الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تورغينيف وعصره

دلور ميقري

2018 / 11 / 8
الادب والفن


1
في وقتٍ تحتفل فيه الأوساط الأدبية العالمية بمرور مائتي عام على مولد ايفان تورغينيف ( 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1818 )، يبدو القرن التاسع عشر أكثر قرباً لنا من خلال مؤلفاته الروائية بالذات. فما زال كثيرون يقبلون على قراءة أعماله، ويتحول بعضها باضطراد إلى أفلام سينمائية. هذا، مع عدم تجاهل حقيقة، أنّ الروائيّ الروسيّ لا يحظى باهتمام النقاد المعاصرين مثلما هوَ شأن مواطنه ومعاصره العظيم؛ فيودور دستويفسكي. إلا أنها حقيقة ما كانت لتشغل بال تورغينيف، لو كان ما يزال حياً بيننا. ولدينا شهادة أديب معاصر آخر لتورغينيف، هوَ الفرنسيّ غي دي موباسان، أوردها في مقالة بمناسبة وفاته: " لم يكن يحب أن يكتب عنه في الجرائد، وحتى نقد الإبداع الأدبي كان يبدو له مجرد كلام ". (1)
من ناحية أخرى، كان من حسن حظ ايفان تورغينيف أنّ عصره لم يشهد ذلك الصراع العنيف بين أنصار مختلف المدارس الأدبية كما سيكون الحال في القرن العشرين وبالأخص العقود الأولى منه. مع ذلك، رأى هذا الكاتب الكبير مكانه بين مجددي الرواية، سواءً في روسيا أو خارجها. كذلك دعا إلى تجاوز مرحلة الرومانسية، لتبني الواقعية الإجتماعية وبما يتطابق مع متطلبات العصر الصناعيّ والثورة العلمية. بالعودة إلى شهادة موباسان، نقرأ تقييمه لزميله الأجنبيّ الذي كان يُجيد الفرنسية كأهلها: " ككاتب، كان يتبنى في حقل الأدب أحدث الآراء وأكثرها تقدماً، رافضاً كل الأشكال القديمة للرواية المبنية على الدسيسة مع مداخلات درامية وحاذقة ". (2)
يمكن القول، ولو بشكل متحفظ، أن تورغينيف وبسبب اطلاعه المبكر على الأدب الفرنسيّ قد تأثر به على مستوى الكتابة الروائية. فيما أن الآخرين من زملائه الروس، ومنهم دستويفسكي، أعلنوا على لسان هذا الأخير بأنهم خرجوا " من معطف غوغول ". شخصياً، كان تورغينيف يعتبر نفسه وريثاً للتقاليد الأدبية الروسية، التي رسّخها بوشكين بشكل خاص وكان يكنّ إعجاباً شديداً لهذا الكاتب الفريد؛ وأيضاً بالطبع، لغوغول وليرمنتوف. ولكن، كيفَ بالوسع فهم تأثير تورغينيف نفسه على الأدب الروسيّ في القرن التاسع عشر، ومن خلاله، على الوضع الاجتماعيّ لبلاده المترامية الأطراف بين قارتين؟

2
" مذكرات صياد "، التي نشرها الشاب ايفان تورغينيف البالغ من العمر آنذاك خمسة وعشرين عاماً، لم تطوّبه ككاتب معترف به حَسْب، بل أيضاً هزت النظام القائم على القنانة. الضجة المعقبة نشر الكتاب، أدت أولاً إلى وضع مؤلفه قيد الإقامة الجبرية في ضيعة أسرته، ( سباسكويه )، الواقعة في مقاطعة أوريل. هذه المنطقة، هيَ مَن كان يجوبها الشاب ايفان خلال الفصول الدافئة بهدف الصيد والتجوال، وكانت مناظر البؤس لساكنيها الأقنان تجذب نظره مع ما يناقضها من سحر الطبيعة. غير أنّ الكتاب عجّل في نهاية نظام القنانة، وذلك على أثر قراءته لاحقاً من لدُن القيصر بالذات وما كان من تصريحه بشدة تأثره به لدرجة استدعاء الكاتب للمثول في حضرته. لعل ما خففَ من ردة الفعل الأولى على الكتاب، أنّ مؤلفه ينتمي للطبقة الأرستقراطية. بينما علمنا مدى قسوة عقوبة دستويفسكي، القادم من وسط متواضع، والتي نالها من السلطات بسبب قراءته في حلقة طلابية لوصية بيلينسكي.
كان ايفان تورغينيف في الخامسة عشر من عمره، لما توفيَ والده وآلت أملاكه الكبيرة إلى أرملته ذات المحتد النبيل. كانت هذه امرأة متعجرفة ومثقفة في آنٍ واحد، بالغت في القسوة في أثناء تربية ولدها الموهوب. لقد رسخت شخصيتها في أعماقه، وجسدها في العديد من الروايات؛ حتى لقد عُرّف نموذجها أدبياً باسم " نساء تورغينيف ". بعد وقت طويل، أستعاد الأديب الفرنسيّ تلك الصورة النسائية في ملامح ومسلك صديقه تورغينيف خلال لحظة تعرفه عليه: " عندما دخلتُ، نهضَ شيخٌ طويل ذي لحية بيضاء ناصعة من أريكة يجلس متكئاً عليها، منزلقاً من كومة الوسائد كحية مزودة بعينين مذهلتين واسعتين.. ولكن هذا العملاق بحاجبيه الكثين، وجبهته الهائلة، كان قريب الشبه من المرأة الرقيقة المرهفة التي وصفها كثيراً في رواياته، المرأة الروسية العصبية، المتراخية، المشبوبة العاطفة، الغافية كعبدة شرقية، المأساوية، مثل قوة مهيئة للعصيان ". (3)
صلة الفتى بالمجال الأدبيّ، حرّكته طبيعة ساحرة كانت تحيطه في الفصول الدافئة، هنالك في ضيعة الأسرة، " سباسكويه "، حيث السهوب الروسية الممتدة في كل اتجاه والمخترقة بالغابات العذراء والجداول العذبة المياه. بغض الطرف عن قسوة الوالدة، إلا أنها في المقابل أمنت لابنها ثقافة راقية مبكّرة، وفوق ذلك، مدعّمة بإتقان ثلاث لغات أجنبية أساسية؛ هيَ الفرنسية والإنكليزية والألمانية فضلاً عن اللاتينية. كذلك زار معها منذ الصغر باريسَ وبرلين وغيرها من المدن الأوروبية، وبقيَ الشغف بالسفر إلى الخارج متأصلاً لديه حتى نهاية حياته. فلم يكن غريباً إذن، أن يغمض تورغينيف عينيه أبداً في بوجيفال قرب باريس، تحت سماء البلد الذي أحبه وعشق ثقافته، وذلك في 3 أيلول/ سبتمبر عام 1883.

(1) ايفان تورغينيف، الأعمال المختارة في خمس مجلدات ( المقدمة ) ـ الترجمة العربية في موسكو 1985
(2) المصدر السابق
(3) نفس المصدر

> للبحث صلة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع