الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علم نفس الجماهير

جمال عبد العظيم

2018 / 10 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


قبل ان يهم القرن 19 بالرحيل قدم عالم الاجتماع الفرنسى جوستاف لوبون اطروحته المسماه "علم نفس الجماهير" وبها قد اسس فرعا جديدا من فروع العلوم الانسانيه وعلى الفور تلقفته الجامعات لتدرسه . كما ترجمت هذه الدراسه الى عشرات اللغات وقراها معظم السياسيين فى هذا الوقت ومنهم هتلر وموسولينى . كما ان منزل السيد لوبون قد تحول بعدها الى مزار لاشهر شخصيات العالم ومنهم الرئيس الفرنسى ريمون بوانكاريه والرئيس الامريكى تيودور روزفلت وكانوا يتلقون بكل جديه نصائحه فى مجال السياسه والمجتمع . كما زاره ايضا عالم الرياضيات هنرى بوانكاريه والفيلسوف هنرى برجسون والشاعر بول فاليرى . وفى عشرينيات القرن العشرين كان العلم الجديد "علم نفس الجماهير" قد بلغ اوج انتشاره حيث قدم للنخب البرجوازيه الحاكمه مجموعة قواعد تساعدها على التحكم فى عنف الجماهير وضبطها والسيطره عليها . وكان ابداع جوستاف لوبون يتجلى فى ان دراسته قد جمعت ومزجت علمين ببعضهما : علم الاجتماع وعلم النفس كما هو واضح من اسمها . حيث اهتمام علم النفس قاصر -حتى هذا الوقت- على الفرد والنفسيه الفرديه وجاءت دراسة جوستاف لتمارس التحليل النفسي على جموع من الناس هى من يعتبرها جوستاف جماهير. وقد عرف الجمهور بانه: جماعه من الناس يجمعها رابط نفسى يخلق منهم نفسا جماعيه تصبح خاضعه لقانون الوحده العقليه للجماهير. وهذه النفس الجماعيه تجعلهم يحسون ويفكرون ويعملون بشكل مختلف عما لو كانوا فرادى . وفى اطار الجمهور تضمحل القدرات والملكات العقليه للفرد.اى ان الميزه الاساسيه للجمهور هى انصهار افراده فى روح واحده وعاطفه مشتركه تقضى على التمايزات الشخصيه وتخفض من مستوى الملكات العقليه. ففى الجمهور يتبع كل شخص شبيهه المجاور له . والحشد الكبير يجرف الفرد معه مثلما يجرف السيل الحجاره المفرده التى تعترض طريقه. وذلك ايا كانت الطبقه الاجتماعيه التى ينتمى اليها الفرد وايا كانت ثقافته . واعتبر لوبون ان المتغيرات التى تطرا على الفرد المنخرط فى جمهور مشابهه تماما لتلك التى يتعرض لها الانسان اثناء التنويم المغناطيسى . حيث فى اطار الجمهور يفقد الفرد الوعى ويخضع تماما للا وعى وتلك هى حالة التنويم المغناطيسي . وهنا يستطيع القائد - المنوم - توجيهه كيف يشاء لان شخصيته الواعيه وبالتالى ارادته تتلاشى وعندئذ تتوجه مشاعر الفرد وافكاره فى الوجهه التى يحددها المنوم . وتحت تاثير الجمهور يتعرض الفرد لتغيرات عميقه تطال نشاطه النفسى فعاطفيته تتضخم تضخما مسرفا بينما يتقلص نشاطه الفكرى وينكمش وتزداد لديه قابليه التاثر بالايحاء ومن ثم تقليد ما يفعله الجمهور .
ولكن ما يخسره الجمهور النفسى من حيث الذكاء والحس النقدى يربحه فى ناحيه اخرى حيث يداخله شعور طاغى بالقوه التى لا تقهر وذلك بحكم الاعداد الكبيره وهو ما يعطل الاحساس بالمسئوليه الذى يردع الافراد . وهذا يتيح للفرد ان يستسلم لغرائز كان سيكبحها لو كان منفردا . وهكذا يتصور من الفرد ان يخرج اى مخزون شرير كامن فى الاعماق البدائيه للنفس البشريه . فالانسان بمجرد انخراطه فى جمهور يهبط عدة درجات على سلم الحضاره فاذا كان الفرد مثقفا وهو منفرد فانه وسط الجمهور يكون همجى وغريزى وله من المخلوقات البدائيه عفويتها وعنفها ووحشيتها . وله منها ايضا حماستها وبطولتها . والجمهور اندفاعى سريع الحركه سريع الانفعال بحكم وقوعه تحت تاثير اللاشعور وقد علق عالم النفس الشهير سيجموند فرويد على دراسة جوستاف لوبون واوضح انه يحدث لدى الجماهير تضخم الثقه بالنفس نتيجة اطمئنانها الى عدم المحاسبه والمعاقبه وبالتالى سقوط الاحساس بالدونيه وعدم الكفاءه ويصبحون معباين بقوة عنيفه وهائله وفى الغالب شريره . ويستطيع الزعيم الصالح توجيه الجماهير لاجتراح افعال البطوله والتفانى من اجل قضيه نبيله على نحو يتجاوز بكثير قدرة الانسان الفرد على ذلك . كما يستطيع الزعيم الشرير توجيه الجمهور للتخريب.
