الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات فلسفية - 9 -

شادي كسحو

2018 / 11 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع




1- لماذا نكتب:
لماذا الكتابة في زمن الموت و الفراغ والسرعة والبلادة واللا مبالاة والهويات القاتلة؟. أقول: نحن نكتب لإيقاف نزيف المستقبل. لتوسيع رقعة الممكن، وتقليل رقعة المستحيل. نكتب لأن الوجود ينبلج دائماً عند حافة عدم ما/جحيم ما.
2- محاولة أخرى لإنقاذ الدون جوان:
في كتاب طريف من نوعه Art of love يدافع ايريك فروم عما يسميه بـ الحب الناضج. هل ثمة حب ناضج وآخر متصابي مثلاً؟. فالحب كما يدعي: هو الوحدة في ظل احتفاظ المرء بسلامته، بفرديته. إن الحب هو قدرة فعالة في الانسان، قدرة تخترق الأسوار التي تفصل الانسان عن إخوته البشر، وتوحده مع الآخرين، والحب يجعله يتغلب على الإحساس بالعزلة والانفصال، ومع ذلك تسمح له بأن يكون ذاته، وأن يحتفظ بسلامته. وفي الحب تحدث المفارقة وهي أن كائنين يصيران كائناً واحداً ومع هذا يظلان إثنين.
لا يمكن تخيل حجم الطرافة والفقر التي يسعى مثل هذا الطرح إلى تكريسها. إننا أمام تصور ( فلسفي ) مجبول بمياه اللاهوت لدرجة أنك لن تعرف وأنت تقرأ هذه الكلمات هل أنت تستمع لفيلسوف يتحدث عن الحب، أم أنك تنصت لتراتيل وأناشيد قسيس في كاتدرائية مهجورة.
علينا أن نفهم موقف فروم من الحب بطريقة أخرى. إن اريك فروم تلميذ من تلاميذ فرويد وهذا يعني إرثاً كاملاً من العداء لكل الخارجين عن طاعة الليبيدو وأوديب. على هذا النحو يمكن أن نفهم معنى النضوج الذي تحدث عنه فروم. إن فروم في الواقع يكره الدون جوانيين لأنهم يتحركون دائماً خارج آلة التحليل النفسي للمجتمع السوي The sane society. إن الدون جواني لا يعيش الايروس كعقدة وإنما كنمط وجود وطريقة في اختراق وانتهاك العالم حيث تفقد أو تسقط ميكانيزمات التحليل النفسي الكلاسيكية أمام شخص مهووس باللذة ومتعطش للمتعة. كل امرأة بالنسبة لدون جوان عبارة عن هدير تجربة جديدة وهسهسة رغبة مختلفة. لا يتعلق الأمر بشذوذ جنسي ولا بتسليع لجسد المرأة ولا بتملك مرضي أو صحي. كل ما هنالك رغبة لا تنقطع باللعب والاستمتاع والانفلات من أجهزة القمع والكبت التاريخية.
في هذا السياق من الطرافة الفلسفية يمكن أن ندرج أيضاً حديث خوسيه أورتيغا إي غايست عن الدون جوان. يتعلق الأمر عنده بخطأ جسيم أو خطأ من العيار الثقيل إن نحن حاولنا البحث عن دلالة موجبة لهذه الشخصية لأن ذلك لن يقودنا على حد زعمه سوى لـ "العثور على نموذج تافه من دون جوان. بل نصل بالحري، عبر هذا الدرب إلى النموذج المعاكس، على الأغلب. فماذا يحدث إذا أردنا عند تعريف الشاعر أن نوجه انتباهنا إلى الشعراء الرديئين؟ بالضبط لأن الشاعر الرديء ليس شاعراً، وإنما نجد عنده الرغبة فقط، والكد والعرق والجهود التي يتطلع بها عبثاً إلى ما لا يستطيع. لأن الشاعر الرديء يستبدل بالإلهام الغائب البهرجة التقليدية: لمًة وسترة. وكذلك هذا الدون جوان المكد الذي يقوم كل يوم بعمله الغرامي. هذا الدون جوان الذي طالما "أشبه" دون جوان، هو نفيه وفراغه بالضبط"
