الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهوية وإشكاليات المرجعية الثقافية في روسيا(3)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2018 / 10 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


روسيا وإشكالية المرجعية الثقافية والتحولات العقائدية

لا تشذ روسيا في وجودها التاريخي عن منطق العلاقة الواقعية بين كيفية إدراكها لقيمة المرجعيات الثقافية وأثرها في مصير الانقلابات الكبرى التي تمثل عقد الوجود التاريخي ومعالم الوعي الذاتي للأمم. وفي هذه الانقلابات تنعكس الإشكالية الحية للمرجعية الثقافية والتحولات العقائدية. وقد عانت روسيا في تاريخها الألفي (من القرن العاشر حتى القرن العشرين الميلادي) خمسة انقلابات تاريخية وعقائدية كبرى. الأول في القرن العاشر (باعتناق الدولة للنصرانية)، والثاني في القرن الخامس عشر (بالقضاء على الارطة الذهبية للسيطرة التترية، ومن ثم التمهيد للإمبراطورية الأوروآسيوية الشرقية)، والثالث في القرن الثامن عشر (بتثبيت وترسيخ الإمبراطورية الأوروآسيوية الغربية)، والرابع في بداية القرن العشرين (دولة مركزية أوروآسيوية شرقية – غربية) والخامس في نهاية القرن العشرين (فيدرالية مفككة – غربية).
فمن الناحية الزمنية يمكن ملاحظة تسارع الانقلابات مع مجرى التطور التاريخي (من تحول في مجرى خمسة قرون إلى ثان في مجرى قرنين إلى اثنين في مجرى قرن) وفي الحصيلة نقف أمام ظاهرة "رجوع" التاريخ إلى بدايته. بمعنى أن روسيا تبدو كما لو أنها قطعت في مجرى ألف عام دورة تامة في الرجوع إلى حدودها الطبيعية، باحثة عن "هويتها" من جديد في "نصرانية" جديدة وكأنها تخلّت عن تاريخها ككل. وهو استنتاج له أسسه في الكيفية التي جرى بها التأسيس للانقلابات العقائدية، باعتبارها أسلوب ومظهر الوجود الطبيعي للأمم ودولها.
فقد كان اعتناق النصرانية المرافق لصيرورة الدولة عامل دفع وتوحيد لوجدان الأمة الروسية و"عقلها السياسي". وبرزت هذه النتيجة في مجرى تطور الدولة الروسية، رغم كل تعرجاتها وانكساراتها. فقد اسهم اعتناق النصرانية في صنع توازن ساعد في بناء الإمبراطورية الروسية وبالاخص بعد احتلال قازان والقضاء على السيطرة التترية. آنذاك كان يبدو الطريق "مستقيما" في مسار الأوروآسيوية الشرقية. وهو قدر لازم الصيرورة التاريخية للدولة والأمة الروسية (تقاليد الإمبراطوريات الشرقية، والنصرانية الشرقية، ووجودها الأوروآسيوي). في حين اتخذ الانقلاب الثالث(البطرسي) شكل وأسلوب التحول الراديكالي العميق في الروح والجسد الروسيين (الاجتماعي والدولتي) بحيث أبعدهما عن مجراهما الطبيعي من خلال نقلهما إلى تاريخ غير تاريخهما. بمعنى قطعه تاريخ روسيا وومحاصرتها ضمن مرجعيات ومعايير التجارب الأوربية وتواريخها في إدراك النفس. وترتب على ذلك إن أصبح الانقلاب التاريخي للبطرسية انقلابا "غير تاريخي"، قصم العمود الفقري الطبيعي لروسيا واستعاض عنه بعمود فقرى اصطناعي (حديدي) جعل الجسد الروسي أكثر قوة مما مضى، ولكن اقلّ مرونة.
وهكذا خلخلت البطرسية التوازن الطبيعي القائم في التاريخ الروسي. أما الاستعاضة الإرادية عن كيانها الطبيعي بآخر اصطناعي، رغم كل حسناته المادية والروحية، فقد أدى إلى تهشيم الذات الروسية. وذلك لأن هذا الانقلاب لم يستند إلى مقدماته وتناقضاته الداخلية. فهو لم يكن نفيا ذاتيا – تلقائيا، بل قصما إراديا ساهم في وضع آلية المغامرة المتبجحة في كسر الأوزان الطبيعية باعتبارها آلية الديناميكية الرزينة للتطور المعقول. فالانقلاب البطرسي الهائل لم يكن رجوعا إلى المصادر الروسية، بل توجها صوب الغرب الأوربي. مما جعله عاجزا عن إبداع وعي ذاتي متجانس. أما النتيجة المترتبة على ذلك في ميدان الفكر والسياسة فهي سيادة المتضادات الحادة بين الإدراك العقلي والنوازع النفسية وليس بين العقل والنقل. وهي الحالة التي صورها تكاتشوف (1844 – 1885) في أحد بحوثه قائلا، انه إذا كان من المعتاد وصف الشتيمة البذيئة بعبارة "يتشاتمون كالحوذية" فمن الأجدر الاستعاضة عنها الآن بعبارة "يتشاتمون كالفلاسفة الروس!". فالازدراء المتبادل والافراط باستخدام الكلمات البذيئة صفة تلازم "النفس الروسية" حتى في الحياة العادية، ولكن يندر العثور عليها ما قبل البطرسية. انها تعكس دون شك صعود روح الغلو والمغامرة والاستعلاء والجفاء تجاه التقاليد أيا كانت. وليس مصادفة أن تصبح التربة فيما بعد مهيأة لقبول مختلف تيارات الإرادة، مثل الإرادة والأرض، الإرادة والخبز، الإرادة والحرية، الإرادة والله. والمعنى الباطني لكلمة الارادة بالروسية تعني الحرية أيضا. وبالتالي، شقت فكرة الإرادة طريقها سواء في الاستعارة السريعة من الفكر الألماني (فيخته وشيلنغ وشوبنهاور ونيتشه) أو هيمنتها في موضوعات الفلسفة الروسية. فقد كتب جميع الفلاسفة الروس عن الإرادة، بينما لا نعثر عندهم من كتب بحثا عن الاعتدال أو الوسط.
ان غياب الوسط والاعتدال في الوعي الفلسفي يعني غياب إشكاليته في الهواجس (أو المبادئ) والغايات، والذي يميز إلى حد ما مجمل تاريخ الفلسفة الروسية التي لم ترتكز في صراعاتها إلى "سنّة" أو تقليد تاريخي. إذ لا أسلاف لها. وليس اعتباطا أن تنشأ في آن واحد متضادات السلافية والغربية في الفكر الروسي الفلسفي والسياسي والاجتماعي. وأن يواجه كل منهما الآخر بمعايير متضادة في ظاهرها مشتركة في بواطنها. وأن لا يقبل أحدهما الآخر كما لو انهما من عوالم متنافرة لا يجمعهما جامع، متضادة ومتعادية لا معنى للرحمة بينها. وهي تضادات حددها من حيث الجوهر افتقادهما لتاريخ مشترك. فقد كان تاريخ نشوئهما هو بداية انهماكهما في "تاريخ مفتعل"، أي انهما لم ينشأ في ظل تلقائية الانتماء الذاتي لتاريخ الأسلاف ومعضلات وجودهم الواقعي، بل من تاريخ صراع المدارس الأوربية الفكرية والسياسية.
