الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القرين (دوستيوفسكي): عندما يتماهى دوستيوفسكي مع الجنون

بلال سمير الصدّر

2018 / 11 / 3
الادب والفن


القرين(دوستيوفسكي):عندما يتماهى دوستيوفسكي مع الجنون
كما هو معرف،فالقرين هي الرواية الثانية لدوستيوفسكي بعد الفقراء التي حققت نجاحا منقطع النظير،على ان القرين اتهمت بالفشل الذريع مع بداية ظهورها خاصة من قبل الأديب الروسي(تورغنيف) بينما اشاد بها الناقد الروسي الكبير بيلينسكي واعتبرها ناباكوف لاحقا افضل رواية كتبها دوستيوفسكي.
بالتأكيد أن كلام ناباكوف مبالغ فيه،وبالتأكيد ان المقدمة السابقة غني عنها القارئ،لأن موضوع رواية القرين وظهورها هو من الكلام المتداول،بل كثير التداول،ولكن الشيء المهم بالموضوع أن القرين هي اقرب لدوستيوفسكي من الفقراء،لسبب بسيط هو انه من اعتبار القرين هي دوستيوفسكي نفسه.
لم يكن دوستيوفسكي يحاول ان يكتب رواية تخص(ادب المراسلات) عن الفقراء تحديدا،فالقرين هو شيء نابع من دوستيوفسكي،ومن يستطيع ان ينكر ان القرين فيها شيء من الأبله والمراهق والجريمة والعقاب،والأقرب من كل ذلك مذكرات من تحت الأرض،بل يجوز أن تكون القرين هي الجزء الأول من مذكرات تحت الارض وربما العكس صحيح.
على العموم دوستيوفسكي يتماهى مع الجنون...يتماهى مع شخصية غوليادكين كما تماهى فلوبير ذات مرة مع شخصية مدام بوفاري.
كان السيد غوليادكين منهارا-منهارا تماما،بكلما تحمله الكلمة من معنى،واذا كان قد أستطاع الى تلك اللحظة ان يحافظ على قدرته على الجري فبفضل معجزة ما،معجزة يرفض ان يصدقها،أنها ليلة من ليالي نوفمبر الذهبية الرطبة الملئ بالضباب،الممطرة،المحملة بالزكام والالتهابات من كل نوع،باختصار،انها ليلة من الليالي المحملة بكل هبات شهر نوفمبر في سان بطرسبورغ.
من هنا...من هذه اللحظات بالذات يظهر قرين غوليادكين!
لكن ما هي التداعيات...كيف نستطيع الوصول الى حل مقنع ينبأ بمنطقية عن سبب ظهور قرين غوليادكين أو قرين دوستيوفسكي؟
كتبت القرين في عام 1846 اي قبل اربعين عاما من ظهور اشهر رواية عن القرين في التاريخ الروائي قاطبة ألا وهي (معضلة الدكتور جيكل والسيد وهايد) لستيفنسون،على ان المعضلة عند دوستيوفسكي اكبر وتحتمل العديد من جهات النظر وان كان سرد القصة بسيط جدا،الا نا شخصية غوليادكين محاطة بهالة من التعقيد الذي من الممكن ان يقودنا الى اكثر من نظرية اساسية،وهو الأمر المختلف عن معضلة الدكتور جيكل والسيد هايد وهي الرواية التي من الممكن تلخيص فكرتها الاساسية بانقسام الذات بين ذات خيرة وذات شريرة،وان كان هذا الوصف مشوه للقصة الا انه لايمكن الاتكار ان ستيفنسون يمحور قصته بين ذات خيرة وذات شريرة.
كما أن احداث رواية دوستيوفسكي تروى من خلال غوليادكين نفسه،وهذا امر يصعب موضوع التحليل نفسه وهو من الممكن ان يجعلنا نشك في احداث الرواية قاطبة خاصة اذا كانت تروى من قبل مجنون.
...ورغم ذلك لبث مستلقيا على سريره لايتحرك دقيقة أو دقيقتين،كما لأو انه لايدري ان كان قد استيقظ تماما أم ليس بعد،وان مايراه حوله حقيقي ام مجرد استمرار لتلك الرؤى التي حفل بها نومه المضطرب.
ولكن ما نوع الجنون الذي يعاني منه غوليادكين؟
غوليادكين يعيش دوما في حالة من الصراع ضد الغير لقناعته التامة بالدونية،فكل تصرفاته تشكل ردة فعل اتجاه ارتيابه من استعزاء الآخرين منه،فهو يرفض-ضمن تفكيره هو-ان يكون عرضة للسخرية من قبل الآخرين،فأول ما نحسبه عن غوليادكين هو الارتيان،أو جنون الارتياب الفادح الذي يعتقد أن الآخرين يؤمنون بدونيته،وبالتالي سيشكل خط دفاعي كامل للدفاع عن نفسه،والمونولج الداخلي يسير على هذا النسق بحيث يجب ان يجعل من نفسه دائما مصدر قوة لامصدر ضعف.