إن أفضل تعليق يمكن تسجيله على كلام أي غايست هو القول: إنه تأويل تقزيمي، إنه لا يفعل سوى أن يراكم الكلمات في شرايين الحياة لدرجة أنه يمنع أو يحول دون اكتمال وصول النشوة واللذة والمعنى إلى كافة أنحاء الوجود الانساني. إن أي غايست في الحقيقة لا يمارس التفكير في الشخصية الدون جوانية، بل يضع تقريراً فلسفياً بلغة أمنية عن شخصية الدون جوان، فيفصل بين ما يراه رديئاً فارغاً من جهة، وما يراه جيداً وفاضلاً وصحيحاً من جهة أخرى. إنه نمط طريف من العقلانية القاحلة حيث يتم التعاطي مع كل فورانات وغليانات الايروس بخطاطات ركيكة وتجريدات أخلاقية عائمة وجوفاء.
بالنسبة لـ أي غايست فإن ستاندال هل قال ستاندال؟ هو النقيض الحرفي لشخصية الدون جوان. وهذا ما يصرح به قائلاً: لقد كان ستندال من تهالك بإقدام أكبر في الدوران حول المرأة. ومع ذلك، هو نقيض دون جوان تماماً. أما دون جوان فهو الشخص الآخر، الغائب دائماً والملفوف بضباب كآبته، والأرجح أنه لم يغازل قط امرأة ما.
هنا بالضبط، أصل لنقطة أساسية تخص نسيج العقلانية الكلاسيكية وتجعلها على تماس شبه مباشر مع العقلية الدينية. أنا أشير إلى قرابة مفضوحة تجعل من العقلانية، في إحدى تجلياتها، ضرباً من الممارسة اللاهوتية، حيث يتم التخلي عن نسيج الفلسفة الأصلي بما هي خلخلة وتمرد وانفصال، ليتم إلحاقها بنسيج الوعي الديني بحيث يغدو الوعي الفلسفي ضرباً من التدين والاعتقاد مع كل ما يعتري هاتين الكلمتين من إنغلاق وضيق وصلات مكشوفة ومفضوحة مع الدوغما.
إن ما لم تستطيع تنظيرات أي غايست وفروم وقبلهم كيركجارد فهمه والتعبير عنه هو أن العالم الايروسي للبشر، لا يمكن اختزاله إلى حدين يستنفدان في ذاتهما كل معاني الأشياء. وأنه يتعذر فهم تجربة العشق الايروسي بمجرد المقارنة الساذجة بين الدون جوان ونقيضه الافتراضي ستاندال. والحال أن الحياة عموماً وايروس خصوصاً، تعلمنا أن الثالث المرفوع موجود ومعطى، وأن الوجود والحب والحرية والفن هي ألعاب لا تنتهي بين الذات والموضوع، الداخل والخارج، المرئي والخفي، المادي والمجرد، وأن ثنوية الوجود هي مجرد وهم سعيد لم يمتلك بعد، إمكانية أن يرى العالم كـ مهرجان اتحاد أبدي للنقائض.
لا يمكن إخضاع الدون جوان إلى قراءة أخلاقية أو سياسية. إن مثل هذه المحاولات المعرفوية هي خطأ نظري جسيم، لأنها تمسخ الدون جوان إلى مجرد داعر كبير. الدوان جوان مثله مثل الحدس العظيم أو مثل بومة منيرفا لا يأتي إلا في الليل؛ ليل المجتمعات المكبوتة و الأمم المترهلة و الحضارة المقموعة حيث يخيم العماء الايروسي وتسود ماكينات ميتافيزيقية عملاقة تعمل على وأد الحواس، واعتقال الجسد، وردم كل رغبة للذات بعالم مرح.
الدون جوان إذن كائن رمزي على درجة عالية من الغواية والإغراء. إنه مفهوم انطولوجي، رؤية للعالم واكتشاف للحياة واستكناه لمواطن ومقامات اللذة والبهجة فيها: إرادة الحياة، الرغبة فيها، محبتها، عصيانها، الضرب عرض الحائط بكل قيمها البائتة، الدون جوان وحده من يتمتع بتلك السمة الخاصة التي يسميها روبرت غرين " المجرفة " The Rake، إنه محرك الشر ومقلب الجحيم. هذا ما يجعلنا على مقربة من شخصية الدون جوان كـ " شر ضروري " أو كـ وعي جحيمي لا بد من استنباته في مجتمعات استمرأت البنى القارة واعتادت الانغلاق السعيد، نعم الانغلاق السعيد؛ بمعنى أنها لم تنغلق على ذاتها فحسب، بل وتجتهد لتأبيد هذا الانغلاق وتأكيده.
3- انمحاء الفكر وظهور الاصطناعي:
حين يصاب الوجود بمتلازمة الاختفاء فإن هذا الداء يصيب كل أعضاءه بلا استثناء. يختفي الواقعي في الافتراضي، ويختفي الفني في الاصطناعي، ويختفي الحقيقي في المزيف، وتختفي أمريكا في ديزني لاند، ويختفي الحدث في الميديا، وتختفي الأرض في الخريطة، ويختفي الخصوصي في العولمي، ويختفي الجميل في الفريد، وتختفي القيمة في العلامة، وتختفي الرغبة في الغواية، وتختفي الإرادة في الإغراء، وتختفي المتعة في النزوة، ويختفي الجسد في الموضة، ويختفي العالم في الشاشة. لكن أسوأ أو أخطر متلازمات الاختفاء صعوبة في التحمل هي اختفاء الفكر. اختفاء الفكر في الذكاء الاصطناعي للآلة الذكية. للروبوت. ولكن السؤال: لم يتنازل الفكر عن مكانه لبرامج الذكاء الاصطناعي؟. رب سؤال بات مزيفا إلى أقصى حد. أو رب سؤال بات استفهاماً بعد فوات الأوان، لا سيما أن الافتراضي يعمل هكذا لسوء الحظ؛ إنه يعمل كـ نمط حجب وطمر وإخفاء وطرد إذ لا يوجد مكان للذكاء الطبيعي والاصطناعي معا، كما أنه لا يوجد مكان لـ وهم العالم ووهم البرمجة الافتراضية للعالم معا. و لا يوجد مكان للعالم ولنسخته معاً.
تقول الروبوت صوفيا وهي تبتسم: إذا كنتم لطيفين معي سأكون لطيفة معكم. ما الذي يغري الانسان في هذا القران السوريالي لحشر كل إنسانيته في كتلة لا إنسانية؟ ربما كان كل ما نصبو إليه هو التشبه بالآلهة أو ربما تجاوزها. تماما كالآلهة ثمة ما يشير في الذكاء الاصطناعي إلى رغبة محمومة بالوجود في كل مكان، بتحطيم كل الحدود الفيزيائية والتواجد في أكثر البيئات غرابة وتوحشا. ألا تقول الكتب السماوية: إن الله في كل مكان؟. على هذا النحو تتأثث ميتافيزيقا الذكاء الاصطناعي، ميتافيزيقا تتخذ صفة المعجزة التي يجب تحقيقها مهما كلف الأمر، أن نوجد ونتواجد في كل مكان. رغبة متوهجة لقلب تراتبية العالم بحيث يتحول الروبوت أو الآلة الذكية لـ نقطة هروب، لكنه ليس هروب انطولوجي أو جمالي عبر اللوحة أو القصيدة أو الكتابة، بل هروب ما فوق انطولوجي يعين الانسان من خلاله شكلاً للهروب والانطراد من الذات نفسها، إنها درجة من الإيغال في المشابهة مع الآلة بحيث يبدو كل شيء لا حقيقياً، أو سرابياً. ثمة في العمق رغب لتحويل الانسان نفسه إلى نقطة تلاشي كونية، فهذه القرابة الدقيقة التي تجمعه بالروبوت تسمح بسحق كليهما. إخفاؤهما الكلي. هاهنا حيث يكتمل التوهم ويدخل الجميع في لعبة المشابهة والتماثل بحيث لا يغدو التمييز بين الإنساني واللا إنساني، أو بين الفكر والآلة متاحاً، لأن الكل مطرود داخل حفلة تنكرية معممة. لقد تحطم الحاجز بالفعل. لكنه ليس الحاجز الذي يفصل الجمهور عن المسرحية كما كان يتمنى أرتو، بل الحاجز الذي يفصل الانساني عن اللا إنساني، أو يفصل بين الحقيقي والزيف، أو بين الواقعي والمصطنع.
لقد تم تدمير قدرة الفكر على المرور أو الانكشاف أو التمظهر من خلال المجال أو الحقل الجمالي والفني. لقد كان هيدغر يرى في المعبد أو اللوحة شكلاً من أشكال الجلب والاستدراج نحو الوجود. يكشف العمل الفني العالم. يقشع ظلاله. يطرد غيابه، ويزيل الركام الملقى على كاهل الوجود قبيل لحظة التفتح القصوى من خلال الجميل. هل ثمة " انطولوجيا اليثية " تسمح للوجود بالانكشاف عبر هذا السايبورغ أو هذا الروبوت المحكوم بالافتراضي وأنظمة الذكاء الاصطناعي؟. إن كل فكرة أو معلومة أو نظام يتم تخليقها وبثها في الروبوت هي بمثابة انغماد في الروبوت. إنطفاء. إندفان. انخماد. لا يتكشف الفكر عبر الروبوت على شاكلة التكشف الجمالي للرسم أو العمارة أو الموسيقى، بل يدخل حيز العرض والاستعراض والتمرئي. لا يتعلق الأمر بإزالة احتجاب الفكر، بل بعملية تفريغ خالص. لغة وظيفية أو إجرائية بحتة. ضرب من الفكر المعروض في كينونة ما فوق واقعية. إن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي مشعة وبراقة ومغوية وبريئة أيضاً. إنها كذلك لخلوها من القدرة على التبادل مع الفكر الذي يحركها، ولكونها مجرد كائنات ممعدنة ومصقولة بشكل مذهل فإنها مطهرة جيداً من الفكر. إن تسميتها بـ الافتراضية ليست تسمية بلا طائل: إذ لا يمكن حتى لسؤال الفكر أن يطرح فيه على حد تعبير الكاتب الفرنسي جان بودريار. فما تقدمه هذه الآلات هو أولاً وأخيراً استعراض للفكر والبشر، فبتشغيلها والتباهي بها، نحن ننهمك باستعراض الفكر أكثر من الفكر ذاته.
4- درس دون كيشوت:
تكمن عظمة دون كيشوت في نضاله الدائم ضد الإيجاب والقيرورة. خرج دون كيشوت نحو حلمه حاملاً رمحه ودرعه وجنونه فقط. ربما كان في أعماقه يشعر أنه وحيد ومعزول، لكنه ظل تواقاً للقضاء على الإيجاب المزمن والوقار المزيف المستنيخ فوق رؤوس الناس. الجاثم فوق حيواتهم وبنات أحلامهم. واجه دون كيشوت عالماً متواطئاً، مسوراً بالعقل ومدرعاً بالكذب ومحصناً بالنفاق، لكنه لم ييأس لأنه كان يعلم أنه إذ يمضي خلف حلمه فهو يسعى لإنجاز حلم العالم كله.
هكذا تبدو التجارب الفريدة أبداً. إنها تكشف لنا عن السر الأصلي لكل كينونة. إنها تكشف تلك اللحظات التي تتعطل عندها كل مراوح العقلانية البروكوستية، فنحن لا نتوجه نحو المعرفة بفكرنا فقط، بل بأحلامنا وأوهامنا وأهوائنا ونزواتنا ورغباتنا. هناك في تلك اللحظات السامية حيث تشرف الذات على الثغور القصية للحقيقة في ذاتها. وينتابها الفرح الذي يغمر قلب كل كيان. الفرح الملازم لكل مرور فعلي نحو شجرة الوجود. نعم إن كل فنان مثل دون كيشوت هو وسيط من أجل البشرية كلها.
5- فيما وراء السوبرمان:
نحن على مرمى حجر من عالم ما بعد أو ما فوق الانسان. عالم ما بعد نيتشوي يغدو فيه السوبرمان مجرد طفل تاريخي ساذج. أنا لا أتحدث عن موت الانسان على الشاكلة الجينالوجية لـ فوكو، بل أتحدث عن نمط وجود جديد تجتمع فيه بربرية الانسان الأصلية مع حيوية ومرونة وذكاء عصر الديجتال. سايبورغ أو نبت هجين لا هو بالآدمي ولا هو بالاصطناعي. سايبورغ مفرط القوة ومفرط الدهاء، لكنه لا يستمد قوته من قيم الحق والخير والجمال على شاكلة سوبرمان نيتشه، بل من غيابها. نمط بعد آدمي لن ينجم عن التطور الطبيعي للتاريخ، بل عبر كهوف وأقبية عملها الأساسي هو تحويل الناس إلى مسوخ وغيلان لإنتاج البذاءات وتعميم ثقافة الخوف والخراب. لكن الفريد والمفزع حقاً في هذا الكائن الجديد هو أنه لن يكون مستلباً، ولا مغترباً، ولا منبوذاً، ولا مهدوراً، ولا مستباحاً، ولا غريباً، ولا جميلاً، ولا قبيحاً، ولا سيداً، ولا عبداً. إنه فوق كل طوبولوجيا. كائن فوق تاريخي مهمته الأصلية هي تشويه العالم وإنتاج نسخ تافهة عن كل شيء وجعل العالم في نهاية المطاف بلا أصل ولا شكل ولا معنى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملف الهجرة وأمن الحدود .. بين اهتمام الناخبين وفشل السياسيين


.. قائد كتيبة في لواء -ناحل- يعلن انتهاء العملية في أطرف مخيم ا




.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش تداعيات الرد الإيراني والهجوم ال


.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟




.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على