وقد حدد ذلك التضاد والتصارع بين الاتجاهين الكبيرين السلافي (الوطني – القومي) والغربي (الأوربي). وساهمهذا التضاد "الطبيعي" في نهاية المطاف بالتمهيد لصعود الراديكالية الفكرية والاجتماعية والسياسية والنفسية في صيرورة وكينونة الاتجاهين نفسهما، وفي مواقفهما ككل. فالاتجاه السلافي القومي (الروسي) هو اتجاه التفلسف الديني الروحي الأخلاقي، بينما الاتجاه الغربي الأوربي هو اتجاه التفلسف المادي الاقتصادي السياسي. من هنا تسود في الاتجاه الأول موضوعات اللامعقول والباطن والمصير والمجهول والدين والروح والأخلاق والتصوف. في حين أهمل الاتجاه الثاني هذه الموضوعات وواجهها بموضوعات العقل والظاهر والضرورة والحتمية والإلحاد والمادية. مما أدى إلى أن يكون الاتجاه الأول أقرب إلى "روح" روسيا منه إلى جسدها، بينما الثاني أقرب إلى جسدها منه إلى روحها. وقد مزقت هذه الثنوية نسيج الوحدة الممكنة في روح الاعتدال. مما حدد مواقف الاتجاهين من طبيعة الانقلاب البطرسي وآفاقه وبدائله الممكنة. فإذا كان الاتجاه الغربي وجد في الضرورة المادية معيار الحرية الممكن لروسيا، فان الاتجاه السلافي الوطني والقومي وجد في الحرية الروحية معيار الضرورة لوجود روسيا وآفاقها.
وساهم هذا التضاد في إهمال وإبعاد آلية الاعتدال العقلانية الأخلاقية، لأن الاتجاهين فرّقا بين المرجعيات الضرورية للعقل (المبادئ) والأخلاق (الغايات) في المواقف تجاه القضايا الحيوية وقضايا الانتماء للتاريخ الروسي. وهو ضعف ناتج عن انهماكهما في "التلقائية الدخيلة" المترتبة على الانقلاب البطرسي في الوجود والوعي الروسيين. إذ اقام كل من الاتجاهين كيانه على أساس المعاداة والمعارضة والهجوم، وليس على أساس البناء الداخلي الإيجابي المتراكم في معاناة وعي الذات التاريخي وإشكالياته الواقعية.
لقد حدد ذلك آلية كسر الموازين (والتوازن) في الكيان الروسي (الدولتي والاجتماعي والسياسي والفكري). فالدولة البطرسية نفسها لم تكن شرقية ولا غربية، ولا سلافية ولا جرمانية. ولم تعرف توازن القوى والضبط المتبادل (لا فصل بين السلطات ولا برلمان ولا مجالس محلية)، ولا الاعتدال القومي. إذ لا فيدرالية ولا حكومات ذاتية ولا حقوق سياسية أو ثقافية. ولا توازن ديني أو ثقافي فيها، بفعل الصفة الرسمية للارثودوكسية ودونية القوميات الأخرى وأديانها(الإسلامية والبوذية واليهودية والفرق المنشقة عن النصرانية الارثوذكسية الروسية). في حين سيطر قلق الثقافة على أعصاب السلطة ومؤسساتها القمعية. إذ لم يسلم المفكرون والشعراء والأدباء الروس الكبار من مضايقة الرقابة أو انتهاكها الدائم لحقوهم وشخصياتهم وابداعهم. ولم ينج من السجن أو النفي أو الطرد أو القتل الا القليل منهم. أما في الميدان الاجتماعي السياسي فلم يكن هناك توازن قادر على تأسيس آليات مجتمع مدني. إذ لا وفاق ولا توفيق بين السلطة والشعب، أو بين القيصرية وروسيا. فقد كان الروسي (والفلاحون بالأخص) مادة وأداة الدولة في انتصاراتها وهزائمها، وبطولاتها وجرائمها، وفي الوقت نفسه موضوع احتقارها. وضمن هذا السياق تروى نادرة عن مينشيكوف (أحد المقربين المحببين لبطرس الأول) كيف انه طلب من بطرس الأول تلبية رغبته بأن يجعله ألمانياً! أما في الميدان السياسي فقد كان القرن التاسع عشر (قرن قطف الثمار التاريخية للإصلاحات البطرسية) هو عصر الراديكاليات السياسية الثورية والطوباوية والرجعية. مما أدى إلى ابداع ما يسمى بالقرون "الذهبية والفضية" في الثقافة الروسية، إلا أنها قرون كان نطاحها يعمي البصيرة ويثير هيجان الجماهير ازاء كل "جديد" في عالم الدين والدنيا، والمادة والروح، والأخلاق والسياسة، أي كل ما كان يساهم في تعميق الخلل الشامل للتوازن. وينطبق هذا بالقدر نفسه على الفكر. بل حتى محاولة توليف المادية والروحية، السياسة والأخلاق، الديني والدنيوي، لم تؤد في نهاية المطاف إلا إلى راديكالية، كما هو الحال في الفوضوية. وقد يكون كرابوتكن (1848 – 1921) إحدى الصور اللامعة والمغرية لهذه الظاهرة. فقد حاول توليف فكر أنصار السلافية ونتاجات عصر التنوير الفرنسي وإنجازات الفلسفات العلمية (كالايجابية والدارونية) في بوتقة الشيوعية الفوضوية (لباكونين وبرودون). وأنجز في نهاية المطاف الصيغة الملطّفة لتقاليد الفوضوية في اقترابها من الرؤية العقلانية والإنسانية للاشتراكية الديمقراطية، ولكنها ظلت في النهاية راديكالية طوباوية أعظم ما فيها استحثاثها الروح الأخلاقي للبحث عن نظام أفضل وأحسن وأجمل.
إن اختلال التوازن في الكيان الدولتي والاجتماعي والسياسي والروحي للقيصرية هو السبب القائم وراء العصيانات والثورات التي شقت لنفسها ثغرات في جدار القيصرية فكسرته للمرة الأولى في شباط 1917 وهدمته في أكتوبر من العام نفسه. فقد انتهت الحرب الإمبريالية الأولى بانحلال الإمبراطورية (الإمبريالية) الروسية. وكشفت الثورة في كامل كيانها عما في تراكم الخلل المهشم للاعتدال والتوازن في بنية الدولة والمجتمع والسياسة والفكر عن اثر هائل في استثارة الراديكالية، وما ترتب عليها من نتائج. غير أن الدولة السوفيتية لم تستطع بدورها تذليل هذا الخلل. فقد كانت الراديكالية السوفيتية في بداية أمرها الرد الشامل على شمولية الاستبداد القيصري وإصراره المتطرف في الحفاظ على مكوناته البالية. وليس اعتباطا أن تتفق وتشترك كل الحركات الثورية في كرهها العميق للقيصرية والكنيسة والجيش (الشرطة والأمن والقوزاق على الأخص). وهي الكراهية التي تجّسد "ثأرها" العميق في الموقف السوفيتي من "العالم القديم" الذي جرى هدمه بكل المعاول المعقولة واللامعقولة وفقا لغياب تقاليد الاعتدال والوسط. وليس تحول الأغلبية الساحقة للشعب الروسي من التدين إلى الإلحاد، ومن بناء الكنائس إلى تهديمها سوى إحدى الإشارات الرمزية لفقدان تلك التقاليد. أما "الجمود" السوفيتي فقد كان نتاجا لخميرة البيروقراطية المتعفنة في معاجن "المصالح العليا للدولة". لهذا برزت من هذه البروقراطية كل فقاعات الديمقراطية والتحررية (الليبرالية) حالما اصبح ذلك ممكنا. وتحولت بين ليلة وضحاها الثوريون إلى معادين للثورة، ومن شيوعيين إلى رأسماليين، ومن ملحدين إلى متدينين، ومن أممين إلى قوميين، ومن أنصار السلام إلى دعاة حرب. وهو تحول لا يكمن في ذواتهم فقط، بل وفيما كان مختبئا في تقاليد غياب الاعتدال العقلاني الأخلاقي في المرحلة السوفيتية نفسها أيضا.
فقد كانت الثورة البلشفية بمعنى ما بديلا شاملا في مرجعياته العقائدية لما هو قائم. ولم تكن شموليتها في الحوافز والغايات نابعة من عقائدية الماركسية ونظراتها الكونية والتاريخية للوجود الاجتماعي وحتمية البديل الشيوعي فقط، بل ومن فقدان التلقائية الطبيعية لتطور الدولة الروسية ضمن مرجعياتها الثقافية. مما أغوى الثورة الجديدة بإحلال تصوراتها ومواقفها بالطريقة البطرسية وجعلها مقبولة "للروح الروسي". وليس اعتباطا أن يكون شعارها الفعال في النشيد الاممي الذي يتغنى بهدم اسس العالم القديم وبناء صرح العالم الجديد عليه، هو "من كان لا شيئ يصبح كل شيئ ‍". وهو شعار مغري في بساطته، وساحر في استثارته، وإنساني في هواجسه، ومباشر في أعماقه بفعل هدمه النفسي لروح الأسلاف وازدراء ما في تجاربهم من قيمة ومعنى. وهو ما يجعل من اي انجاز قامت به الثورة عرضة للانهيار السريع والتلاشي.
لقد سارت التجربة السوفيتية في نفس المسار العام للراديكالية البطرسية (مركزة الدولة والإدارة الفردية الحازمة والجفاء تجاه الماضي وسيادة القوة). واتخذت نفس معاييرها اللاتاريخية. اذ استعاضت الدولة السوفيتية عن الغرب البطرسي بغرب ممركس، سرعان ما ذاب في بيروقراطية خشنة، بفعل الابتعاد المتزايد عن المادة الخام للثورة (العمال والفلاحين) والتدمير المقنن للنخب الفكرية والسياسية. لقد جرى تطويع الروح الجماعي (المشاعي) الروسي (الشرقي) بالشكل الذي غرّبه عن قيمه ومعناه الحقيقيين في بديل التحرر من الاستغلال (القومي والطبقي). وكان ذلك من حيث تاريخيته فعلا جبارا وعظيما، ولكنه هشا في الوقت نفسه، بفعل إنجازه المتسرع بأملاح الأيديولوجية وخطط بيروقراطيتها القاسية. فالاستعاضة القسرية عن الكل (التاريخي الثقافي القومي لأمم وأقوام الدولة السوفيتية) بالجزء (الماركسي الفلسفي الألماني الاجتهادي)، أدى في آن واحد إلى اغتراب الثورة وتغرّبها عن الكل الثقافي الروسي. وبهذا المعنى جرى تخريبها وإفسادها بالمعنى المرجعي.
حيث جرى تحويل الحزب إلى وعاء للبيروقراطية التي لا يربطها بالفكر والمبادئ شيئ الا ما يتعلق بجسدها ومصالحه المباشرة. وهي ظاهرة تبرز بصيغ واشكال متنوعة يحدد اختلافها وتنوعها مستوى التطور الاجتماعي الاقتصادي والعلمي. ويكفي المرء القاء نظرة سريعة على بعض بلدان العالم العربي ليكتشف تكرار الظاهرة في اتعس أشكالها. إذ جرى تحويل الأحزاب الثورية إلى أوعية لسلطة العوائل والعشائر مع الاحتفاظ المتزمت بالمظاهر اللفظية "للمبادئ". وهو شئ يشبه ازدياد اهتمام العجائز بالألوان والأصباغ مع كل ابتعاد عن الشباب.
لقد جرى تحويل الماركسية إلى فلسفة مدرسية وتعاليم قسرية ولاهوتية محنطة وأيديولوجية تبريرية بيد السلطة والحزب البيروقراطيين. وجرى تحويل الدفاع عن "صفائها" إلى مرجعية صنمية، أي إلى خواء تام وشامل لها في الوجود والوعي. فالدفاع عن النقاء هو مؤشر على فقدان المناعة الثقافية أو غياب مرجعيتها التلقائية في تاريخ الروح والسياسة. إذ لم يجر "روسنتها"، بمعنى تذويبها في مسامات الوعي التاريخي والثقافي الروسي كذرات سارية فيه. فالدولة السوفيتية لم تفعل في هذا المجال إلا على اجترار تجربة الاغتراب البطرسية، والابتعاد المتجدد عن تاريخ الأسلاف، وبالتالي لم تكن قادرة على إبداع رؤية ثقافية وبديل اجتماعي سياسي مناسب ومتجانس مع التعددية القومية والثقافية والدينية في الدولة السوفيتية. فالشعار الجميل والعميق في الوقت نفسه عن قومية الشكل واشتراكية المحتوى في الثقافة السوفيتية ظل شعارا، رغم إنجازاته الجزئية والكبيرة أحيانا. ولهذا تهشّم المحتوى الاشتراكي وانحلّ كيان الحزب الكبير (والمترهل) وأيديولوجيته الرسمية بين ليلة وضحاها. لقد كشف "الإصلاح الغورباتشوفي" عن ضعف الجميع وعن خواء واهتراء ممثليه، الذين يتحولون بعد كل هزيمة من اليسار إلى اليمين، ومن