الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فكرة الدين عند كانط

احمد زكرد

2018 / 11 / 10
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يعتبر "كانط" –الذي عاش في وسط مليء بالتوتر- من أكثر الفلاسفة الذين عنوا بالجانب الأخلاقي، وكرس كل جهده من أجل إحلال السلام في العالم باعتباره هو الأصل من خلال النصوص الدينية التي تدعم هذا الاتجاه، لذلك فكانط واحد من أوائل من نادوا بضرورة أن يكون الدين هو الدافع الأساسي لإحلال السلام بين البشر من خلال منظومته الأخلاقية. خاصة وأن هذه الفكرة كانت أساسية عند "كانط"، نظرا للواقع المرير الذي ظهر في أوروبا من هيمنة الكنيسة، هذا ما أدى إلى تعرض الفلاسفة والمفكرين للتنكيل عندما رفعوا أصواتهم مدافعين على إعمال العقل ومطالبين بحريته في التفكير، وكل هذه الأحداث عملت على أن يكون اللاهوت أصوليا؛ بمعنى أن يكون أكثر تشددا ضد معارضيه.
هذا ما أفضى إلى "كانط" تكريس كل جهوده نحو تثبت تلك القيمة الأخلاقية الكبرى المنبثقة من الأديان، مع إعمال العقل من أجل ترسيخها كواقع. وبعد أن عبر "كانط" أشواط كثيرة وأخذ مواقف جبارة في دعواه لانفصال الدين عن الأخلاق. فهذه الثورة قد حملت العقل من هيمنة الكنيسة إلى اتخاذ المسؤولية الذاتية اتجاه كل المسائل التي تهم الإنسان. وبالتالي فإن عصر الحداثة الكانطية قد أعاد للإنسان إنسانيته، وأقر بأن الإنسان ازدواج بين الجسد والعقل. ووضح "كانط" العلاقة بين الدين والعقل في فلسفة الأنوار، حينما جعل الدين تابع للأخلاق. ولكن فقد ظلت الصلة بين الدين والأخلاق تتخذ طابعا إشكاليا، إذ يبدو الدين في منظور الإنسان الحديث مجالا للقهر وتحميل الطبيعة البشرية ما لا تطيق. وهذا ما مهد لدعوة فصل الدين عن الأخلاق. من أجل الصيرورة النقدية التي قام بها "كانط"، وبعد هذا الفصل أسس الأخلاق على العقل، فلم تعد الإنسانية قطيع تقوم على رعاية الكنيسة، بل جعل الإنسانية هي المشرع الأخلاقي، وجعل الدين قائم على المشروعية الأخلاقية؛ أي قائم على أساس أخلاقي . وبحكم أن "كانط" قد تلقى تربية دينية بروتستانتية، جعلته يمجد الواجب لأنه كان الفكرة المحورية في ديانة البروتستانتية، فقد تميزت حياة "كانط" بالتقيد الصارم بالواجب. فتتلخص نظرية الأخلاقية الكانطية بأنها دعوى إلى تأدية للواجب كغاية في ذاته؛ أي لا شيء سوى كونه واجبا.
لكن هل يجوز أن يضحي الإنسان بكل شيء من أجل الواجب؟ فكانط يبرر ذلك بالسعادة، ويقصد تلك التي تتحقق في الحياة الثانية. وهكذا يجد "كانط" طريقا آخر؛ من الواجب إلى الله أي من الأخلاق إلى الدين ، ففي مستهل كتابه (الدين في حدود مجرد العقل) يقول: «الأخلاق نظرا إلى أنها مبنية على مفهوم الإنسان ككائن حر يخضع، بما هو كذلك وبواسطة عقله لقوانين لا مشروطة، لا تحتاج إلى فكرة كائن آخر متعال على الإنسان، لكي يعرف واجباته، وتحتاج إلى وازع مغاير للقانون ذاته، كي ينفذه» ؛ ومعنى هذا أن الأخلاق ليست في حاجة إلى الدين من أجل قيامها بل لابد من اعتبارها مكتفية بذاتها بمقتضى طبيعة العقل العملي نفسه. فكانط يرفض تأسيس الأخلاق على الدين، في حين يذهب إلى الإقرار بالعكس من ذلك، وهو تأسيسه للدين على الأخلاق . لأن أي أخلاق انبنت على أوامر شرطية ولو أنها أوامر إلهية، فهي أخلاق ناقصة، هذا ما أدى بكانط لتأسيس الدين على الأخلاق.
