الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة الماينبغيات والخطاب العربي الغارق في المثل الأفلاطونية

فارس إيغو

2018 / 10 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يمتلئ خطاب المثقف العربي بالـ "ما ينبغيات"، والتي تبدأ بأفعال الوجوب، يجب وينبغي ووجوب ما يجب، ووجوب ما لا يلزم إلخ إلخ... إنه نوع من الهروب الكسول من تحليل "ما هو كائن"، وما هو بالمستطاع تحريكه قليلاً نحو الأفضل وعلى ضوء المعطيات الصلبة للواقع، هروب نحو تنزيل المثال على هذه الواقع، فيصبح الخطاب جنساً من التمني والأمنيات والأحلام التي تبعد الانسان العربي عن التفكير المنطقي وتحيله الى التفكير الأسطوري الخرافي.
والما ينبغيات في خطاب المثقف العربي لا تكلف شيئاً، ولا حدود لها، كما كان الخطاب العربي في عصر الأيديولوجية القومية العربية، وزمن المذياع والخُطب الملتهبة في سورية ومصر، قبل عام 1967، وكيف خُدع المواطن العربي بقدرة جيوشه على رمي إسرائيل في البحر.
يُشكل هذا الخطاب المليئ بالوعود المعسولة الكاذبة، نوعاً من الدغدغة الرخيصة لطموحات المتلقي المشروعة، وتحقيقها على مستوى القول والاستماع، فتفعل فعلها المخدر والمنوم في العقل المتلقي لتغرقه في المثاليات الموجعة جداً، حين يصطدم بدروس الواقع الصلبة والعنيدة. هي شبيهة لآليات الحلم التي شرحها فرويد في تحليل الأحلام، حيث يجري أثناء الحلم تحرر الوعي من رقابة "الأنا العليا"، والتي تمثل القيم والمعايير التي يضعها الاجتماع البشري، لكي تدخل البشرية مرحلة الحضارة، أو بلغة أخرى، أن الحضارة والاجتماع البشري قائم بالضرورة على كبت بعض الرغبات وإلا تحققت الفوضى وانتفت شروط قيام المجتمعات. إذن، يفعل خطاب الماينبغيات فعل الحلم عند فرويد، أي يحقق الرغبات البشرية التي لا تتحقق في الواقع الصلب عن طريق أحلام اليقظة، التي تكون الاستفاقة منها سقوط في حبائل نظريات المؤامرة في تفسير التاريخ، أو الانجراف الى الجماعات الإرهابية.
يشكل الخطاب الديني عند المفكرين الإسلاميين والذي يدعو الى العودة الى العصر الذهبي في الحضارة العربية الإسلامية، أحد أجناس خطاب الماينبغيات الأكثر إغراقاً في المثاليات والدعوات الطوباوية. وقد انتشر هذا الجنس من الخطابات الدعوية بعد الهزيمة الحزيرانية الكبرى عام 1967، وأفول الأيديولوجية القومية العربية، حيث ظهرت الدعوات النكوصية التي فسرت الهزيمة بأنها هزيمة لنوعية الأيديولوجية، وليست للايديولوجية ذاتها؛ لذلك، يكفي أن نغير الصفة من أيديولوجية قومية الى أيديولوجية دينية إسلامية، نسخة الشيخان محمد متولي الشعراوي والدكتور يوسف القرضاوي، يكفي هذا لكي ترتفع أسهم "الأمة"، وتبدأ مرحلة الانتصارات الكبرى. لكن تفكيك هذه الأطروحة الطوباوية التي تولى مهمتها وبشجاعة نادرة المفكر المصري فرج فودة، وذلك في كتابه "الحقيقة الغائبة"، وفي مناظرته الشهيرة مع د. محمد عمارة والشيخ محمد الغزالي والمستشار مأمون الهضيبي في ندوة "بين الدولة الدينية والدولة المدنية" والتي عقدت في القاهرة عام 1992، أدت الى إغتياله بعد الفتوى الشهيرة التي كفرته. والفضيحة الكبرى التي تلت حادثة الاغتيال، هي التبريرات الرخيصة التي صدرت عن الكثير من الشخصيات الدينية، فمثلاً أحد شيوخ الازهر الكبار وصف الجريمة بالقول: "فرج فودة هو الذي قتل فرج فودة"، وحاول الهضيبي تبرير الاغتيال، أما الصدمة الكبرى فكانت شهادة الشيخ محمد الغزالي خلال محاكمة القاتل.
هذا يصلنا الى مقولة مهمة عند المفكر اللبناني علي حرب تقول: أن لا شيء يعود على ما كان عليه، وبلغة أخرى لا أصل يعود إلا بصورة سيئة، أو كاريكاتورية، أو مدمرة. وهذا ما حدث مع التجارب التاريخية القريبة العهد، سواء مع الأصوليات السلفية الجهادية أو الأصوليات السلفية التقوية، من القاعدة الى بوكوحرام، وصولاً للدولة الإسلامية، الى الإسلام السياسي الشيعي الحاكم في ايران، والإسلام السياسي السني الحاكم في السودان والمملكة العربية السعودية، التي انكشفت أخيراً أمام العالم في الجريمة الوحشية التي ارتكبتها ضد معارض معتدل ولم يطالب يوماً سوى بالإصلاح؛ لقد كان الكاتب والصحافي الجزائري كمال داود الذي يعيش في منفاه الباريسي مجبراً بعد تعرضه لفتوى تكفره، أقول كان محقاً في وصف المملكة العربية السعودية بأنها "داعش ناجحة".
في الختام، إن خطاب "الماينبغيات" الطوباوي، لدى المثقف العربي الأيديولوجي، أو المفكر الإسلامي، يدفع أصحابه للسقوط في "الدعوة" دينية كانت أم دنيوية، أو الوقوع أسرى المشاريع الفكرية الجاهزة التي تزين للمثقف معرفة كل شيئ، وبالتالي يكرس كل حياته الفكرية لخدمة مشروعه، الذي يشكل رؤيته الخاصة للدين والعالم والطبيعة والتاريخ. إن الدور الجديد الذي يجب أن يلعبه المثقف، هو أولاً الخروج من خطاب الماينبغيات والمشاريع الكبرى والدعاوى الأيديولوجية الضيقة والدعوات الدينية الطوباوية؛ يكتفي المثقف، اليوم، في زمن التحولات التكنولوجية الكبرى والطفرات الإعلامية والمعلوماتية التي غيرت وجه العالم، بوظيفة جد متواضعة ومُكلفة، وهي النقد كأداة منهجية لفتح الدروب المغلقة، وخلع الأبواب الموصدة، وتهوية الكهوف التي فسٌد هواءها، وتقديم بعض الأفكار الجديدة، تاركاً للفاعلين الاجتماعيين، سواء أكانوا أفراداً أم تجمعات منظمة وأحزاب مهمة إعادة بناء مجالهم السياسي والاجتماعي وفق قاعدة التداول، وبحسب مفهوم الحرية والمسؤولية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نحو 1400 مستوطن يقتحمون المسجد الأقصى ويقومون بجولات في أروق


.. تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون




.. الجزائر | الأقلية الشيعية.. تحديات كثيرة يفرضها المجتمع


.. الأوقاف الإسلامية: 900 مستوطن ومتطرف اقتحموا المسجد الأقصى ف




.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية