الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل ممارسة الظلم غريزى أم بيئى؟

طلعت رضوان

2018 / 11 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


عندما أتأمل حجم وكمية المظالم التى مارسها بشرضد جماعات من البشر(أى أنّ الظالم والمظلوم ينتميان لجنس الإنسان) فإننى أتساءل: ما الدوافع التى تجعل كل من أتاحتْ له ظروف عمله أومنصبه، أنْ يتحكــّـم فى مرؤوسيه..والخاضعين لسلطته..ويـُـمارس عليهم أبشع أنواع الظلم، لدرجة الإذلال والحط من كرامته؟
والكارثة تتبدى أكثرعندما لايكون لدى (الظالم) أى سبب لممارسة الظلم على من هم تحت سيطرته. فهل أمثال هؤلاء الظلمة يمكن تصنيفهم على أنهم من (الشواذ) بمعنى أنهم الاستثناء من القاعدة الإنسانية التى (كما أعتقد) أنها تضم الغالبية العظمى من مجموع البشرعلى سطح الكرة الأرضية.
وهذا الموضوع جعلنى أتساءل: ما دورعلماء علمىْ النفس والاجتماع، فى تحليل هذه الظاهرة؟ ومع ملاحظة أننى- فى ضوء قراءاتى فى هذيْن العلميْن- لم أعثرعلى كتاب تناول فيه مؤلفه جذورالأسباب التى تجعل الظالم يـُـمارس الظلم، وبدون أى مُـبـرّرمقنع (بالفرض أنّ الظلم يستوجب وجود المبرّر) بل إنّ ممارسة الظلم يصل فى بعض الحالات لدرجة أنّ الظالم يشعر(بالتلذذ) وهويمارس الظلم على إنسان مثله..وهوالأمرالذى شهده تاريخ الإنسانية فى الكثيرمن الأمثلة..ومن بينها:
أنه فى عصرالخلافة العباسية بدأ عهدهم بنبش قبورالخلفاء الأمويين، وأخرجوا جثة هشام بن عبد الملك وضربوها بالسياط وصلبوها. ثم القضاء على من بقى منهم فى مذبحة فظيعة، إذْ كان أبوالعباس قد أمّن سليمان بن هشام بن عبد الملك وكبارالقوم من الأمويين. ثم دعاهم إلى مأدبة عشاء، فدخل عليه الشاعرسديف وقال له ((لايغرنك ما ترى من رجال/ إنّ تحت الضلوع داءً دويًا / فضع السيف وارفع السوط حتى/ لا ترى فوق وجهها أمويـًـا)) فأمر بهم السفاح (ويُقال ابن عمه عبد الله بن على) فضـُربوا حتى قــُـتلوا ثم بسطوا عليهم الأنطاع وأكل هوالطعام عليها وهويسمع أنين بعضهم حتى لفظوا الأنفاس جميعًا..وتلى السفاح فى الخلافة بعهد منه أخوه أبوجعفر المنصور، وهوالمؤسس الفعلى للدولة العباسية..وقد افتتح خلافته بقتل عمه عبد الله بن على خوفــًا منه أنْ يُنازعه المُلك. ثم انقلب على إبى مسلم الخراسانى فقتله..ولما قال له: ((استبقنى يا أميرالمؤمنين لعدوك، قال المنصور: وأى عدو أعدى منك؟)) واتصل الخليفة أبوجعفرالمنصوربالفرنجة يستعديهم على عبد الرحمن الداخل الخليفة الأموى ويتواطأ معهم لإسقاطه..ويُـقال أنّ الخليفة الناصرهوالذى دعا التتارللتدخل لحمايته. فلما دخلوا بغداد دمّروها وقتلوا الخليفة المعتصم وقضوا على الخلافة العباسية..وظلتْ ديارالإسلام بلا خلافة لمدة ثلاث سنوات (كتاب: الخلافة الإسلامية- تأليف المستشارمحمد سعيد العشماوى– دارسينا للنشر- عام 1990- من ص 157- 163)
الأمرالذى استوقفنى فى تلك الواقعة التى نقلها العشماوى وغيره، من أمهات كتب التراث العربى/ الإسلامى، ليس (فقط) الضرب والتعذيب الذى ألحقه العباسيون بالأمويين، حتى لفظوا أنفاسهم..وإنما الذى لفت نظرى أكثرأنّ خليفة المسلمين (المؤمن بالإسلام والمُـوحد والتقى الورع..إلخ) كان يتناول طعامه وهوّيسمع ويستمتع بـأنين الضحايا..كما لوكان يستمع إلى سيمفونية لتهدئة الأعصاب.
وفى واقعة تاريخية أخرى ذكرها أبوحيان التوحيدى فى كتابه (الهوامل- ص48) كتب: ((سمعتُ وزيرًا يقول: أنا أتلذذ بالظلم)) (نقلا عن د. هالة أحمد فؤاد فى كتابها عن التوحيدى – هيئة الكتاب المصرية- عام2017- ص243، وهامش ص393)
