الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تورغينيف وعصره/ القسم الثاني

دلور ميقري

2018 / 11 / 10
الادب والفن


3
" كان تورغينيف طويل القامة، عريض المنكبين، متين البنيان، ولكن دون بدانة، بل عملاق حقيقي له حركات طفل متهيبة وحذرة. وكان صوته ناعماً جداً وذابلاً بعض الشيء. ان هذا الروائي العبقري الذي جال العالم كله، وعرف أعاظم الناس في عصره، وقرأ كل ما يمكن أن يقرأه الإنسان، وكان يتحدث بكل لغات أوروبا بنفس الطلاقة التي يتكلم فيها بلغته القومية ـ كان ساذجاً بشكل لا يصدق في واقع الحال، وكانت تدهشه وتحيره أشياء كانت تبدو لأي تلميذ في باريس مفهومة تماماً "، هكذا وصِفَ تورغينيف من لدُن صديقه الفرنسيّ غي دي موباسان. (1)
مثلما علمنا، كانت صلة الكاتب الروسيّ بفرنسا تعود إلى مرحلة مبكرة من حياته. هنالك في باريس، في فترة نضوجه الأدبيّ، تعرّف تورغينيف على الحلقة الملتفة حول الروائي الفرنسيّ الكبير، غوستاف فلوبير. ثم أنضم بنفسه إلى الحلقة، التي كانت تجتمع كل شهر مرة فيما عُرف ب " عشاءات فلوبير ". في منزل هذا الأخير، تعززت علاقة الكاتب الروسيّ مع زولا، جونكور، دي موسيه ودي موباسان. إجادته للفرنسية، جعلت بعضهم يتساءل عن عدم قيامه بنفسه على ترجمة أعماله إليها.
في عاصمة النور، وفي أرقى أحيائها، كان يقوم قصر مغنية الأوبرا الشهيرة في عصرها، فياردو غارسيا. هنالك كان يقيم تورغينيف، المرتبط بصداقة قديمة وعميقة مع المغنية وأسرتها. عشقه للموسيقى، تجلى في العديد من رواياته وقصصه وخواطره النثرية. ذلك كان على خلاف معظم كتّاب عصره، الذين كانوا مهتمين بفن الرسم ويعقدون أوثق العلاقات مع أساطينه. شغف تورغينيف بالألحان، ربما مبعثه نشأته في الريف، ثمة أين كان ينصت بمتعة إلى موسيقى خرير الجداول وحفيف الأشجار وتغريد الطيور وحفيف السنابل. وسنعود لاحقاً إلى تأثير الريف في أدبه.
في مكان آخر، كنا قد لاحظنا ميل تورغينيف إلى كل ما يتصل بفرنسا، ثقافةً وحضارة وأسلوب حياة. لم يكن ذلك فقط بسبب إجادته للغة الغاليين؛ هوَ من كان يتقن أيضاً عدداً آخر من اللغات الأوروبية. فيما أنّ دستويفسكي، ندّه الأدبي اللدود، كان ميالاً إلى الثقافة الألمانية ويكره الفرنسيين؛ وهذا يبدو واضحاً في بعض رواياته، مثل " الأبله " و" المقامر ". بينما مقت تورغينيف للألمان، في المقابل، يتجلى في روايتين على الأقل تجري وقائعهما في بلاد الجرمان: " فيوض الربيع " و" الدخان " علاوة على بعض قصصه الطويلة، مثل " في عمق اليم ".
تورغينيف، كان يكبُر بثلاث سنوات ندّه الأدبيّ، دستويفسكي. جدير بالتنويه، كيفَ حقق كلاهما مجده منذ صدور كتابه الأول. وكذلك، ما تعرض له كلاهما من عسف السلطات بسبب موقفه من النظام القائم على القنانة وكبت حرية الرأي. حينما نشرَ الند القادم من موسكو باكورةَ رواياته، " المساكين "، فإن تورغينيف استقبلها بحماس وأنشأ فوراً علاقة شخصية مع مؤلفها. في ذلك الوقت، وفي العاصمة القيصرية بطرسبورغ، كان يشق طريقه باطمئنان، ايفانُ الشاب المنتمي للوسط الأرستقراطيّ. بيدَ أن ذلك لم يتحقق لصديقه، إلا بعدما أجتازَ محنة رهيبة كلفته عقدٍ كامل من أعوام عُمره.
أعتقل دستويفسكي بتهمة الانضمام لحلقة ثورية، وذلك بعد صدور روايته الأولى بثلاث سنوات. عقبَ عودته إلى بطرسبورغ من مكان اعتقاله، ثمة في المنفى السيبيري، وجد دستويفسكي أبوابَ معظم من كانوا أصدقائه مقفلة بوجهه. كان تورغينيف أحدهم، ولعله أتخذ هذا الموقف حيطةً وحذراً تجاه زميل عُرف بآرائه المعارضة والتي أدت به إلى السجن والأشغال الشاقة والمنفى. إلا أنّ هذا الأخير، ما كان قد صارَ بعدُ نداً لتورغينيف. العمل الوحيد، " ذكريات من بيت الموتى "، الذي نشره دستويفسكي بعيد انتهاء عقوبته، أرجعَ له بعضاً من تألق زمن الصبا. بينما روايات المستقبل، العظمى، كانت تنتظرُ أعواماً ضافية من النضوج والتجارب.

(1) ايفان تورغينيف، الأعمال المختارة في خمس مجلدات ـ الطبعة العربية في موسكو 1985

> للبحث صلة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-


.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ




.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ


.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني




.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق