الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذاكرة والهوية السردية

ياسين إدريس معيزو

2018 / 10 / 30
الادب والفن


تعد الكتابة المجال الذي تستطيع الذات من خلاله التعبير عن ذاتها، ولا تغدو أن تكون هذه الذات سوى قطعة بسيطة من العالم والوجود، إذ تتحول الكتابة عبر هذا الفهم إلى أداة لنبش أوجه الحياة والكشف عن مآزقها والوعي بعدم كفايتها، بوصفها سلوكات منحطة وعادات بالية تحول دون ضمان تطور الفرد، بعيدا عن كل أشكال التخلف والقهر والتبعية والارتهان إلى سلطة الخرافات والميثولوجيا.
وتعد الرواية الجنس الأدبي الأكثر قابلية ومرونة لرصد علل العالم والكشف عن نقصه وجراحه الغائرة، ومن ثمة تسعى الرواية نحو ملء هذا النقص عن طريق تعرف الذات ذاتها بما هي مجال تحقق الهوية والوجود.
وقد اتخذ سؤال الهوية والوجود -قبل الوعي بتمظهر في السرد- مسيرا طويلا عبر التاريخ الفلسفي، إذ ظل البحث في الهوية يرتبط بشعور الذات بالانتماء والرغبة في الوجود والبقاء، من خلال تحميلها (الذات) ثقل هويتها ومسيرها من أجل إثبات الوجود والكينونة، ومن ثمة تحظى الذات بكل أشكال الاعتراف المتاحة لهويتها. كما تتأسس الهوية من هذا المنطلق من خلال التركيز على الثابت في الذات، ويرتبط هذا التابث بالماهية والجوهر.
وما إن نتحدث عن الهوية في السرد، فإن حدسنا بالضرورة يقودنا نحو مفهوم "الهوية السردية" كما نحثه الفرنسي بول ريكور؛ الذي يعد السرد إحدى مكونات الهوية؛ أي أن تحققها رهين بالتأليف السردي، وأن الهوية السردية _في نظر ريكور_ هي صورة الذات الفاعلة التي لا تتحقق إلا بالسرد، سواء تعلق الأمر بهوية فردية أم بهوية جماعية.
كما تحاول الهوية السردية الإجابة عن سؤال من أنجز الفعل؟ انطلاقا من قدرة الذات الفاعلة على سرد قصة حياتها وتعرفها على ذاتها من خلال سرد تاريخها الفعل. ومن ثمة يصير سؤال الهوية -حسب هذا الفهم- يرتبط بإعادة الاعتبار للنظرية السردية من زاوية مساهمتها في عملية سرد الذات، وبدون هذا البعد لا سبيل للخروج من مأزق الهوية كما تطرحه المباحث الفلسفية.
ويصعب الحديث عن الهوية السردية دون الإشارة إلى الدور الذي تلعبه الذاكرة في تشكيلها، بوصفها (الذاكرة) سرداب التجارب ومخبأ الأحداث التي يمر منها الإنسان عبر أطوار حياته، كما تعمل الذاكرة على تنظيم هذا المختزن (الأحداث، الأفعال..) من خلال استدعاء أحداث الماضي قصد تنظيمها في السرد، من ثمة السعي نحو معالجة الثقوب التي يتركها النسيان بالذاكرة .
لكن هل يعني الاستحضار هنا إعادة صور الماضي كما حدثت فعلا في الزمان الذي انقضى؟ وهل لهذا الاستدعاء _المحصن بالحاضر_ تأثير على هوية الموضوع المستذكر؟.
في هذا الصدد يجيب الناقد عبد الرحيم جيران عن هذه التساؤلات، مؤكدا أن الذاكرة مسؤولة عن جانب كبير من ضمان نشوء الهوية، وأن الذاكرة "لا تتشكل من استعادة ماضي الموضوع وحده فحسب، بل من حاضر فعل الاستذكار نفسه الذي تتكون بموجبه الحاجة إلى الاستعادة (...) بما يعنيه هذا من تدخل لسياقات الاستذكار في صياغة موضوعه ." أي أن السياقات التي تحكم الحاضر -بوصفه الإطار الزمني الذي يأخذ على عاتقه استدعاء أحداث الماضي- هي التي تسعى إلى تنظيم أفعال الماضي وترتيبها في الزمن. ويعتقد جيران أن الذاكرة لا تهبنا التاريخ الشخصي كما في صفائه التام؛ فمهما حاولنا الحرص على تتبع تكون هذا التاريخ في الزمان على نحو تعاقبي، فهناك في كل محاولة من هذا القبيل ما يجعل من كل ما في الحياة معرضا للاضطراب بفعل النسيان."
إن معضلة النسيان تجرنا إلى التفكير في ما تتركه الذاكرة من فجوات تحول دون دون تشكيل الهوية بوصفها نتاج تعرف الذات على ذاتها عن طريق الاستذكار. هنا تجد الناقد يثير إشكالية "الحبكة" في تعرف الهوية، من موقع ما يسمح بالحديث عن كون الذاكرة لا تتعرف هوية موضوعها بوساطة الكل الجاهز، بل بوساطة "فعل لمِ البقايا" بوصفه فعل استذكار ينتمي إلى الحاضر الذي يجد نفسه أمام أحداث مبعثرة في الزمان. ومعنى هذا أن كل استذكار هوياتي يعد تنظيما لبقايا ما يستذكره، بما يعنيه هذا التنظيم من ربط وترتيب لهذه البقايا في الزمان. ومن ثمة يعطي فعل الاستذكار لهذه البقايا –في لحظة استرجاعها- اتساقا منسجما، يجعلها تساهم في بناء هوية الموضوع المستذكر.
إن ما يجعل السرد عامة والرواية على وجه الخصوص مجالا رحبا لتصوير الحياة وانشغالاتها، هو ما تنتجه من عوامل تخييلية وحيوات مختلفة ومتنوعة وآليات تمثيلها داخل العمل الروائي بعيدا عن النظر داخل بنائها الجواني المتعلق بالحبكة؛ فليس كل النصوص السردية تقوم على الحبكة، إذ أن نصوصا روائية_على سبيل المثال_ يتغير بناؤها السردي، بل تتخلى عن الحبكة وتدمره، ولعل الرواية الجديدة خير شهيد على هذا التدمير، ما يجعل الهوية السردية تتمظهر بعيدا عن هذا الدليل(الحبكة) نحو دلائل أخرى أكثر إجداء وتبيانا. فما هي هذه الدلائل السردية على غرار مفهوم الذاكرة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في