ولأنه الشاعرصلاح جاهين إنسان قبل أنْ يكون شاعرًا لذلك امتلك حكمة الفلاسفة فكتب ((السم لوكان فيه الدوا..منين يضر؟ والموت..ولولعدونا منين يسر؟ حط القلم فى الحبرواكتب كمان/ والعبد للشهوات..منين هوّحر؟)) فالإنسان المتحضرلايشمتْ ولايتمنى الموت حتى لعدوه. والمتحضرهوبطبيعته إنسان حر، والإنسان الحر يرفض العبودية حتى لشهواته.
وعن وسائل التعذيب البشعة التى تعرّض لها كل أصحاب الرأى فى معتقلات عبدالناصر، فإنّ الضباط الذين مارسوا تعذيب المعتقلين تـمّ تدريبهم فى أمريكا..كما كتب المناضل الشيوعى د. فخرى لبيب الذى ذكرأنّ النظام الناصرى ((استباح ما لم يجرؤالاستعمارعلى استباحته، زمن أنْ كان الحكم للعدوالأجنبى..وأنّ التعذيب بلغ آفاقــًـا تجاوزتْ ما وصلتْ إليه المعتقلات النازية)) (الشيوعيون وعبدالناصر- مطابع الأمل أكثرمن صفحة فى الجزء الأول والثانى)
وذكرد. فخرى لبيب أنّ أقسى وأبشع اختباريتعرّض له المناضل: هل يختاراستمرارالاعتقال والتعذيب والحرمان من الأولاد والزوجة والأصدقاء، أم يخرج؟ والثمن بسيط ورقة يكتب فيها استنكاره لمبادئه وإدانتها مع تعهد بعدم العمل بالسياسة..وكانت لغة ضباط التعذيب من كلمتيْن: وقع وأخرج..وتكون المعاناة أشد قسوة إذا وصل خطاب من الزوجة تقول فيها إنها باعتْ أثاث البيت..ولم يبق إلاّ أنْ تبيع نفسها (أى تتاجربجسدها) أوخطاب من الأولاد يُهدّدون فيه بالانتحار إنْ لم يُوقع ويخرج. البعض أدرك المُخطط وأنّ هذه الخطابات مكتوبة بمعرفة ضباط المباحث. والبعض بلع الطــُـعم وانهار..وفى الحالتيْن ماذا يفعل الإنسان إزاء هذا الاختبار؟
ونوع آخرمن التعذيب لايقل بشاعة عن سابقه، عند إجبارالمعتقل على الاعتراف على زملائه فيُفرج عنه. فهل يخون زملاءه مقابل حريته الشخصية؟ أم ينحازلقيم العدل؟ وهنا يدورالتوترالذى يعتمل داخل وجدان الإنسان...دراما تحوله (فى لحظة ضعف بشرى مشروع) اللحظة التى يختلف فيها البشرمهما اتفقتْ معتقداتهم السياسية وآراؤهم الفكرية إلخ. لحظة التوقيع على ورقة الاستنكارلمبادئه ومعتقداته السياسية، اللحظة التى ظلتْ تطارد المناضل فى صحوه ومنامه..وذلك بعد الإفراج عنه- كما حكى لى كثيرون من الأصدقاء بعد خروجهم من المعتقل عام1964وهى اللحظة التى وصفها الأديب الراحل رمسيس لبيب (الذى كان أحد المعتقلين فى معتقلات عبدالناصر) وذلك فى مجموعات قصصه القصيرة والتى جمعتها السيدة الفاضلة زوجته وأولاده وبناته (بعد رحيله) فى مجلديْن بعنوان (شواطىء العدل)
وفى إحدى هذه القصص وصف رمسيس لبيب أزمة البطل الذى وقــّـع على ورقة الاستنكار..وهوينظرفى عيون زوجته وأولاده..ولم يجرؤعلى الاعتراف لهم بأنه وقــّـع على تلك الورقة..وظلّ يتذكــّـرتلك اللحظة التى تحوّلتْ إلى سياط بعد الافراج..وتكون المعاناة أشد قسوة عندما اكتشف أنه كان ضحية خداع الضباط الذين أوهموه أنّ زملاءه اعترفوا عليه..فى حين أنّ أحدًا لم ينطق بحرف، كما أخبره المخبرالعجوزفى قصة (عيون الحب) ومع ملاحظة أنّ الصديق الأديب رمسيس لبيب، ذكرلى أنّ ماكتبه عن أبطال قصصه (عن سنوات المعتقل) كانوا من زملائه فى المعتقل..وعرف معاناتهم النفسية عن قــُـرب (سواء داخل المعتقل أوبعد الإقراج عنهم)
وأعتقد أنّ الإنسان الذى يتعرّض للتعذيب لابد أنْ يتساءل ((كيف يستطيع إنسان أنْ يُعذب وينهش إنسانًا لم يُسىء إليه؟)) وهوما عـّـبرعنه الشاعرالفيلسوف صلاح جاهين ((كل يوم أسمع عن فلان بيعذبوه/ أسرح فى العراق والجزائروأتوه/ ما أتعجبش من اللى يطيق العذاب/ وأتعجب من اللى يطيق يعذب أخوه))
