الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أركيولوجيا الإتصالية والإنفصالية في التاريخ

يونس كلة

2018 / 11 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


شكلت أفكار ميشال فوكو الفلسفية ثورة فعلية على مجموعة من المفاهيم التي كانت تأخذ إلى عهد قريب على أنها مفاهيم ثابتة صالحة للبحث في مختلف الميادين المعرفية، فمفهوم الاتصال اعتبر مفهوما لا محيد عنه في المناهج التحليلية التاريخية إلى حدود القرن التاسع.
لقد اتجه اهتمام المؤرخين طيلة هذه المدة إلى التركيز على الفترات الطويلة بالاعتماد على أدوات من مجالات مختلفة قصد تحليل حقل التاريخ أو الحقول التاريخية، للإشارة فإن اعتماد هذه الأدوات أيقض بال المؤرخين ودفعهم إلى إعادة اكتشاف مراتب ومستويات مختلفة ( وهكذا حلت محل التعاقب الخطي الذي كان حتى ذلك الحين، موضوع البحث التاريخي، عمليات سبر الاغوار1). إن التركيز على أعماق الحقل التاريخي يظهر تقسيمات خفية، يكاد الناظر لا يميز بين أجزائها الصغيرة.
بالتالي تحول الاهتمام بوعي أو بغير وعي، من الاهتمام بالفترات المتصلة فيما بينها والتي كانت توصف ك ( عصور ) و ( قرون ) إلى الوقوف على ظواهر الانفصال، حيث بينت معظم الدراسات التي اتجهت في هذا المنحى إلى ما يخفيه علم من العلوم أو نظرية من النظريات، التي تبدو في الظاهر أنها تتصل على صورة سلاسل مرتبطة الواحدة تلو الأخرى، من عتبات وقفزات وطفرات،يعد الموقف الباشلاري في تاريخ العلوم خير دليل على مثل هذه الدراسات الجديدة التي وقفت ندا لتلك الخاصة برصد مظاهر الاتصال والسيرورة2، إننا بهذا المعنى أمام نوع جديد من المعقولية ترتبت عليه نتائج متعددة ومختلفة.
كما بات من الواضح إذا أن التاريخ وتاريخ المعارف على وجه الخصوص، يتجه إلى كشف الفصائل الكبرى التي حدثت في مصاره، لكن هذه الفكرة بالذات تتعارض إلى حد ما مع المعنى الحقيقي الذي يحمله مفهوم التاريخ. إذ يعني لدى عموم المهتمين بالبحث التاريخي، وحتى أولائك المتابعين لمجريات البحث التاريخي بعيدا عن الاحتكاك المباشر مع الوثائق والمجلدات الكبرى، وكذا تلك النقوش التي ما زالت مستمرة تعبر عن ماضيها على جدران الكهوف والبنيات التاريخية، بهذا المعنى يبدو التاريخ " ميالا إلى إغفال الوقائع المباغتة لصالح البنيات التي لا تعرف السهو "3.
تترتب عن هذه الالتفاتة القوية لمفهوم الانفصال نتائج أهمها تبيان تعدد الإنفصالات في تاريخ الأفكار ، وإماطة اللثام عن الفترات الطويلة في التاريخ، وبذلك أصبح مفهوم الانفصال يحتل مكانة متميزة في الدارسات التاريخية، وللتفسير فإن المفهوم المذكور كان له إشارة على التشتت الزمني، إما بعد أن تحققت على مستوى التحليل التاريخي فعاليته، فانه تحول من مكانيزم هامشي إلى آلية مركزية ذات مهمة بارزة في مجمل الدراسات التاريخية. ارتباطا مع مجموع هذه التحولات التي حدثت في مجال التحليل التاريخي حصلت تغيرات على مستوى نظرة الإنسان إلى وعيه، الذي ارتسمت خطوطه العريضة في احتكاكه مع الطبيعة، بحيث لم يعد مفهوم الوعي يأخد أو يفهم في علاقته مع مفاهيم ارتبطت معه اشد الارتباط، كما تظهر ذلك فلسفات التاريخ التي تميل إلى القول بغائية التاريخ وسعيه نحو الاكتمال، ومن بين هذه المفاهيم نذكر: (الاكتمال، التقدم، الغائية...)، الى غير ذلك من المفاهيم التي تعبر عن المسار الخطي للتاريخ وكذا دينامية الوعي الإنساني، والجديد الحاصل على مستوى نظرة الإنسان إلى الوعي هو ظهور مستويات أخرى لا تتشابه فيما بينها، ولا تفهم في سياق قانون واحد، بل هي مستويات قائمة الذات لكل منها نطاقها الخاص، وهكذا حلت محل العقل المتصل بنيات مستقلة ( أو علوم )، تفهم في علاقتها مع ما ظهر من مناهج علمية تحليلية جديدة.
حقا إن هذه الموجة الجديدة القائمة على مفهوم الانفصال كآلية منهجية، قد تعرضت لوابل من النقد اللاذع، فهو في مفترقة أساسها أنه يشكل أداة البحث وموضوعه في نفس الوقت، مرد هذا النقد مرجعية أصحابه الفكرية التي تهدف إلى الحفاظ على الاتصالية كمفهوم وكصفة تطبع التاريخ والدراسات التاريخية، " إن التاريخ المتصل هو الحليف الذي لا محيد عنه للدور التأسيسي للذات الفاعلة"4، هكذا ردد دعاة الإقرار بالاتصالية والاتصال، بيد انه قد نجد حالات يعمد فيها المؤرخ إلى الفصل بين الأحداث . فماذا نعني به؟
والإجابة ستكون أن المؤرخ لا يلجا إلى الفصل بين الأحداث والأشياء، إلا في إطار إعادة الوحدة إلى التاريخ، نستنتج من ذلك أن الإقرار بالاتصالية في التاريخ يشكل امتدادا للذات الفاعلة وللوعي البشري، وإنقادها من مخاطر مختلف أشكال الخلخلة والتصدع، كتلك التي أحدثها ماركس عندما حلل روابط الإنتاج وميكانيزمات الصراع الطبقي، وما أحدثه كوبرنيك على مستوى هدم الكوسمولوجيا الأرسطية5، وما أحدثته الهندسات اللاأقليدية في علاقتها بالهندسة الأقليدية...6، نتج عنها في نهاية القرن الماضي إعادة بناء تاريخ شامل يسمح بإرجاع كل الاختلافات إلى شكل وحيد، وهكذا ظهرت منظومات اتصالية من جديد وانتعش مفهوم الاتصال مرة أخرى، خاصة بعد إعادة قراءة ماركس ونيتشه قراءة انتروبولوجية جعلت منهم مؤرخين للكليات.
بناء عليه يتضح أن من أهم النتائج المترتبة عن الحفر الأركيولوجي في أعماق الثقافة الغربية، هي التي يمكن حصرها في قضية موت الإنسان، وقضية الانفصال الآلية المنهجية الجديدة في البحث التاريخي، إلا أن النظر في هذه النتائج يظهر أننا أمام حركة مد وجزر، فمن غياب الإنسان إلى حضوره، ثم غيابه من جديد، ومن الاتصال إلى الانفصال، فالاتصال من جديد.
1. ميشال فوكو، جنيالوجيا المعرفة، ترجمة احمد السطاتي/ عبدالسلام بن عبدالعالي، طبعة 1988 الصفحة67
2. للوقوف على ابرز معالم هذه الفكرة يرجى العودة إلى كتاب " الفكر العلمي الجديد " لغاستون باشلار، توجد نسخة عربية من ترجمة د.عادل العوا ومراجعة د. عبدالله عبد الدائم.
3. ميشال فوكو،مصدر سبق ذكره،ص 70.
4. جنيالوجيا المعرفة،ص 75.
5. ينصح بمراجعة كتاب الفلسفة والعلم في الكلاسيكي، تأليف يفوت سالم.
6. ينصح بالعودة إلى كتاب بنية الثوراث العلمية،تأليف طوماس كون، الترجمة العربية للدكتور حيدر حاج اسماعيل، مركز دراسات الوحدة العربية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملف الهجرة وأمن الحدود .. بين اهتمام الناخبين وفشل السياسيين


.. قائد كتيبة في لواء -ناحل- يعلن انتهاء العملية في أطرف مخيم ا




.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش تداعيات الرد الإيراني والهجوم ال


.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟




.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على