((اكتسبت نظرته نوعا من التحدي محملا بقدرة عجيبة على تدمير اعدائه وتحويلهم الى رماد اذا اقتضى الأمر.كانت تلك النظره تعبر،بالاضافة الى ذلك،على استقلاليته التامة))
اي ان السيد غوليادكين كان يعبر من خلال تلك النظرة على انه لايبالي بأي شيء وان له شخصيته الخاصة كباقي البشر،بانه ليس فضوليا ولايهتم اطلاقا بالنظر الى عيوب الآخرين.
أذا،هو يشعر بدونية شديدة وتشكيله الخارجي هو مقاومة البشر ويبدو حساسا جدا وقابلا للأضطراب لأقل الأسباب مع الشعور بالأهانة،ولكن للأسف فحيله تبدو كلها مكشوفة...فالادعاء واضح تماما.
واضح ان من يدعي كل هذه القوة وكل هذه الثقة بالنفس هو شخص على العكس تماما مما يجعل تصرفاته على الأغلب مثيرة للضحك...في الحقيقة غوليادكين مستسلم منذ البداية وهو يعرف بأنه ضعيف الحيلة وافعاله لم تجدي نفعا في قرارة نفسه المرتابة...(توقف غوليادكين عن الكلام راضيا كل الرضى،وانفجر الشابين الموظفين يضحكان بوقاحة.فكان ان استشاط السيد غوليادكين غيظا))
هنا،كان على غوليادكين ان يتمسك بالروتين،بالنظام الصارم القائمة عليه حياته،وهذا يجعله لايجابه المتوقع ابدا...(ماذا لوحدث مايكدر صفو هذا الصباح،لو كان حدث ما يزعجني كأن أجد دملا ما مثلا،أو ان يقع شيء آخر مزعج ...من يدري؟!))
هنا نلاحظ ان غوليادكين متمسك بالنظام...
ولك هل يعاني غوليادكين من قهر اجتماعي...لايمكن اقحام المجتمع في وجود غوليادكين نفسه،لأن غوليادكين متأكد من عدم قبوله الاجتماعي،وثانيا الدونية وحصار النفس بافعال مصدرها بارانويا مقاومة الآخرين،فانبثاق القرين يشبه تماما تحول اسبانوزا-بطل كافكا-الى حشرة،هذا اذا نظرنا الى بطل كافكا من هذه الناحية فقط.
هنا علينا أن نتحدث عن الحدث الذي ادى الى انبثاق القرين:
يدعى غوليادكين-أو يعتبر نفسه بأنه مدعو-الى حفلة عيد ميلاد ابنة رئيسه في العمل،ومنذ البداية نشعر انه كائن غير مرغوب وجوده،وعلى الرغم من حساسيته المفرطة الا انه يتمسك بالحضور حتى يغازل تلك الابنة مغازلة (غير واعية) وكأنه لايشعر بها فيطرد طردا مؤدبا،وهنا بالذات ينبثق القرين...
...(كذلك كان السيد غوليادكين يبدو في ذلك الحين،بل نستطيع ان نقول ان السيد غوليادكين لم يكن يتمنى ان يهرب من نفسه وحسب،وانما كان يتمنى ان يزول من على سطح الأرض تماما،أن لايبقى له وجود،أن يتحول الى رماد. لم يكن يسمع شيئا في تلك اللحظة،ولم يكن يفهم شيئا مما يحدث وكان مظهره يوحي بان الاشياء من حوله لم يعد لها وجود.)) هنا ومن هذه اللحظة ينبثق القرين
يظهر القرين في البداية كزميل في العمل لغوليادكين،ولكن قبل ان نذكر السبب علينا ان نذكر شيئا مهما...شيئا اهم من ظهور القرين نفسه...ظهور غوليادكين آخر مطابق تماما لغوليادكين الاصلي لايثير الاستغراب ابدا على الاطلاق،بل يبدو ان قصة القرين تسير في طريق محبوك بمهارة فنتازية،وهنا نقع بين خيارين أولهما:أن اللعبة-منذ ظهور القرين-اصبحت فقط في ذهن غوليادكين وهو الأقرب الى المنطق،ولولا ذلك لما كانت القصة عن الجنون،وثايهما وهذا مستبعد:أن يكون انبثاق القرين حقيقي.
اذا ظهور القرين امر مقبول اجتماعيا وهذا نابع مع كل الوضوح ان غوليادكين يبحث عن الأنا المقبولة اجتماعيا على ان لايوجد جملة واحدة في الرواية تدل على عدم قبول غوليادكين اجتماعيا سوى من غوليادكين نفسه،واذا كان غوليادكين-كما يقول-على وشك الجنون لشدة قبول القرين من دون اي علامة استغراب من قبل مجتمعه،فهذا منبعه من الرغبة الشديدة بوجود غوليادكين المقبول اجتماعيا الذي لايشعر بالدونية وطبعا سيتحول القرين الى شخصية كما يراها غوليادكين نفسه وهذه اهم نقطة في التحليل.
ان غوليادكين الآخر هو شكل من اشكال الدفاع ضد النفور من الذات.
يستيقظ غوليادكين ذات مرة على اثر حلم يرى فيه ان المدينة امتلأت بنسخ مكررة من غوليادكين
(الى درجة ان تكاثر اولئك الاشباه تضخم حتى صار مرعبا،الى درجة ان العاصمة كلها امتلأت بالاشباه)
وكان ردة فعل غوليادكين(واسيقظ بطلنا من النوم وقد تجمد من الرعب،وازداد تجمده من الرعب لما ادرك ان ما ينتظره في اليقظة قد لايكون اقل تعاسة مما تراءى له في الحلم...كان محطما تماما،ويعاني معاناة بلغت من القسوة انه احس وكأن احدا يأكل قلبه بلا رحمة...
يعلق البروفيسور ت-ي-ايثر صاحب كتاب ادب الفنتازيا:
يستيقظ غوليادكين وقد استبد به الرعب،وقد تجلت له تفاهته وضآلة شأنه،إذ من الممكن ايجا نسخة تامة له من دون اي تكلفة،لأن اهتمامه ينصب على آراء الآخرين به،وبالتالي كان نصيبه المدح ام الذم فانه غير مجد لنفسه.
لابد من النظر الى النفس بأنها غير قابلة للأستبدال....
(اقتباس من الرواية:صار السيد غوليادكين عاجزا ان يتحمل كل هذا العذاب فصرخ وهو ينهض من على سريره (منتفضا ..لا لن يحدث...وكانت هذه الصرخة كافية لأن تعيده الى الواقع ىالملموس.
من الواضح ان هناك خلط بين الواقع واللاواقع بالنسبة لغوليادكين،فهو يستطيع ان يعرف الواقع الذي يعيش فيه تعريفا دقيقا،ولكن هل غوليادكين الآخر-أو الآخرين- موجوديين حقا،وبالتالي يعكس دوستيوفسكي الواقع كما يراه غوليادكين,وليس كما يراه أو يقرأه أو يتنبأ به القارئ،فغوليادكين يعيش في مستويات ثلاث من الوعي-وهذا التقسيم لايخص التقسيم الفرويدي بشيء-فالمستوى الأول هو عالم الواقع الحقيقي الذي نعيش فيه،والثاني هو عالم الادراك وهو الذي يخص دونية غوليادكين واهتمامه الزائد بآراء الآخرين به،وهو الذي يجعله- غوليادكين- يدرك أو يتجه نحو زوايا لايمكن ان يلتفت اليها سوى مجنون...لنتأمل بهذه الفقرة،وهي على العموم في آخر الرواية،اي انه حتى بعد ظهور القرين لم يفقد غوليادكين مثل هذه التأملات:
(ويالشدة دهشته حين راى على حذاء صاحب السعادة بقعة كبيرة بيضاء،هل يعقل ان يكون حذاؤه ممزقا؟
قال السيد غوليادكين في نفسه،لكنه ما لبث ان ادرك ان حذاء صاحب المعالي ليس ممزقا وانما يعكس ما سلط عليه من ضوء لأنه كان ملمعا بعناية فائقة تجعله يلمع بتلك الطريقة.أن هذه الظاهرة معروفة في ورشات الرسم باسم لمعة الضوء ومعروفة في مجالات اخرى باسم زاوية الضوء.)
هذه التاملات هي اودت بغوليادكين الى العالم الثالث،اي الى عالم الادراك الشخصي أو عالم الجنون...
يلتفت دوستيوفسكي بسرعة ويقرر ان يغلق الافق الفنتازي للرواية مع كل احتمالاته وجماله لأنه يقرر ان يرسل غوليادكين الى مستشفى المجانين بحيث تتحول عوالم غوليادكين الثلاث الى شيء اكثر واقعية الى شيء واقعي تماما مع انه ان من الممكن أن يحلق بعالم الفنتازيا بنهايات مفتوحة،أو نهايات اكثر تواءما مع الرواية، ولكنه قرر في البداية ان يكتب عن نفسه...يكتب عن مجنون...يكتب عن مصير آخر من الممكن ان يخوضه بطل رواية (مذكرات من تحت الأرض)...
ليس لنا أن نبالغ مثل ناباكوف ونقول:أنها اعظم رواية كتبها دوستيوفسكي،ولكنها بالتأكيد افضل من روايات كتبها دوستيوفسكي نفسه مثل مذلون مهانون أو زوجة رجل آخر وزوج تحت السرير،والقرين هي الشيء الذي سيقوله دوستيوفسكي لاحقا في ادبه الكبير،فكل ابطاله بلااستثناء تعاني شيئا من علل غوليادكين.
بلال سمير الصدّر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با