فالمحرضات التى ينصاع لها الجمهور قد تكون نبيله او وحشيه بطوليه او جبانه بحسب طبيعة المحرض (القائد). لكنها على الدوام اسره وجبريه بحيث يمكن ان تتلاشى امامها غريزة البقاء نفسها . والجمهور لا يعرف المستحيل وهو ان اراد شىء فانه يرغب فى تحقيقه فورا.وهو ايضا سريع التصديق يفتقر للقدره على النقد وبالتالى لا يعرف الشك ولا التردد كما انه متطرف والشك عنده يتحول فورا الى يقين لا يقبل النقاش والنفور يتحول فورا الى كراهية ضاريه . وقد وافق فرويد على اطروحة عالم الاجتماع جوستاف لوبون واضاف ان الجماهير لا تظمأ ابدا الى الحقيقه فهى دائما تبحث عن الاوهام وتقدم اللا واقعى على الواقعى . والجمهور عظيم التاثر بالكلمات فالعبارات الرنانه قادره على اثارة اعنف العواصف فى النفس الجماعيه وهى ايضا قادره على تهدئة الجماهير وتسكينها . اما العقل والحجج المنطقيه فهى لا تستطيع مجابهة بعض العبارات والصيغ التى يكفى ان يلقيها الزعيم فى خشوع حتى تضىء الوجوه بالاحترام والتبجيل وتنحنى الجباه بل ويعتبرونها من جملة قوى الطبيعه ومن طاقات ما فوق الطبيعه .
والجمهور مستبد بطبيعته حيث لا يساوره شك فى انه على صواب . كما انه غير متسامح ويحترم القوه ونادرا ما يتاثر بالطيبه وغالبا يعتبرها شكلا من اشكال الضعف . والجمهور يتطلب من ابطاله القوه بل والعنف . وهو يطلب ان يخشى زعيمه وسيده المسيطر عليه وان يهابه .
وعن حتمية القياده بالنسبه الى الجماهير يقول جوستاف لوبون : انه كلما اجتمع عدد كبير من الكائنات الحيه سواء حيوان او انسان بادروا من فورهم وبصوره غريزيه الى وضع انفسهم تحت سلطة قائد . فالجمهور قطيع طيع لا يستطيع الحياه بلا سيد مطاع حتى انه يخضع غريزيا لمن ينصب نفسه زعيما عليه . ومن ناحيتة فلابد ان يتمتع الزعيم ببعض الكفاءات الشخصيه ولابد ان يكون هو نفسه مفتونا بفكره ما ويؤمن بها ايمانا عميقا ليتمكن من توليد الايمان بها لدى الجمهور . ولابد ان تكون ارادته قويه اسره قادره على تحريك الجماهير المتجرده من الاراده .
ويقول لوبون ايضا ان هناك قوه غامضه لا تقاوم فى الزعماء ويسميها الهيبه والراجح انه يقصد بها الكاريزما ويعتبرها ضربا من ضروب السحر يمارسه الزعيم على فكرنا. وهذا السحر يشل ملكاتنا النقديه كافة ويملا نفوسنا بالاندهاش والاحترام فنقع تحت تاثيره وايحائه ونبدا فى الوقوع تحت سلطانه كما يخضع المنوم لمنومه المغناطيسي. ويميز لوبون بين هيبه مصطنعه وهيبه حقيقيه والاخيره موهبه لا يمتلكها الا قله من البشر وبها يصبحوا قاده وزعماء . اما الهيبه المصطنعه فيكتسبها الفرد من الشهره او المنصب او المال .
ويصف لوبون العلاقه التنويميه بين الجمهور وزعيمه بانها علاقه من طبيعه دينيه فسواء فى الحركات الدينيه فى العصور القديمه والوسطى او فى الحركات والانتفاضات السياسيه الكبرى فى العصر الحديث فان العاطفه المحركه للجماهير كانت دوما من طبيعه دينيه ذلك ان الزعيم مثله مثل النبى يعتبر خارقا لجنس البشر ومستقطبا للعاطفه الدينيه على شكل خوف من القوه التى تعزى اليه وخضوع اعمى لاوامره واستحالة مناقشة عقائده . ورغبه محمومه فى نشر هذه العقائد وميل الى اعتبار كل من يرفضون اعتناقها بمثابة اعداء . وهكذا فان عاطفة الجماهير سواء اسقطت على بطل مؤله او على فكره سياسيه تبقى