الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الحاجة إلى إعادة قراءة - الإنسان ذو البعد الواحد-

يونس كلة

2018 / 10 / 30
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


إن الكتاب1محاولة جادة لفهم وتفهم المجتمع الغربي المعاصر (أي مجتمع ما بعد الثورة الصناعية )، انطلاقا من مفاهيم عاملية تنتمي معرفيا ومنهاجيا إلى النظرية النقدية ك(التعالي-التحرر-منطق عدم التناقض-العقلانية اللاعقلانية-المفاهيم السالبة –النظرية الاجتماعية...)، بغرض تفكيك الوعي السالب الذي تشكل لدى أفراد المجتمع المذكور بتوجيه من الطبقات السيادية المتربعة على سدة الحكم، وتسهيل عملية تجاوزه وتحقيق التحرر المنشود، ويراهن المؤلّف على إشكال مركزي واحد موجّه لعملية التعرية،أي نقض الوعي المستلب (الوعي الكاذب-الزائف، وهو حسب المترجم (جورج طرابيشي): لماذا أصبحت الثورة مستبعدة وغير محتملة ،بل مستحيلة في عالم يخشى أن يفقد مع الثورة امتيازاته ؟
تجعلنا القراءة الأولية للكتاب في حيرة من أمرنا حول شكل القراءة الممكنة، والتي تضعنا في صميم النظرية الاجتماعية –النقدية- الفلسفية، وحول المنهجية التي يمكننا تبنيها دون أن نتيه في غمرة متن الكتاب المنفتح على مشارب فكرية متعددة، من فلسفة وعلم اجتماع وعلم نفس وأنتروبولوجيا وأدب...، لكن واقع الحال يفرض علينا الوعي أولا بكون النصوص الفلسفية المعاصرة لا تقبل البثة قراءة أحادية البعد على الأقل في مستوى المنهج .
للإشارة بادئ ذي بدء فإنه لا ينبغي أن يتجه فهمنا للسؤال الذي فكر من خلاله مؤلّف الكتاب في أزمة إنسان المجتمع المعاصر، إلى اتجاه سياسي محض، وإلى أن سؤال الثورة هو سؤال سياسي ولا يسعفنا في تحليل وتفكيك بنية المجتمع التكنولوجي المعاص، وهي إشارة اهتدينا إليها من خلال متن الكتاب والذي لا يميز ما بين سؤال التكنولوجيا وسؤال السياسة، فالتكنولوجيا هي أولا وقبل كل شيء ممارسة سياسية، أو لنقل أريد لها أن تكون سياسية، فما جدوى سؤال هربرت ماركوز هذا ؟
تكمن جدوى السؤال الذي طرحه صاحب العقل والثورة 2 في قدرته على إماطة اللثام عن مظاهر الاستلاب والتذويب الذي صار يمارسه المجتمع الرأسمالي الليبرالي على الفرد، وإلى قدرته على تحليل البنية الفكرية والثقافية الغربية وكشف رواسبها العلمية والفلسفية، ذلك أن نقطة انطلاق ماركوز في عمله هذا، هي الطاقة الهائلة التي بات يتمتع بها المجتمع المعاصر تكنولوجيا وصناعيا، والتي سهل عليه من خلالها الهيمنة على الفرد قبل الجماعة والسيطرة عليه، إلى حدّ صارت معه عملية التعرية للوجه الحقيقي لفعل السيطرة أمرا مستحيلا.
كانت المجتمعات السابقة على المجتمع المعاصر تتخذ شكلا لا عقلانيا، كان في وسع الفرد دوما فضح أدوات اشتغالها وعملها، في حين تبدو السيطرة في المجتمع التكنولوجي-الصناعي المعاصر عقلانية ولها قدرة هائلة على احتواء المعارضة وأشكال الإحتجاج الممكنة، عبر استباق كل مطالبة بالتغيير الاجتماعي والعمل على تحقيقه تلقائيا، أو لنقل تحقيقه بأقل الخسائر الممكنة، ولكبح محاولات الحركات الراديكالية المطالبة بالتغيير متهما إيّاها بالتطرف والفتنة (مع بعض التحفظ على استعمال مصطلح الفتنة )، إذ ماذا تفيد هذه الحركات طالما المجتمع له القدرة على تلبية حاجيات الأفراد وتحقيق الرّفاه والرغد لمكوناته؟ وإن كانت عملية التلبية هته وهمية وصنمية كونها لا تتم بشكل طوعي وحر، ولا تتم إلا في ظل توجس واستباق مشروط من لدن الطبقات المسيطرة لكل حركة تغييرية ممكنة وكبحها في مهدها، وتحاشيا منه لكل أشكال التناقض، بناء على هذا الأساس إذن صار المجتمع الصناعي المتقدم مجتمعا أحادي البعد والتوجه، أي مجتمع استغنى عن الحرية بوهم الحرية .
ولا يخفى على أحد ما يمثله منطق التاريخ (حسب هيغل وماركس من بعده )، من قوة خفية وظاهرة أحيانا، حسب الشروط الذاتية والموضوعية المتعارف عليها، وهو بلغتنا الفلسفية الطرح والطرح النقيض والتركيب، أو بتعبير صاحب الرأسمال ( الطبقة البورجوازية ونظيرتها العمالية (البروليتارية)، ومجتمع ما بعد الثورة، وداخل هذا المنطق تظهر أهمية الطبقة الوسطى في المجتمعات الساعية للتغيير بل إلى التحرر، ففي غيابها يصعب -إن لم نقل يستحيل- تحقيق التطور والتغيير المستمرين، في سبيل نيل أكبر قدر من الحرية لأفراد المجتمع، وفي غيابها أيضا تبدو عملية الإشباع المجتمعية ضربا لتنامي وتطور الطبقة الوسطى (أي الطبقة العمالية )، تحت شعار تقليص الفوارق المجتمعية، إيمانا منه بدور الطبقة العمالية -إن وجدت- في تطور المجتمع، وهي حسب كل الفلسفات التاريخية النفي الواقعي والحقيقي للمجتمع الرأسمالي الصناعي .
كما تحولت السياسة في ظل النظام الرأسمالي إلى أداة للسيطرة والسيادة، خالية من التناقض والتوتر الذي كان يميزها في الأنظمة ما قبل الصناعية، لتمسي لعبة مكشوفة تعتمد لغة خشبية تحمل على ظاهرها خلو من محمولات اللغة التاريخية والفكرية، ذلك أنه بعدما سيطرت الآلة على المجتمع تمت مكننة العمل وتألبله بغاية إبطال مفعول الرفض والنفي الذي كانت تمثله الطبقة الكادحة في مرحلة مبكرة من تاريخ المجتمع الصناعي، وبفعل الآلة اندمج العامل في عملية الإنتاج وأمسى مساعدا لرب العمل وطالبا وده في أغلب الأحيان .
أما الثقافة فقد صارت هي الأخرى أحادية الجانب وافتقدت إلى عامل التناقض الذي كانت تحمله في ذاتها لارتباطها بوسائل الاتصال الجماهيري، وصارت مجرد بضاعة تروج إعلاميا، نتيجة تحكم الطبقات السيادية في الإعلام واستغلاله كأداة فعّالة لتدجين العقول والتحكم في طبيعة الوعي الذي ينبغي أن يسود، ذلك الوعي الذي لا يشكل خطرا ملموسا على استمرار السيادة والتحكم، ويكفي أن ننظر إلى وسائل الإعلام اليوم وأن نلمس ما كان يرمي إليه ماركوز من خلال حكمه ذاك، إذ الأعمال الفنية والأدبية المروجة على شاشات التلفاز والسينما ...أعمال مبتذلة منحطّة وسوقية ساذجة، أفرغت الفن من وظيفته الحقيقية التي كان يمارسها عبر مرّ التاريخ ألا وهي الرفض الأكبر للواقع .
قد يقول قائل وما شأن التطور التكنولوجي في كل ما يحصل على مستوى بنية الوعي؟
إن التكنولوجيا هي علم تحويل الأشياء الطبيعية إلى أدوات مروضة واستغلالها لأغراض اجتماعية، وأن العلاقة التي تجمع الإنسان بالطبيعة منذ الأزل هي علاقة تنافر، ففي البداية كانت الطبيعة مصدرا للمعجزات وتحمل في ظهرانيها قوى خارقة ترهب الإنسان أحيانا وتجود عليه أحيانا أخرى، أما في مجتمع الآلة فقد تحولت العلاقة إلى السيطرة والتحكم (أي التحكم في الطبيعة والسيطرة عليها)، لكن منطق السيطرة لا يقف عند هذا الحد بل تحوّل، أو تم تحويله من عالم الإنسان، وتبنيه كمبدأ للتعامل مع بني البشر، وفي علاقاتهم مع بعضهم البعض، لتنقلب آية التكنولوجيا من العمل على تحرير الإنسان من قسوة الطبيعة إلى استعبادها إيّاه، والمحصّلة إذن هي أن عقلانية التكنولوجيا لاعقلانية من حيث أنها لا تضع نصب عينها غاية تحرير الإنسان ،بل تعمل على تشييئه.