ومن بين الأمثلة عن النماذج (الشاذة) الشذوذ الذى هوالاستثناء من القاعدة التى تضم غالبية البشر، هذا الشذوذ يصل لدرجة أنّ الظالم الذى اعتقل كل من اختلفوا معه (سياسيًـا أوفكريـًـا) لم يكتف بممارسة وسائل التعذيب المعروفة (رغم بشاعتها) مثل الكى بالنارأوالصعق بالكهرباء (فى أماكن حساسة من الجسد) أوالوقوف بدون ملابس فى ليل الشتاء..إلخ إنما تصل البشاعة لذروتها عندما يأمرقائد المعتقل بوضع السجين فى حفرة ويـُـجبره على احتضان جثة كلب ميت، وهوما حدث فى واقعة حقيققة، وقعتْ فى أحد معتقلات عبدالناصر..وحكاها فخرى لبيب ورمسيس لبيب..وحكاها معظم الشيوعيين الذين كتبوا عن تجربة الاعتقال..وتلك الواقعة الحقيقة هى ما حدث مع العامل نجاتى عبدالمجيد.
نجاتى الذى كان ضمن الشيوعيين الذين رفضوا أنْ يهتفوا وراء الضابط فى طابورالصباح ((عاش جمال عبد الناصر)) ورفضوا أنْ يُغنوا ((يا جمال يا مثال الوطنيه)) نجاتى العامل لم يكتف بالرفض وإنما صرخ كما الأطفال الذين لا يُـفكــّـرون فى نتائج أفعالهم ((إزاى عاوزنا نهتف بحياة جلادنا؟)) ولما رفض التراجع كان مصيره المحتوم فى اللوح المحفوظ فى دولة البطش. أصدرقائد المُعتقل أوامره. يقول كــُنْ فيكون. جرّده الجنود من ملابسه..وبعد ساعتيْن من الضرب بالعصى والسياط أنزلوه واقفـًا فى الحفرة العميقة المليئة ببول وبرازالمعتقلين. وأحضروا جثة كلب وأمروه باحتضانها..كانت الأوامرأنْ يبقى هكذا لمدة يوميْن بلا ماء أوطعام. لم يظهرمن جسده إلاّرأسه وعينان شاخصتان متحديتان..كنا ننظرإليه نظرة العاجزعن الفعل، فيتعمّق إحساسنا بالذل المعجون بالقهر..وبعد انتهاء فترة العقوبة التى حدّدها إله المعتقل، علمتُ من نجاتى أنّ الشاويش كساب، كان يتسلــّـل كل ليلة إلى الحفرة المدفون فيها. يُحضرمعه قطعة قماش مبلولة، يمسح بها جبهته وشفتيه ثم يُطعمه ويسقيه، بالتواطؤالصامت مع جندى الحراسة.
نجاتى شخصية حقيقية..والواقعة حدثت بالفعل..والتفاصيل فى كتاب (الشيوعيون وعبد
الناصر) تأليف د.فخرى لبيب. الناشرشركة الأمل للطباعة والنشرعام 1990.
000
العامل نجاتى (كان يقرأ أى كتاب يستطيع الحصول عليه، وكان يحب قراءة الروايات بشكل خاص..كما ذكرلى بعد أنْ تعرّفتُ عليه بفضل صديقى رمسيس لبيب الذى قـدّمه لى) وكلــّـما تذكــّـرته، إذا بى أفكــّـرفى قائد المعتقل الذى أمربوضعه فى الحفرة مع جثة الكلب..وأتساءل: أية عقلية تلك التى وصل شذوذها إلى هذه الدرجة من الانحطاط؟ وهل لمجرد أنّ نجاتى رفض الهتاف لعبدالناصريكون عقابه بهذه الطريقة الخالية من أية مشاعرإنسانية؟ وهل فعل ذلك من تلقاء نفسه؟ أم صدرتْ إليها تعليمات بتنفيذ تلك الطريقة الخارقة لكل الأعراف الإنسانية؟
وهل هذا القائد إنسان (سوى) من الناحية العقلية والنفسية؟ وإذا كانت به إعاقة ذهنية، فكيف دخل الشرطة المصرية؟ وكيف تدرّج فى الترقيات حتى وصل إلى قائد المعتقل؟ فهل هومثل الوزيرالذى قال: أنا أتلذذ بالظلم؟ كما ذكرالتوحيدى فى كتابه (الهوامل- ص84) ولماذا لايعكف علماء علمىْ النفس والاجتماع على دراسة (شخصية الإنسان المُـستمتع بظلم الآخرين)؟
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماريشال: هل تريدون أوروبا إسلامية أم أوروبا أوروبية؟


.. بعد عزم أمريكا فرض عقوبات عليها.. غالانت يعلن دعمه لكتيبه ني




.. عضو الكنيست السابق والحاخام المتطرف يهودا غليك يشارك في اقتح


.. فلسطين.. اقتحامات للمسجد لأقصى في عيد الفصح اليهودي




.. مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال صبيحة عي