دائما ذات جوهر دينى . وعليه فان الانسان لا يكون متدينا فقط عن طريق عبادة الهه معينه بل ايضا عندما يضع كل طاقاته الروحيه وكل خضوع ارادته وتاجج عصبيته فى خدمة قضية ما او شخص ما مرفوع الى مستوى البطوله والزعامه . وهذا الجوهر الدينى الثابت - من وجهة نظر لوبون - فى كل عاطفه جماهيريه هو ما يفسر تعصب الجماهير واستبداديتها واعتناقها للافكار والعقائد على انها حقائق مطلقه . ودمغ ما سواها من الافكار والعقائد بانها اخطاء مطلقه . فالعقائد لا تتشكل عند الجماهير الا عن طريق التحريض والعدوى والايحاء التنويمى ولا تتولد عن طريق تشغيل العقل او الاقناع بالفكر والمنطق .
والواقع ان السيد لوبون عند تاسيسه للعلم الجديد قد مزجه باهوائه وارائه الشخصيه وانتماءاته الطبقيه . فهو برجوازى متعصب ومتحيز لطبقته بشكل فج لدرجة انه وصف الجماهير بانها مغفله ومجنونه ولا تستخدم قوتها الا فى الهدم والتدمير وانها كالجراثيم التى تساعد على انحلال الاجسام الضعيفه او الجثث فى اشاره الى ان الجماهير تهب على الدوله وعلى الحضاره عندما تضعف حيث تصبح القوة العمياء للكثره هى الفلسفه الوحيده للتاريخ . فالجماهير من وجهة نظره هى من هدمت الامبراطوريه الرومانيه والامبراطوريه العباسيه . وقد عبر لوبون عن ذعر برجوازى من دخول الطبقات الشعبيه فى الحياه السياسيه وتحولها الى طبقات قائده .
كما ان اطروحة السيد لوبون تفوح بالعنصريه وجاءت خاضعه لعنصرية اوروبا فى القرن 19 حيث سادت نظريه متكامله فى التمييز العنصرى حشدت لها كل المبادىء العلميه لتدعيم اركانها . وهى قد صنفت الشعوب الى اعراق عليا متفوقه واخرى دنيا متخلفه حسب لون الشره . واعتبرت ان العرق الابيض او الاشقر هو المتفوق وهو افضل من العرق الاسمر او البنى الغامق او الاسود وذلك لنقص بيولوجى تكوينى . ويقول لوبون ان روح العرق تهيمن على روح الجماهير وان العرق كلما كان ارقى فانه يحد من تغير الجماهير ويجعل خصائصها اقل حدة وبروزا ويتخلص العرق اكثر فاكثر من القوه المجنونه للجماهير ويحد من همجيتها .وقد رد عليه فرويد بان الغرائز الانسانيه وليس العرق هى التى تشكل اللاوعى عند كل الجماهير.
ثم ان جماهير غاندى التى لم يشهدها جوستاف لوبون صنعت استقلال الهند بدون اى عنف بل واجهت عنف المستعمر البريطانى باحتجاج صامت وحررت بلدها من خلال العصيان المدنى . وهو ما يقطع بان الجماهير العنيفه هى فقط الغير خاضعه لقائد او التى يقودها همجى غير مؤهل للقياده . ويتفق فرويد مع ماك دوغال (مؤلف كتاب العقل الجمعى) فى ان لوبون قصر بحثه على الجماهير التى تتشكل فى لحظه امام حدث ثم تنصرف باداء مهمتها كالجماهير التى صنعت الثوره الفرنسيه . على حين ان هناك نوع اخر من الجماهير وهى دائمه يقضى الناس فيها حياتهم كلها وتتجسد فى شكل مؤسسات . وهذا النوع من الجماهير افضل ولديه حياه نفسيه ارقى والسبب هو انه جمهور خاضع لتنظيم . وفى النهايه فان النظام الديمقراطى يضمن علاج اخطاء الجماهير عندما يسمح لكل الفئات بتكوين مؤسساتها التى تمثلها وانتخاب تنظيم يدير هذه المؤسسات . ولا شك فى ان جوستاف لوبون قدم علما جديدا ملأ به فراغا علميا حقيقيا الا انه لازال علما ناشئا ويحتاج لاسهامات علماء الاجتماع وعلماء النفس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التجسس.. هل يقوض العلاقات الألمانية الصينية؟ | المسائية


.. دارمانان يؤكد من الرباط تعزيز تعاون فرنسا والمغرب في مكافحة




.. الجيش الأمريكي يُجري أول قتال جوي مباشر بين ذكاء اصطناعي وطي


.. تايلاند -تغرق- بالنفايات البلاستيكية الأجنبية.. هل ستبقى -سل




.. -أزمة الجوع- مستمرة في غزة.. مساعدات شحيحة ولا أمل في الأفق