ففكرة الدين عند "كانط" تبدأ بالمسلمات العقل العملي التي هي (الله، الحرية، وخلود النفس) وبالتالي فإن الأخلاق الكانطية تنبني على حقائق معينة لا يمكن البرهنة عنها ميتافيزيقا، وبفضل هذه المسلمات فالعقل الأخلاقي يقود إلى الدين «أي الاعتراف بجميع الواجبات كأوامر إلهية» .
منه يتجلى لنا دور الدين في الأخلاق « ...وذلك بأن الأمل بالسعادة يبدأ أولا بالدين فقط» ، غير أن نظرة "كانط" إلى الدين على أنه أخلاق لا تعنى إنكار وجود الله وإحلال بديل كالإنسانية محله وإعلان الأخلاق دينا، إلا أن "كانط" نفسه لا يمارس الطقوس الدينية ولا الصلوات. بل إنه اعتبر الدين الصحيح هو الحياة الأخلاقية التي تبلغ دورتها في تأدية الواجب والتضحية بكل شيء في سبيله لأنه واجب ، وهذا من أجل بلوغ السعادة الأبدية.
ففكرة الدين عند "كانط" لم تكن مقتصرة على دين معين، بل إنه ينادي إلى دين كوني أو بالأحرى إلى الدين الطبيعي، فإذا كان الدين في العصور الوسطى يعنى بالبرهنة الفلسفية على وجود الله، فمع "كانط" افترض وجود الله ضرورة للحياة الأخلاقية والعملية. فسوف يقدم "كانط" الإجابة في فلسفة الأنوار، حيث جعل الدين تابعا للأخلاق بمعنى أن الأخلاق هي التي تؤدي إلى الدين كما سلف الذكر. فكانط في كتابه (الدين في حدود مجرد العقل)، يعتبر دين الحق هو الدين الخالي من الصلاة لأنه يعتبر أن الصلاة هي نفاق، لأن الإنسان يتمثل الله كموضوع حسي، في الوقت الذي هو مبدأ عقلي . فالدين عند "كانط" ليس عقيدة نظرية، بل هو فعل خلقي باطني أو عبادة روحية خالصة، فيضع الإيمان الأخلاقي في منزلة أرفع من العقائد والطقوس الشكلية أو العبادات الخارجية، فيقول في هذا الصدد «إن كل ما قد يتوهم الإنسان أنه يستطيع عن طريقه أن يكسب رضاء الله –فيما عدا اتخاذ مسلك أخلاقي طيب في حياته- إنما هو محض هذاء ديني أو مجرد عبادة زائفة لله» ، وإذا كانت الصلاة خارجة عن التدين –حسب كانط- فإن الطقوس كلها أيضا تفقد معناها، وحتى الزهد ذاته عبادة يعتبرها "كانط" جنونا وهذيان. فالطقوس إذن ليست إلا تعبيرا عن أوهام ذاتية، لأن الإنسان يجد لذة في تقدير الآخرين له والثناء عليه. في حين أن الدين الاخلاقي ليس بالضرورة ان يكون دين طقوس و شعائر وعبادات، بل الدين الحقيقي هو ذلك الدين القادر على تدعيم ذاته على مجموعة من الأسس والقواعد العقلية، وهذا يعني عند "كانط" أن الإيمان العقلي لا يقوم على الشعائر والطقوس وإنما يقوم على الأخلاق، والدين الواحد هو دين الأخلاق الذي يعلن عن قيام ملكوت الله، لأن الإيمان الديني هو الإيمان الشامل القائم على العقل، وهو الوحيد الذي يؤدي إلى النعيم الأبدي؛ (السعادة الخالدة). وقد نادى "كانط" بين التوفيق بين جميع العقائد في دين واحد وهو دين أخلاقي. ويقول في حمايته للدين الأخلاقي أنه لا يحتاج إلى رقابة، لأنه يصدر عن حرية الفكر، على عكس الدين اللاهوتي الذي يحتاج إلى رقابة رجال اللاهوت. فكانط يعتبر الدين التاريخي هو الوحي، ويقول في هذا الصدد «الوحي يمكن من دون شك أن يحتوي في ذاته الدين العقلي الخالص، لكن هذا الاخير لا يستطيع ان يحتوي في ذاته الشكل التاريخي للوحي» ، في هذه الحالة يصبح الوحي مجرد تصورات خلقية يقترب من الدين الفلسفي فتصبح الأخلاق عند "كانط" هي رابط بين الدين الفلسفي (العقلي) والوحي التاريخي.
إذا كان "كانط" في سبيل تأسيسه للأخلاق التي تنبني على العقل وتربط بين الدين العقلي والدين التاريخي، فإنه قام بتحديد مفهوم اللاهوت باعتبار أن الدين هو المحرك الأساسي لتأسيس الأخلاق ولذلك نجده قد ميز بين اللاهوت العقلي واللاهوت التاريخي حيث أن معرفة الموجود الأول في اللاهوت العقلي مؤسس على العقل، بينما معرفة الموجود الأول في اللاهوت التاريخي إنما تقوم على الوحي الخارجي.
كما قلنا أن الدين الأخلاقي هو دين نقي، دين داخلي، يخلو من كل الطقوس والشعائر والاحتفالات، ولا يقوم على العبادات ولا المعجزات لكنه يقوم على استعداد العقل، ليحقق الإنسان كل واجباته الإنسانية بوصفها أوامر إلهية، فالدين عندما يؤسس على استعداد أخلاقي، ليس من الضروري أن يكون محلى بالمعجزات والطقوس والشعائر. لأن دين الحق يدعم ذاته على أسس عقلية ، ويدفع الإرادة نحو العمل على تحمل المسؤوليات الإنسانية نحو لآخر من البشر باعتبار هذا الواجب هو أمر إلهي. وتعتبر هي قوام الدين حيث يقول "كانط" قوام كل دين الحق يدعم ذاته على أسس عقلية، ويدفع الإرادة نحو العمل على تحمل المسؤوليات الإنسانية نحو لآخر من البشر باعتبار هذا الواجب هو أمر إلهي، ويعتبر هي قوام الدين حيث يقول "كانط": « قوام كل دين اعتبار الله في كل واجباتنا المشترع الواجب احترامه» .
إذن فكانط ينتقد العبادة المشروطة، فنحن لا نعبد الله بالكلمات والاحتفالات ولكن عبادته يجب أن تكون بالأفعال أي بممارسة فعل الخير ولا يمكن اعتباره خدمة خاصة لله، بل هو دين إنساني بين الإنسان والإنسان فهو قانون ملزم لكل الإنسانية، ومشرع من الإرادة الإلهية المنقوشة في قلوب الأفراد، وبالتالي فإن الأخلاق الكانطية هي وليدة الضمير الإنساني العام أو العقل البشري قاطبة في كل زمان ومكان ؛ ومنه يمكن اعتبار "كانط" قام بنقد للاهوت التاريخي بغية الوصول إلى اللاهوت الأخلاقي، وذلك لما خلفه اللاهوت التاريخي من حروب دموية، لأن الاختلاف بين الديانات يولد الصراع؛ فكما يقول "كانط": « الحروب التي هزت العالم وأدمت جراحه لم يكن لديها شيء إلا صراع العقائد الدينية» . فمن أجل الابتعاد عن الصراع بين هذه الأديان، ينحو "كانط" بالنقد الممارسة العملية للدين، فإن الدين الصحيح عند "كانط" هو دين العقل وهو لا يحتوي إلا على قوانين ومبادئ عملية نثق بها، ويوحي لنا بها العقل وحده.
منه فإن "كانط" قد أسس لدين واحد، وهو دين العقل واعتبر كل الأديان الأخرى فقط هي مجرد عقائد التي يشملها الدين العقلي وهذا من أجل التوفيق بين جميع هذه العقائد –حسب قول كانط- في دين واحد، فالعقائد تختلف فيما بينها في اللاهوت والعبادات والشعائر والطقوس، أما الدين فواحد وهو الدين الخلقي .
فكانط يقول أنه «ليس هناك سوى دين حقيقي واحد ولكن من الممكن أن تكون هناك أشكال متعددة من العقائد الدينية» . وطبقا لهذا يتضح لنا أن اليهودية والمسيحية والإسلام ليست ديانات، بل هي تعبير عن أنواع مختلفة من العقائد، حيث أنه لا يمكن أن يكون إلا دين واحد موجود لجميع البشرية في كل زمان ومكان ومعاصر للجنس البشري، ويجب على الإنسان الابتعاد عن العصبية والذاتية.
كما يقول "كانط" «الوهم والتعصب الديني هو الموت الأخلاقي للعقل وبدون العقل لا يكون هناك دين ممكن» ؛ فالمتعصب يرى أن الحقيقة المطلقة هي في معتقده، أي تكون مبنية على فكرة (الدوجماطيقا)، ومن خلال هذه الرؤية الذاتية المتعصبة لا يكون أمام المتعصب سوى الإرهاب والحرب من أجل الطمس والسيطرة على الآخر المخالف له. وبالإضافة إلى التعصب فحتى بنية تلك العقائد من الداخل هي التي تدفع البشر نحو الحرب باعتبار أن هذه العقائد تنبني مبدأ الدوجما، وفي ظل هذا الإيمان الدوجماطيقي المتعصب، يستحيل إحلال السلام إلا بالرجوع إلى العقل كمبدأ للدين الكوني. ومعنى هذا أن في وجود الدين الأخلاقي يكون السلام وفي غيابه يمتنع السلام، وبالتالي فتحقيق السلام في تلازم ضروري مع تحقيق الواجب الأخلاقي، والانصياع إلى القانون الأخلاقي الذي يكمن في ذواتنا، وهو الذي يشرع القانون داخلنا. وهذه القوانين يجب التعامل معها واعتبارها أوامر للموجود الأسمى من خلال العقل العملي، وهكذا نرى "كانط" قد أقام الدين كله على أساس الواجب والأمر المطلق، وعلى مفهوم الإرادة الإلهية وفقا للقانون الأخلاقي الذي يسمح بالتفكير في دين واحد، وهو الدين الأخلاقي، وهو في علاقة قوية مع العقل فهو أيضا مؤسس على الوحي الداخلي، وحي من الله إلى الإنسان؛ فيقول "كانط" في هذا الصدد: «بل إن ما علينا من واجب هنا (أي توحيد الجنس البشري) هو واجب من الجنس البشري تجاه ذاته. لأن أعضاء الجنس البشري كموجودات عاقلة هي بالعقل متجهة لهدف اجتماعي عام، هو التقدم والترقي إلى الخير الأقصى الأخلاقي كخير اجتماعي، والخير الأقصى الأخلاقي كخير اجتماعي لا يمكن تحقيقه بمجرد بذل جهود المفرد نحو كماله الأخلاقي الخاص» ، وبالتالي فمصير الجنس البشري يتوقف على تحقيق كماله الأخلاقي الأسمى. فتلك هي الغاية العامة للجنس البشري وفي تحقيقها يتحقق السلام بالضرورة فيقول "كانط" إذا كان الله قد أعطى كل فرد جزءا من السعادة فليس بعطاء الإرادة الإلهية فقط نكون سعداء، بل يجب أن نجعل أنفسنا مستحقين للسعادة. فهذه الأخلاق الحقة، والكمال الأخلاقي الحق أو الأسمى أن نعمل من أجل السلام لنكون مستحقين السلام، إذن فيمكن القول أن الأخلاق هي مبدأ للسعادة لأنها تحمل في ذاتها الأمل لكن في الوقت نفسه علينا أن ندرك أن سعادة البشر هي في أيدي البشر. ولا يمكن أن يبلغ هذه السعادة إلا إذا جمع بين الجسد والروح، فالجسد بمتطلباته الغذائية والروح بمتطلباتها النفسية. ليس في استطاعة المرء أن يعيش دون أن يكون لديه شيء ليعبده. أي دون أن يؤمن بأية عقيدة من العقائد أو دين بعينه. والإنسان السعيد الفاضل في نظر "كانط" هو ذلك الشخص الذي يستطيع أن يحقق في نفسه التوافق التدريجي اللازم بين العالم الحسي وقوانين العالم العقلي، أو بين النظام الطبيعي والنظام الأخلاقي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد


.. يديعوت أحرونوت: أميركا قد تتراجع عن فرض عقوبات ضد -نتساح يهو




.. الأرجنتين تلاحق وزيرا إيرانيا بتهمة تفجير مركز يهودي