الإلحاد إلى التدين، ومن التعزز إلى التذلل، ومن الشيوعية إلى معاداتها، ومن الاشتراكية إلى الرأسمالية. وتساوى في ذلك رجل الدولة ورجل الكنيسة، الفنان والعاهرة، رجال الأدب ومرتزقة العصابات. وتحول ألد أعداء الامس (الغرب بشكل عام وأمريكا وإسرائيل بشكل خاص) إلى اعزّ أصدقاء اليوم، وأصدقاء الامس (المعسكر الاشتراكي و"العالم الثالث") إلى أعداء اليوم، ومنبوذي البارحة (من أعداء الدولة السوفيتية ومناهضيها والمختلفين معها من شخصيات ذات وزن فعلي وأخرى ذات وزن مفتعل (أمثال ساخروف وسولجنيتسن) إلى أنبياء. وتحول العلم إلى رذيلة والسحر والشعوذة إلى فضيلة، وتنافس في ذلك العلماء والرعاع على السواء. وأصبح الكذب والخداع والتشويه (في الاقتصاد والبنوك والإنتاج والتجارة) هوية التجديد، وأصبح التحرر هو التحرر من كل التزام، وجرى صب كل ذلك في كلمة الإصلاح والديمقراطية. وكشف هذا الانقلاب الشامل عن انطباع منفر وكأنه يكشف عن زيف الأمم وزيغانها. وهو انطباع صادق نسبيا. غير أن صدقه لا يكمن فيه، بل في منطوق عبرته التاريخية.
إن السبب الجوهري القائم وراء فشل التجربة السوفيتية لم يكن بسبب الفكرة الاشتركية بحد ذاتها، بل الى احد نماذجها الهامشية. وليس مصادفة ان تصل الى سدة الحكم "الديمقراطي" طفيلية السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، أو من أطلق عليهم في بداية "مرحلة الاصلاح" بالشيوعيين الاصلاحيين. فقد كان هؤلاء اعداء "الحرس القديم". وكان كل من الطرفين ينطوي على غلو وهامشية. إن السبب الجوهري وراء سقوط التجربة السوفيتية يقوم في ابتعادها عن المرجعيات الثقافية لأممها. لهذا السبب ظلت أيديولوجيتها العامة (الحكومية الرسمية) مرجعية مصطنعة، كما لو أنها استعادة جديدة للبطرسية من حيث ولعها بقوة العضلات ودعوة لخضوع الروح بشكل تام لمصلحة السلطة (من هنا سيادة الاشتراكي العام وضعف القومي الخاص، وكذلك استفحال المركزية المفرطة للدولة والسلطة والحزب والفرد القائد، وغياب التعددية الاجتماعية والفكرية والسياسية، وسيادة البيروقراطية.
ان كل ما جرى للتجربة الروسية (الشيوعية) يبرهن على الحقيقة القالة، بأن للبدائل العظيمة والانقلابات الكبرى معناها وقيمتها وأثرها في المصير حالما تستند إلى مرجعياتها الخاصة. من هنا يمكن فهم الاسباب القائمة وراء خواء البطرسية في مجرى قرنين من الزمن، وخواء السوفيتية خلال قرن، وخواء الليبرالية (الغربية) في غضون بضعة اعوام!
*** *** ***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. توترات متصاعدة في جامعات أمريكية مرموقة | الأخبار


.. !الرئيس الألماني يزور تركيا حاملا 60 كيلوغرام من الشاورما




.. مئات الإسرائيليين ينتقدون سياسة نتنياهو ويطالبون بتحرير الره


.. ماذا تتضمن حزمة دعم أوكرانيا التي يصوت عليها مجلس الشيوخ الأ




.. اتهام أميركي لحماس بالسعي لحرب إقليمية ونتنياهو يعلن تكثيف ا