من الوضع الحالي خطراً ومفجعاً بالنسبة لملايين المواطنين الأبرياء الذين يعانون من الفقر والجهل والمرض. وهكذا قد تبقى مصر لعقود أخري في انتظار صعود شباب حرّ في تفكيرهم وإيمانهم بالديموقراطية واحتكاكهم بطرق جديدة لتفسير التأسلم، كي يبزغ شكل علماني وعصري للإسلاموية يتكيّف مع مبادىء الديمقراطية الحقيقية على أسس أكثر رسوخا مما كانت عليه في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي.
إن المشكلة برمتها تنحصر في هيمنة حكم الأقليات سواء كانت عسكرية أو دينية أو عائلية، لذلك لا طريق للخلاص سوى إقصاء الأقليات عن الحكم لتتفرغ لأعمالها الأساسية، وفصل الدين عن السياسة والإلتزام بالديموقراطية الحقيقية، التي تعلو من قيمة الفرد وتجعل منه إنسانًا حرًّا ومسؤلًا عن نفسه وعن تصرفاته أمام القانون.
إن أشد ما تحتاجه مصر الآن هو التنمية الاقتصادية المتساواية، بحيث تبتعد عن التحيُّز الفئوي للعسكر وعن المركزية المهيمنة والبيروقراطية المعوقة والسعي لبناء طبقة وسطى قوية مجهزة بالدعم الاجتماعي والثقافي الأساسي في التعليم والرعاية الصحية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بل 3 فاشيات
أنور نور ( 2018 / 10 / 27 - 08:17 )
العسكرية , والدينية , والقوم-عروبية

اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س