فما السبيل إذن للخروج من هذا الوضع ؟
إن غاية هريرت ماركوز في كتابه هذا ليست النقد من أجل النقد بل تفكيك وتحليل المفاهيم الثاوية العاملية التي يشتغل من خلالها مجتمع ما بعد الثورة الصناعية، لوضع اليد على العناصر الأساسية التي كبلت الإنسان وقضت على فعل المعارضة لديه، باعتماد نظرية نقدية لها القدرة على شغل هذه المهمة، وهي بلا شك تلك النظرية التي لا مناص لها من البحث عن أسباب هذه التطورات ودراسة الاحتمالات التاريخية المتاحة لاستبدالها بتطورات أخرى، ولا مناص لها من تحليل الطريقة التي يستخدم بها المجتمع -أو يستخدم بشطط- إمكانياته لتحسين الشرط الإنساني، كما إن نجاح هذه المهمة مرتبط كذلك بفرضيتين اثنتين هما:
1) أن الحياة البشرية جديرة بأن تعاش أو بتعبير أدق أنها يمكن أن تكون كذلك، ويجب أن تكون كذلك، ولاشك أن هذا الحكم هو أساس كل مجهود فكري ومنطلق كل نظرية اجتماعية ورفضه...يعني رفض النظرية نفسها.
2) أنه توجد بالنسبة إلى مجتمع معّين إمكانيات نوعية لتحسين الحياة الإنسانية وطرق ووسائل نوعية لتحقيق هذه الإمكانيات ." 3
وتعويله على النظرية الاجتماعية –النقدية نابع من إيمانه العميق بأنها كفيلة بتحليل المجتمع المعاصر وبث روح المعارضة فيه من جديد، بالاتكاء على مفاهيم حقيقية، أو لنقل إعادة إحياء المفاهيم السالبة وتجاوز البدائل الثاوية في الإعلام المضلّل، ولا شك في أن هذه المفاهيم السالبة هي مفاهيم متجدّرة في تاريخ البشرية (الفكري والسياسي )، من قبيل الحرية السياسية والحرية الاقتصادية، والحرية الفكرية، التي تم استبدالها بمفاهيم القومية والإرادة العامّة ونظام الحزبين.
وما بث هذه الروح الجديدة إلّا تفكيك لبنية للرقابة الاجتماعية والسياسية الممارسة على أفراد المجتمع، من حيث أن المجتمع الصناعي يفرض نوعا من الرقابة الرمزية يسميها ماركوز بالرقابة الاجتماعية، إذ تعمل وسائل الاتصال الجماهيري على تذويب الفوارق الاجتماعية وتفكيك الأفراد مع الحاجيات الزائدة عبر وسائل الدعاية، وإقناعهم بأن حياتهم كاملة وسعيدة وأنهم ليسوا في حاجة إلى النضال من أجل سد النقص في الموارد، مادام هم يتمتعون بنفس الحاجات التي يتمتع بها أرباب العمل والمصانع، إذ لا فرق بين العامل ورب عمله يشاهدان نفس البرنامج التلفزيوني، وإذا كانت السكرتيرة ترتدي ثيابا لا تقل أناقة عن ابنة مستخدمها، وإذا كان الزنجي يملك سيارة من طراز كاد يلاك، وإذا كانوا جميعا يقرؤون الصحيفة نفسه ، فإن هذا التماثل لا يدل على زوال الطبقات، وإنما يشير على العكس إلى مدى مساهمة الطبقات السائدة في تحديد الحاجات والتسليات التي تضمن استمرار السيادة لها .4
وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن الأفراد صاروا مستلبين إلى حد التوحد، وصار تفكيرهم مماثلا إلى درجة كبيرة مع تفكير الطبقات المسيطرة، ولم يعد من حق الأفراد الاختلاف مع أسيادهم، بل ليس بوسعهم ذلك مهما بلغت درجة وعيهم، واختلط لديهم الوعي الزائف بالوعي الأصيل بمفهوم هايدغر، نتيجة إنخراطهم الجبري في سلسلة الإنتاج المتراكمة،" فالجهاز الإنتاجي والسلع والخدمات التي ينتجها –تبيع- أو تفرض النظام الاجتماعي من حيث أنه مجموع. إن وسائل النقل والاتصال الجماهيري وتسهيلات السكن والملبس والطعام والإنتاج المتعاظم لصناعة أوقات الفراغ والإعلام، إن هذا كله ترتب عليه مواقف وعادات مفروضة وردود فعل فكرية وانفعالية معينة تربط المستهلكين بالمنتجين ربطا مستحبا بهذا القدر أو ذاك، ومن ثم تربطهم بالمجموع"5، إن انخراط الأفراد في عملية الإنتاج على هذه الشاكلة من شأنه تكوين وعي زائف لديهم، كما من شأنه توحيد الأفكار والتوجهات، وبالتالي تنميط الغايات والأهداف وهو ما يصنع فكرا وسلوكا أحادي البعد.
وبفعل تضخم الإنتاج في العالم الصناعي (الرأسمالي ) صار عالم السياسة منغلقا على نفسه،وإن بدا على مستوى الشكل أن هناك حرية وهمية في اختيار التوجه السياسي الملائم للأفراد في المجتمع، وأن هناك تعددية حزبية تحترم اختلاف الإيديولوجيات داخل المجتمع الواحد، وأن للعمال الحق في تنظيم أنفسهم في إطار نقابي يضمن لهم حقوقهم النقابية ... يبقى واقع الحال هو أن جل هذه التباينات تتوحد على مستوى الهدف الأمثل الذي هو ضمان استمرارية السيادة للأنظمة الحاكمة، كيف ذلك؟
يقدم ماركوز أمثلة حيّة لها راهنيتها في اللحظة الزمنية التي دونت فيها أفكار الكتاب، فعلى مستوى العمل النقابي يقدم الرجل نموذج لتواطؤ الرأسمال مع النقابات في و.م.أ على حساب العمّال، فما " عاد في وسع النقابة أن تقنع عمّال الصواريخ بأن المشروع الذي يعملون لصالحه لحسابه هو عدوهم في الوقت الذي تتواطأ فيه النقابة هي نفسها مع المشروع الكبير للحصول على عقود عمل أضخم وأهم، وعلى طلبات تسلح أخرى، وعندما تمثل أمام الكونغرس وتطلب من أرباب العمل بناء صواريخ بدلا من القنابل، أو القنابل بدل الصواريخ، تبعا للعقد المبرم معها".6
وعلى المستوى الحزبي ظل حزب العمال الإنجليزي مع الحزب المحافظ حبيس صراع إيديولوجي زائف وبرّاني، لكون الأول فشل في إنقاذ برنامج متواضع للتأميم الجزئي، كما قد فقد الحزبين الشيوعيين الإيطالي والفرنسي مصداقيتهما في تبني مشاريع سياسية وفكرية قويّة، راسمة من خلالها بنى تكتيكية تدل على صراع حقيقي مع التوجه الرأسمالي الفاحش، وذلك راجع من دون شك إلى فقدانهما لقاعدتهما الجماهيرية التي تم تدجينها وتزييف وعيها من طرف وسائل الدعاية والإعلام الجماهيري.
إن أسباب هذا التحول في نظر المؤلّف تعود بالأساس إلى تفريغ الفكر من مضمونه الحقيقي والذي هو امتلاك مفاهيم سالبة قادرة على تعرية الواقع وكشف عمله، وهي على سبيل المثال مفهوم العامل الفيزيائي حيث يعد العامل هو ذاك الفرد الذي يستعمل مجهوده البدني في تحويل الأشياء الطبيعة إلى أدوات، بل صارت تلك الطاقة الفيزيائية تتقلص تدريجيا بفعل تطور المكننة، " ولهذا التطور إنعكاس هام على المفهوم الماركسي للشّغيل (البروليتاري)، فالبروليتاري في نظر ماركس هو قبل كل شيء شغّيل يدوي ينفق قوّته الفيزيائية أثناء العمل حتى ولو كان يعمل على آلالات"7، وبذلك قلت نسبة اشمئزاز العامل من الوضع الراهن وانخراطه في إطار دوّامة إنتاجية تثقل من كاهله حتى وهو في مسكنه الخاص ومع أبنائه، يحمل همّ الإنتاج وزيادة الوفرة في شخصه كما لو كان هو ربّ العمل، وصار بذلك إنسان ببعد واحد بعد استهلاكي وإنتاجي.

1) اعتمدنا على ترجمة جورج طرابشي، عن منتدى مكتبة الاسكندرية دار الآداب، الطبعة الثالثة الصادرة سنة 1988
2) كتاب لهربرت ماركوز نشر سنة 1941
3) هربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابشي، منشورات دار الآداب بيروت، الطبعة الثالثة 1988،الصفحة 27.
4) نفس المرجع الصفحة 44
5) نفس المرجع الصفحة 48.
6) نفس المرجع الصفحة 54.
7) نفس المرجع الصفحة 60.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري