الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثورة أكتوبر العظمى ومهمة البناء الاشتراكي

وديع السرغيني

2018 / 11 / 12
ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا


ثورة أكتوبر العظمى ومهمة البناء الاشتراكي

وهي ذكرى من أجمل الذكريات وأعظمها في التاريخ المعاصر والتي تستحق التخليد، والتذكير بها، ثم الاحتفاء الضروري بإنجازاتها.. لما للعملية من وقع مهم في نفوس عموم مكونات الحركة الاشتراكية المخلصة لهذا الحدث وهذا المنعطف التاريخي العظيم.
فثورة أكتوبر الروسية تعد أول تجربة ثورية عمالية ناجحة في عصرنا الرأسمالي الحديث، بعد المحاولة الأولى للعمال الباريسيين، الفاشلة، من خلال بلدية باريس التي سيطرت عليها الجماهير العمالية بقيادة الثوار الشيوعيين والفوضويين.. تجربة سقطت سريعا، وانهارت بعد عمر قصير لم يتعدى الثلاثة أشهر، بسبب من أخطائها وضعف قادتها، وكذلك بسبب من قصورها في تقدير أهمية التحالف مع الفلاحين الفقراء، وكذا بازدراء وتبخيس لقدرات العدو البرجوازي المتربص..الخ وعلى العكس من هذا، تعتبر ثورة أكتوبر أول تجربة ناجحة بامتياز، ثورة شعبية بقيادة عمالية محنكة، استفادت من المد الثوري العمالي العالمي، وغدّته في نفس الوقت، مؤججة الصراع الطبقي في عموم الغرب الأوربي لأقصى درجاته، ومبرزة دور الطبقة العاملة في الصراع، وأهمية رسالتها التاريخية وتوصياتها السديدة، وثقتها المطلقة في قدرات الطبقة العاملة وأهليتها لقيادة عموم الكادحين والمحرومين خلال هذا الصراع، على أساس من التحالف مع جميع فقراء وكادحي المجتمع الروسي حينها، وسط المدن وفي جميع أرجاء البادية الروسية.. حيث كان لا بد من انتهاج هذا التحالف خدمة للثورة ولمصالحها، وتأكيدا على مهمة البناء الاشتراكي وعلى أرضيته الصلبة.
لقد أثبتت الثورة قدرتها على البناء والتسيير الاقتصادي الاشتراكيين، وعززت الثقة في قدرات القادة العماليين في صفوف الحركة الاشتراكية الذين ظلوا مخلصين لمصالح الطبقة العاملة وعموم الكادحين والمحرومين، وشجّعت العديد منهم على تأسيس الأحزاب الاشتراكية من الطراز البلشفي اللينيني، محذرة إيّاهم من النسخ الكاربونية الرديئة التي حاولت الاقتصار على قطف وانتزاع بعض التكتيكات والشعارات البلشفية عن سياقاتها وفي غياب شروطها الأدنى، متخلية عن الجوهر الثوري الاشتراكي، أو في المقابل وعلى العكس من هذا، الاكتفاء بالدعوة والتغني بالثورة الاشتراكية دون الخوض في متطلباتها اليومية، أي بما تستلزمه من صراع اقتصادي وسياسي واجتماعي ميداني، مبدئي وصادق، يقبل بالتحالفات والتنازلات و"المساومات" حتى.. دون أن يفرط في هويته وإستراتيجيته الثورية الاشتراكية.
فعلى الرغم من التعثرات التي واجهت مسار الثورة الروسية، ظلت ثورة أكتوبر نبراسا ملهما في تاريخ الحركة الاشتراكية العالمية، وبقيت لحد اللحظة سراجا منيرا للعديد من الحركات الثورية المناضلة من أجل القضاء النهائي على الرأسمالية، وعلى الملكية الفردية والخاصة.
فما هي إذن الدروس التي يمكن استخلاصها من نجاح هذه الثورة العظيمة؟ وهو سؤال وجيه، والإجابة عنه تكون أكثر وجاهة، وستفيد لا محالة جميع المناضلين الثوريين المغاربة الرافضين والمناهضين للأوضاع القائمة المختلة، والتي لا تساعد سوى على توسيع وتعميق الهوة بين الأغنياء المستفيدين من هذا الاختلال، وبين الفقراء، العمال والشغيلة وسائر الكادحين المحرومين، وهم من يشكل السواد الأعظم من مجتمعنا المضطهد والمقهور، والضحية المباشرة لهذا الاختلال.. وعلى هذا الأساس، نعتقد أن من بين أهم الدروس التي يجب استحضارها خلال هذه المناسبة العظيمة، هي قوة التنظيم وانسجامه مع أهداف الثورة ومع المعنيين بالثورة، ثم مع الطليعة التي لها دور قيادة الثورة وتوجيهها نحو النصر.
فالثورة الروسية لها جذور في عمق التاريخ، قبل أن تتخذ شكلها البلشفي، حيث عرفت المنعرجات، والهزّات، والصراعات الفكرية والسياسية والتنظيمية.. معاناة جربت خلالها جميع الأساليب والاجتهادات، من الفوضوية والتآمرية، ثم الاشتراكية بجميع اتجاهاتها.. وهو معطى أساسي وجب أخذه بعين الاعتبار، فقوة التنظيم التي رافقت مسلسل الثورة الناجح إلى آخر حلقاته والتي لم تكن سوى تسلم الطبقة العاملة للسلطة السياسية، المجسّدة في الحزب البلشفي ومجالس العمال والجنود وصغار الفلاحين..الخ بما يعني أن الطبقة العاملة كان لها دورها الحاسم في مسار هذه الثورة الناجحة.
لقد كان التنظيم بمثابة المفتاح السحري لكل تعقيدات الثورة، كان بمثابة الأرضية الصلبة التي ساعدت الحزب في انطلاقته، وفي تجسيد أفكاره وبرامجه وطموحاته النابعة من هموم الجماهير الشعبية الكادحة والمحرومة.. وفي هذا السياق خاض المناضلون البلاشفة العديد من النقاشات حول أهمية التنظيم وعاصروا العديد من الصراعات حول نوعية التنظيم، وأسلوب التنظيم، ومهام التنظيم.. بالإضافة للطبقة الاجتماعية التي يجب أن يرتكز عليها التنظيم ويدافع عن مصالحها.
فمن داخل الحركة الثورية الاشتراكية، برز الحزب البلشفي كجناح ممثل للطبقة العاملة، وكمدافع صريح عن الثورة الاشتراكية، التي باتت ملوحة في الأفق الروسي، الذي كان يعيش غليانا، اجتماعيا غير مسبوق، وانتفاضات متتالية خاضتها الطبقة العاملة وعموم الكادحين وفقراء الفلاحين والمعطلين.. إذ لم يكن البلاشفة وحدهم مناضلين من أجل التغيير الاشتراكي، ولم يكن لهم السبق كذلك في الدعوة للثورة والمطالبة بتغيير النظام القيصري المطلق.
كان الحزب البلشفي بمثابة عصارة لجميع التجارب الثورية التي تركت بصمتها بادية في جسم التجربة التحررية الروسية.. بحيث ضمت الحركة الثورية في صفوفها جميع الاتجاهات، الفوضوية والمغامراتية والإرهابية.. إلى جانب مجمل التيارات الاشتراكية، والتي تميز ضمنها الحزب البلشفي بعمقه الطبقي، وبتكتيكاته السديدة، وبتحالفاته المتينة، وبوضوح برنامجه الذي كان بمثابة الدرس البليغ، المتفوق والمتوازن في ضبط التكتيك الملائم، والذي لم يفرّط قط في إستراتيجية الحزب الاشتراكية الثورية.
لقد نضج الحزب وتقوّى عوده وتصلـّب، بعد مسار نضالي طويل وعسير، ولم يتخذ هويته البلشفية اللينينية إلاّ بعد نقاشات وصراعات فكرية وسياسية ومؤتمرات حزبية هامة، وتطوره من مجرد تيار داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى حزب قائم الذات له هويته الطبقية الخاصة، المرتبطة أشد الارتباط بالطبقة العاملة وبمشروعها المجتمعي، وله أيضا مواقفه وأفكاره وتصوره للنضال في مجمل مجالات الصراع الطبقي.
برزت الاختلالات خلال المؤتمر الثاني للحزب الاشتراكي الديمقراطي، لينشق الحزب إلى كتلتين عكست تصورين متناقضين للعمل الحزبي وللنضال الاشتراكي، كتلة الأغلبية أي البلاشفة، وكتلة الأقلية وهم المناشفة، حيث حصل التعارض عبر الإعلان عن المؤتمر الثالث الذي استقطب البلاشفة لوحدهم، وقاطعه المناشفة ليعوضوه بندوة موازية في نفس التاريخ، حيث كان الحزب وفيّا لمبدأ الصراع وتنظيف الحزب سياسيا وفكريا وتنظيميا.. إذ لا غرابة في أن يعرف المجال حينها غزارة في الإنتاج والتنظير من هذا الاتجاه أو ذاك، من طرف القياديين والزعماء.. فكانت مساهمة لينين حينها بيّنة وواضحة، واتخذ رفاقه وأنصاره منذ تلك اللحظة لقب اللينينيين، بل ومنهم من نال شرف لقب "هراوة لينين" إبّان هذه المحطة التنظيمية بالذات، حين اشتد الصراع حول دستور الحزب، وشروط الانخراط في صفوفه، والالتزام ببرنامج الثورة التكتيكي والإستراتيجي..الخ
فعبر عملية الانشقاق هذه تمكن الحزب من تطهير صفوفه، مستقلا عن خصومه المترددين والانتهازيين، الذين لم يبخلوا عن مساندة ودعم كل الأصناف العفوية والاقتصادوية الانتهازية.. ولم يتردد البلاشفة حينها عن المضي قدما نحو بناء الحزب الصلب، وتقوية صحافته، بناءا على الخلاصات اللينينية، التي زخرت بها مؤلفات هذا القائد الماركسي الفذ، من قبيل برنامجنا، بم نبدأ؟، رسالة إلى رفيق، ما العمل؟، وخطوتان، ثم خطتان، فيما بعد.. والتي كانت متميزة، متتبعة ومتفحصة لجميع النواقص والثغرات التي عرفتها عملية البناء الحزبي في صفوف الحركة الاشتراكية.. حينها أطلق الرفيق لينين العنان، وبإسهاب، لمعالجة معضلة العفوية في مقابل الصلابة التنظيمية، والتأكيد على شرط الوعي الاشتراكي الذي يجب أن يتمتع به جميع أعضاء الحزب، إضافة لامتلاك البرنامج والخطة والتكتيك لتنفيذه.. كشروط مرافقة لبناء التنظيم، الذي يجب توظيف جميع إمكانياته وقدراته خدمة لمهمة التغيير والثورة الاشتراكية، ولمصلحة العمال وفقراء الفلاحين وعموم الكادحين.
هذا البناء التنظيمي، وهذا الوضوح الفكري هو من ساهم، إلى جانب أمور أخرى، في نجاح وإنجاح الثورة الاشتراكية العظمى بروسيا، بعد أن ربح البلاشفة العديد من المعارك والحروب الفكرية والسياسية والتنظيمية، وبعد أن تغلبوا على أخطر التيارات الانتهازية في صفوف الحركة الاشتراكية، ألا وهو التيار الاقتصادوي صاحب نظرية "الحركة هي كل شيء، أما الهدف النهائي فلا شيء" الذي بخـّس من قيمة الهدف النهائي، والذي ليس سوى القضاء على الرأسمالية، وبناء الاشتراكية، معوضا هذه الإستراتيجية بالتركيز على النضال الاقتصادي بشكل ضيق ومهزوز. كانت روسيا لحظتذاك كغيرها من عديد البلدان، متخلفة عن الركب الحضاري الذي تميز به الغرب الأوربي باعتباره مهدا للرأسمالية ومستقبلها وتربتها الأصلية.. حيث ظلت حضنا ومعقلا لنظام قروسطي استبدادي يعيش مرحلة تطوره وانتقاله البطيئة، من حالة الإقطاع إلى الحالة الرأسمالية، المعاقة بوجود هذا الحكم القيصري المطلق.. وهو الشيء الذي فرض على الثورة الروسية منذ انطلاقتها الأولى البحث عن التكتيكات الملائمة للإطاحة بالنظام والقضاء على الاستبداد، اعتمادا على حد أدنى لا يمس جوهر الرأسمالية كنظام اقتصادي يعتمد على الاستغلال في حق الطبقة العاملة، وعلى الربح والتربح لتعزيز وضعه الطبقي وحالته الاجتماعية.. بل ينطلق من أساسها لتطويرها وتعميقها من أجل تجاوزها وتقويضها فيما بعد.
حينها بادر الحزب البلشفي لعقد التحالفات اللازمة، مع مجمل الأحزاب الثورية، الممثلة للبرجوازية والبرجوازية الصغيرة العمالية والفلاحية، بهدف خوض ثورة ديمقراطية برجوازية تقضي على الاستبداد، وتنتصر للديمقراطية والحريات وتؤسس للجمهورية، خلال فترة تميزت بتأجيج وتصاعد النضال الطبقي والجماهيري في الشوارع، وبتفاقم المذابح القيصرية ـ دجنبر 1905 ـ واحتداد الصراع السياسي حول طبيعة الديمقراطية المنشودة ـ دوما بولكين ـ الذي قاطعه البلاشفة بقوة، وبقناعة، وحزم، ووعي.. حيث لم يكتف الحزب بالمقاطعة السلبية التي ما زالت منتشرة وسائدة في صفوف اليسار المغربي بل قدم البديل للأوضاع القائمة حينها، داعيا للثورة، ولتشكيل الحكومة المؤقتة، ولمشاركة القوى الاشتراكية في هذه المهمة الجمهورية، إلى جانب جميع مكونات الحركة الثورية الأخرى.
خلال هذه الفترة الثورية والتي دامت حوالي الثلاثة سنوات، أي من سنة 1905 إلى حدود سنة 1908، تفتقت العبقرية اللينينية وتدفق الإنتاج الفكري اللينيني بإسهاب مشهود له لحد الآن والساعة.. مما ساعد الحزب على خوض الصراع، واتخاذ المواقف السياسية اللازمة والسليمة والواضحة بجلاء.. فالتوضيح الذي قدّمه الرفيق في مؤلفه الضخم والغني عن البيان، الذي دفعه للتصريح بأن هناك "خطتان" لتغيير الأوضاع، وللظفر بالحرية ولتحقيق الجمهورية، ووضع الحد للاستبداد القيصري القروسطي.. خطتان في تصور الحركة الاشتراكية الديمقراطية الثورية، لم يتأخر عن عرضها بكل تفصيل وتدقيق، مناصرا خلالها خطة المشاركة الإيجابية في صفوف الثورة، إلى جانب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة الثوريتين، عوض التقاعس الرفضوي الذي أبداه المناشفة، معللين ذلك بأن الثورة الديمقراطية ثورة برجوازية في عمقها، ولا تهم بالتالي الطبقة العاملة في أي شيء.!
قدم البلاشفة لحظتذاك تصورهم للثورة وما يلزمها من تحالفات سياسية وطبقية وجب تجسيدها على الأرض، وشرح الرفيق بما يكفي من الجهد والوضوح طبيعة هذه الثورة الديمقراطية باعتبارها ثورة في عمقها ومضمونها برجوازية، لكنها أصبحت مهمة بروليتارية، بالنظر لتخاذل الجزء الكبير من الطبقة البرجوازية، وتنازلها عن مهامها الثورية في الإطاحة بالاستبداد وتقويض جميع الأنظمة القروسطية المطلقة.
على هذا الأساس دافع البلاشفة عن برنامج الحد الأدنى هذا، معتبرينه محطة أساسية وفاتحة طريق نحو الأفق الاشتراكي المنشود، ولم يتردد حينها الزعيم البلشفي لينين عن الإعلان بأن النظام القيصري المطلق يشكل أخطر عدو لحركة البروليتاريا وأكبر عقبة في وجه مشروعها التحرري الاشتراكي.. مما يلزمها التخلص منه والإطاحة به، عبر المشاركة في هذه الثورة الديمقراطية، وقيادتها إلى حد نجاحها، وإعلان الجمهورية، وتشكيل الحكومة الثورية المؤقتة على أساس دستور جديد يضمنها ويؤمّن الحرية والديمقراطية والحكم للشعب. وغير هذا وبالرغم من إخفاق الثورة في الوصول لأهدافها، نجحت في توفير تمثيليته ديمقراطية بديلة، ديمقراطية مجالسية استنبتها العمال والجنود، كثمرة لهذا النهوض الثوري المشهود له، وكإضافة واستلهام من تجربة الديمقراطية الباريسية في إطار الكمونة.
كانت التجربة غنية بالأفكار والمواقف والنقاشات والصراعات، والنقد والنقد الذاتي، وتصحيح الأخطاء والممارسات السياسية.. الشيء الذي ألهم الزعيم على خوض الحرب بدون هوادة على جميع الاتجاهات وضد جميع التيارات الانتهازية والإصلاحية في صفوف الحركة الاشتراكية.. وكذلك الشأن، لم تسلم من سياط نقده الاتجاهات الرفضوية المتطرفة، البلانكية الانقلابية، والمغامراتية، واليسراوية.. الرافضة للنضال العلني والشرعي الجماهيري، وكذا النضال من داخل المؤسسات، وللمشاركة في البرلمان والانخراط في النقابات الرجعية..الخ
كانت فترة الزعامة والقيادة للحركة الاشتراكية التي تقلـّدها لينين، غنية بالموضوعات والأطروحات التي تناولها بالنقاش، والتي جلبت له الأنصار والمدعمين، كما جلبت له على النقيض الخصوم والمعارضين.. ونحن إذ نميل بوعي إلى اللينينية، معتزّين بخطنا البروليتاري المتميز، والذي لم يشكك ولو للحظة في الإستراتيجية الثورية الاشتراكية، ولم يتخلف خلال مساره عن تشبثه، وانتمائه الفكري والسياسي للطبقة العاملة ولمشروعها الثوري والمجتمعي، من خلال التأكيد والإيمان القاطع برسالتها التاريخية، الملخصة في قدرتها وأهليتها لوحدها من دون غيرها من الطبقات والفئات الأخرى المعارضة، والرافضة للعيش في ظل وكنف الرأسمالية، فهي القادرة على قيادة عموم الجماهير الشعبية الكادحة وإقناعها بالثورة الاشتراكية.
فلهذه الأسباب أو للبعض منها انتسبنا للحركة الماركسية الثورية الاشتراكية، فهذا الانتساب الصريح هو من جلب لنا في المغرب ومن قلب الحركة الاشتراكية المناضلة، كل العداء وإعلان الحرب نتيجة هذا الالتزام، وهذه الرؤية الطبقية، التي اعتبرها أحد الأقزام، أحد عتاة التزوير والمراجعة والانحراف.. بأنها مجرد استنساخ للنصوص الماركسية وفقط! متسائلين في نفس الآن، كيف للمناضل من أجل التغيير الاجتماعي، خلال هذه اللحظة التاريخية من العصر الرأسمالي، أن يكون اشتراكيا دون الاستناد على الفلسفة المادية، وعلى المادية التاريخية، وقانون صراع الطبقات.. ودون أن يهتدي بخلاصات البيان الشيوعي، وتصور الحركة الاشتراكية في التغيير، والالتزام برسالة الطبقة العاملة ضمن هذا المشروع..؟ كيف له أن يصبح ماركسيا صادقا دون هذا الالتزام؟ وكيف له أن يدّعي، ويشهر لينينيته، وتميزه عن الرفاق التروتسكيين وآخرين من دعاة الرفضوية والزعيق؟ كيف للمناضل الديمقراطي جدا والحقوقي زيادة، أن يقـْدم على التنسيق ومد الأيادي لأعداء الحرية والديمقراطية والاشتراكية؟
في الوقت الذي انبنت أطروحة تنظيمه الأصلي، أي منظمة "إلى الأمام"، التي نحترمها، ونقدّر عطاءاتها وتضحيات مناضليها وأتباعها وجميع المتعاطفين مع خطها.. والتي اعتمدت، أو بالأحرى راهنت وفقط، على الفلاحين خلال مشروع التغيير الذي بشـّر به التنظيم، والذي أبدى استعداده لخوض حرب التحرير الشعبية إلى جانب الفلاحين ـ مجرد كلام وحبر على ورق وفقط ـ سيحاصر خلالها المدن بالبوادي والقرى الثائرة، استنادا على النظرية الماوية وعلى تصورها للتغيير الاجتمعي، أي بعيدا عن الطبقة العاملة وعن تصورهاوعن مصالحها وقواعدها وعن خططها في بناء الحزب العمالي المستقل كشرط لا بد منه، في قناعة جميع المناضلين الماركسيين المبدئيين.. وفي بناء النقابات والجمعيات والاتحادات كأساس لخوض الصراع الطبقي وقيادة معاركه.. على اعتبار أن هذه المنهجية لا تصلح للبيئة المغربية التي تتميز حسب التصور نفسه بوجود %90 من الفلاحين الفقراء وسط المجتمع المغربي.
بعيدا عن التدبير اللينيني وعن تكتيكاته الناجحة لعقد التحالفات مع فصائل الحركة التقدمية الثورية ـ وطبعا ليس مع الجحافل الظلامية والرجعية، كما هو الحال في المغرب ـ ولصياغة برامج الحد الأدنى للقضاء على الاستبداد ولكسب الحرية والجمهورية، والتخطيط المحكم والجيد للثورة، عبر الالتزام بخط الانتفاضة العمالية والإضرابات والعصيان الشعبي المسلح..الخ أمام هذا التحليل المهزوز الذي انزلق للاعتماد على كثافة السكان عوض القوة الحقيقية التي تمتلكها الطبقة العاملة المتجلية في إمساكها بعصب الاقتصاد، وبقدرتها الهائلة على التنظيم والانضباط ثم امتلاكها لأهم سلاح ينظم الصفوف ويرفع درجة التحدي الطبقي ضد البرجوازية وينمّي الوعي والقدرات الطبقية العمالية والكفاحية ألا وهو سلاح الإضراب. ثم هل يستقيم الحال، بأن نلـّقب أنفسنا باللينينيين وأن ندّعي بأننا من أتباع لينين المخلصين، أو المنبهرين بخط البلاشفة وبإنجازاته حتى.. دون أن يلجأ المرء للاستنساخ واستخلاص العبر والدروس، ويتحاشى ذاك الرديء الذي يغرف البعض من ماعونه، ويلتهم بقاياه البائسة والحامضة لدرجة أنها أزكمت بعفونتها الأنوف.؟
كلاّ ثم كلاّ أيها الرفاق، سنظل لينينيين اعتمادا على التجربة اللينينية ودروسها، ولن نستحي أحدا في هذا الادعاء والالتزام، وسنظّل مناضلين متواضعين نساهم في النقاش بكل ديمقراطية، والتزام، واحترام لجميع قوى المعارضة التقدمية، باعتبارهم رفاق الطريق والدرب، دون أن نعادي أحدا أو نبخس من مجهوداته الفكرية والسياسية.. فلا نعادي سوى أعداء الحرية والتقدم والاشتراكية.. وفي السياق نفسه، نتأسف للمآل الذي اتخذته الصراعات بين الفصائل الطلابية التقدمية، التي جنحت للعنف ومحاولات التصفية، والتي ستبقى بمثابة وصمة عار على جبين الحركة التقدمية في الجامعة، في ظروف تحتاج تعزيز الصفوف وتقوية الجبهة الطلابية التقدمية، للإسهام في الدفاع عن الجامعة، وعن الحق في التعليم، وعن المجانية، وعن الحريات الديمقراطية بالجامعة وبالمجتمع ككل.
فالصراع الديمقراطي داخل الحركة التقدمية صراع صحي وحيوي يساعد على التطور والتقدم، ويحاصر الرداءات والانحرافات والانعراجات داخل صفوف الحركة الاشتراكية.. فليس من العيب أن نستشهد ونهتدي بدروس ثورة أكتوبر وبمقدماتها الثورية، ابتداءا من عملية البناء الحزبي البلشفي، ومروا بانتفاضة دجنبر 1905، وثورة فبراير الديمقراطية البرجوازية، ثم الثورة الاشتراكية الكبرى لأكتوبر 1917.. ومن يتبنى خطا مغايرا لتغيير الأوضاع فهو حر في ذلك ولا نتمنى له سوى الاستمرار في معارضة النظام القائم بكل مبدئية والتزام بمصالح عموم الكادحين، التي تقتضي المناهضة للرأسمالية والدعوة الصريحة للقضاء النهائي على وجودها، واستبدالها بنموذج مجتمعي جديد يوفر الحرية والديمقراطية، ويؤسس للاشتراكية كاقتصاد، وكمجتمع، وكديمقراطية للمنتجين الأحرار والمستقلين.
فلا غرابة أن نظل نرمي بعضنا كمكونات يسارية معارضة للنظام القائم، بمثل هذه التهم الرخيصة المرتبطة بالنسخ والاستنساخ، وكأن الخط البروليتاري يحظى بشرف السبق في هذا المجال، والحال أننا لم نهتدي لهذه الخلاصة وهذا الخط، إلا بعد مدة من الزمن والتجربة، على ولادة وتأسيس هذا اليسار وهذه الحركة، التي ادعت منذ ولادتها بأنها ماركسية ولينينية، انبثقت من صلب الحركة التقدمية لتحارب الإصلاحية كاتجاه، ولتقف في وجه الانحراف عن الخط القويم، ولتصد جميع محاولات تحريف أو تزوير أو مراجعة النصوص الماركسية واللينينية.. أي بعد إفراط هذه الحركة بمجملها في الاستنساخ ونشر عدواه في جسم الحركة الثورية الشبابية الصاعدة.
إذ لا بد من التذكير بأوضاعنا في هذه الذكرى العظيمة، وهي ذكرى ثورة أكتوبر الاشتراكية، التي نعمل كلما في جهدنا للاستفادة من دروسها المنجزة على الأرض، حيث لا سبيل لاستنساخها، أو استعارة خطواتها، خطوة خطوة، إذ سيكون ذلك من باب الغباوة والبلادة التي لا تليق بالمشاريع الاجتماعية التقدمية، التي يوجد في القلب منها الإنسان الحي، المنفعل، والمتفاعل الذي له مصالح يدافع عنها ويستميت من أجل الحفاظ عليها وكسب المزيد مما يحسّن من أوضاعه ويغيرها نحو الأحسن بجميع الطرق المتاحة.. حيث الاجتهاد النظري والفكري لازم للنهوض بحركة شعبنا المعارضة.. فالثوريون جميعهم ملزمون بإيجاد مخرج اجتماعي لها بطريقة جذرية وثورية، تقضي على أصل معانات جماهير الشعب الكادحة والمحرومة، وتساعدها، بناءا على هذه التجارب الناجحة، على تشييد مجتمع اشتراكي بديل يقضي على هذه الرأسمالية المتعفنة التي لم نعد نقبل بوجودها، ولو ادعت "الوطنية" والعداء للإمبريالية، لأنها الأصل في جميع الشرور، ولا يمكنها الاستمرار في العيش واسترجاع الأنفاس إلا عبر الاندماج في الرأسمال العالمي، والدفاع عن مصالح مؤسساته، والخنوع لتوجيهاتها، ثم القبول بغزو شركاتها العابرة للقارات، لبلادنا، قصد النهب والتخريب وتعميق التبعية.
فإذا كان الاستنساخ عيب من عيوبنا، فهي آفة وممارسة جنح لها الجميع، وأصّل لها المؤسسون في التربة المغربية، دون ضجيج يذكر.. فمؤسسو الحركة الماركسية اللينينية، هم من أبدعوا في ممارسة النسخ، وتمادوا في التزوير والتلفيق ثم الهذيان، بنسب أطروحتهم زعما وتزلفا للينين واللينينية، مع العلم أنها في الأصل والجوهر ستالينية لا غبار عليها، جاهد في تطويرها وتوسيع مجالها و"فلسفتها" الزعيم ماو تسي تونغ، عبر خطه للتقدم بالثورة إلى الأمام، وبالمزيد من كسب الأنصار والحلفاء، لهزم بقايا الإقطاع المساند للاستعمار الياباني، لا غير.
عكس هذا، ورفعا لأي التباس يشوش على علاقتنا بالاشتراكية وبالمشروع الاشتراكي، الذي لا يصمد أمامه بديل مجتمعي آخر، حيث لا خيار في هذا الصراع وخلال هذه المرحلة فإما الرأسمالية أو الاشتراكية ولا وجود لما بين البينين.. لهذا، نؤكد بأننا جزء لا يتجزء من الحركة الاشتراكية المناضلة والمبدئية التي تعتز بهذا الإنجاز الاشتراكي العظيم، على الرغم من المآل الذي لحق به، والذي يحتاج أكثر من تقييم وفي أكثر من مستوى ومجال. فلا نستحي قط من إعلان انتمائنا لهذا الخط البروليتاري، الثوري الاشتراكي، الذي خطط له البلاشفة وطوروه بقيادة الزعيم لينين، وأتقنوا ترجمة جميع تاكتيكاته في الميدان، ومنها أساسا برنامج الثورة المرحلي، برنامج الثورة الديمقراطية، الذي حوله المستنسخون البلداء، وبقدرة قادر، إلى برنامج إستراتيجي لا غنى عنه.. البرنامج الذي يستدعي الثوريين المغاربة للتحالف وكسب ود الطبقة "البرجوازية الوطنية" لتلعب دورها في التغيير والثورة، على أساس "عدائها" للاستعمار وللإمبريالية، باعتبار أن العداء ما زال قائم ولم يستنفد بعد جميع إمكانياته.!
فلسنا من هذا اليسار صراحة، فنحن اشتراكيون في أصلنا وفي هويتنا، اقتنعنا بهذا المذهب وبعقيدته وبأفكاره وبمنهجيته، مستندين على فلسفته المادية وعلى الديالكتيك والمادية التاريخية وقانون الصراع الطبقي، وعززنا ثقافتنا الاشتراكية بالبيان الشيوعي كبرنامج للطبقة العاملة في النضال من أجل التغيير ومن أجل إقامة الاشتراكية بديلا للرأسمالية.. إضافة لإنتاجات ومؤلفات قيّمة أخرى لماركس وإنجلز من قبيل "رأس المال" و"الصراع الطبقي في فرنسا" و"ضد دوهرينغ".. وما تلاها من المؤلفات التي هندست للثورة الروسية المظفرة، بعد أن راهنت على الطبقة العاملة بتنظيمها القوي والمكافح، حزب الطبقة العاملة المستقل عن باقي الطبقات الاجتماعية الأخرى، التي من مصلحتها التغيير والقضاء على الرأسمالية.. استقلالية فكرية وسياسية وتنظيمية، حيث ناصر البلاشفة التحالفات الطبقية لضمان نجاح هذه الإستراتيجية، ولم يبخسوها خلال مرحلة كانت الثورة الروسية محتاجة لجميع القوى الثورية من أجل توحيد الصفوف للإطاحة بالحكم القيصري الغاشم، كعقبة أثرت بشكل سلبي على كامل الحياة السياسية، وعلى الحريات الديمقراطية بالذات.
فما كان على التكتيكات المرحلية والمؤقتة بأن تصبح إستراتيجية، وما كان على "المبدعين" المحنكين، "أعداء" الاستنساخ أن يجتهدوا ويعانقوا الرديء من النسخ، في محاولة لإعادة الاعتبار للثورة البرجوازية الديمقراطية، بإسقاطها على الوضع المغربي، خارج أدنى الشروط، وفي ظل انعدام وجود برجوازية وطنية مغربية مطالبة بالجمهورية ومعادية للإمبريالية.!
فالثورة المنشودة وفق المعطيات المغربية الملموسة، تعني بالدرجة الأولى مصالح الطبقة العاملة وحليفتها البرجوازية الصغرى ـ عدا بعض شرائحها العليا والمتبرجزة ـ في المدن والأرياف، بالإضافة لسائر الكادحين الشغيلة والمياومين، وكذا المعطلين والعاطلين عن العمل وأشباه البروليتاريا.. فالثورة موضوعيا لن تكون سوى اشتراكية تضع الحد للاستغلال والطبقية والنفعية والتربح على حساب المنتجين والمستخدمين.. ولا ينقصها سوى العدة والعتاد لكي يصبح مناصروها فعلا ثوريين ثم لينينيين.. وهو المطلوب الآن، عوض الزعيق والنبش في الفراغات عن "المبدعين" منتجي الأفكار والنظريات..فلن نستحيي أحدا إذا رمانا عن جهل أو غباء، أو بهدف استبلاد عقول الشباب المناضل لإقناعهم بشر استنساخيتنا.. ونحن في حقيقة الأمر لم ندّع غير هذا.. كحقيقة تجسد تواضعنا في وجه التلفيق، والافتراء الذي يتميز به البعض إبرازا لأستاذيته الكاذبة والمدّعية.. فإنتاجنا الفكري لا يتجاوز التأكيد على قناعتنا الاشتراكية، والرهان على الطبقة العاملة، وعلى أهليتها لقيادة عموم الكادحين والمحرومين والمضطهدين، في النضال من أجل التغيير، ومن أجل تشييد المجتمع الاشتراكي المنشود.. وعدا هذا نعدّ أنفسنا منحازين بشكل مبدئي لخط الثورة البلشفي في أغلب تفاصيله، ارتباطا بالبناء التنظيمي لحزب طبقي عمالي، وليس تكرارا لحزب القوات الشعبية.. حزب له هويته الخاصة المعبّرة بصدق عن مصالح الطبقة العاملة، حزب قادر ومؤهل لأن يكون في طليعة الجماهير الشعبية الكادحة، وأن يحسن التدبير لهذا التحالف في خضم معركة التحرير والبناء الاشتراكي، ويبرع في صنع التكتيكات الضرورية والملائمة، ومنها خطة الإضراب والإضرابات العامة والانتفاضة العمالية والشعبية المسلحة..الخ، فهذا ما يميّزنا حقا عن أغلبية مكونات اليسار المغربي، الإصلاحي منه والثوري، سيان.. وكذلك على اليسار الثوري الذي ما زال يجاهد للانتساب زورا للينينية، بتقويلها ما لم تقله أبدا، وما لم تتبناه قط، على طول تجربتها الفكرية والسياسية والتنظيمية.. ومخفيا في نفس الآن إنجازاتها العظيمة على هذه المستويات.. إذ لا يتواني جميع هؤلاء المتمركسين عن الدعوة لبناء حزب جماهيري يضم الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء وعموم الكادحين، عوض حزب الطبقة العاملة الذي عمل على تشكيله البلاشفة الروس استنادا على توصيات ماركس وانجلز والعصبة الشيوعية، من خلال برنامج البيان الشيوعي.. حيث ناهضت البلشفية منذ تشكلها هذا التمييع التنظيمي ولم تقل بغير العمال المنتجين كأساس للحزب، إضافة للمثقفين والمتعلمين وسائر الكادحين، شريطة تغيير جلدتهم وطموحاتهم البورجوازية الصغيرة، عبر انتحارهم الطبقي ودفاعهم عن المِلكية العامة لوسائل الإنتاج، وعن الثورة، والتخطيط الاشتراكي.. فالحزب الذي شيّده البلاشفة نجح في مهامه وبلغ أهدافه الثورية لأنه أحسن مهمة البناء والتشييد، معتمدا على الجماهير المعنية فعلا بالثورة الاجتماعية، الطبقة العاملة المنظمة في حزبها الطبقي المستقل، ثم الحلفاء من البورجوازية الصغيرة ـ أو الجزء الأكبر منها - ومن المياومين والبروليتاريا الرثة والمهمشين وسائر المحرومين.. الذين يجب أن ينظموا صفوفهم داخل هيئات سياسية وجمعوية، تحتضن تطلعاتهم وتدافع عن حقوقهم في إطار من الالتزام الفكري والسياسي، غير بعيد عن المشروع الاشتراكي، وغير متناقض مع برنامج الحزب الذي هو حزب الطبقة العاملة المستقل، ذلك الشرط الذي لا بد منه لضمان نجاح الثورة، ولكي تسير بخطاها الثابتة نحو أهدافها، وتحقق مهمتها في البناء والتشييد لمجتمع الحرية والديمقراطية والاشتراكية.
فلم يكن حزب البلاشفة ذلك الحزب الذي يشبه أي من الأحزاب الاشتراكية حينها، داخل عموم الأقطار الأوربية، بل تميّز بكونه حزبا عماليا اشتراكيا ثوريا وأمميا، صحّح مواقفه باستمرار وكذا مواقف الحركة الاشتراكية الأممية، منتهجا جميع الأساليب لوقاية نفسه من الانحراف والعجز، حيث عمل على تنظيف ذاته من جميع السموم والأعشاب الضارة التي قد تدمر مستقبله وتقضي على طموحاته في قيادة الطبقة العاملة وعموم الجماهير الشعبية الكادحة والمحرومة خلال معركتها ضد الاستبداد القيصري القروسطي، وضد بقايا الإقطاع المتحالف مع الملاكين ومع جزء كبير من البورجوازية الرجعية.
كان حزبا من الطراز الجديد، حزب طبقي بكل ما في الكلمة من معنى، حزب أعطى الأولوية للعناصر العمالية للانخراط في صفوفه ضمانا لهويته الطبقية هذه، دون أن يقصي المثقفين الثوريين والعناصر الشابة المتعلمة في المدارس والجامعات.. شريطة التنصل من أصولها والتخلي عن مصالحها الذاتية والخاصة.. حزب آمن بالسّرية عن أعدائه الطبقيين وخدّامهم الأوفياء، والتي اختارها عن قناعة، دون أن ينكر أهمية التواصل مع الجماهير علنا، عبر منظماتها الجماهيرية الموسعة، ونقاباتها المناضلة، ومختلف جمعياتها المدنية والمتنوعة.. كان يتقن منهجية استعمال قواعد النضال المكشوف والعلني، عبر استغلال المنابر الجماهيرية والمؤسسات دون أن يعير اهتمامه لطابعها الرجعي، كبعض النقابات والجمعيات والبرلمان وجميع المؤسسات الشبيهة.. مع الحماية اللازمة للقيادات ولمراكز القرار والمطابع ومسالك الدخول والخروج من البلد الروسي، سواء بالنسبة للأفراد المناضلين والمناضلات، أو بالنسبة للمنشورات ومختلف المطبوعات والإمدادات المادية..الخ
تفوق على الشرطة وأجهزتها السرية في الكثير من الأحيان، وفلت قياديوه وأطره ومناصروه من كماشة الاعتقال، ونجح في تنظيم عمليات هروب جماعية وعديدة من السجون ومن منافي سيبريا، وهم الذين كانوا ينعتون حينها بالمحترفين الثوريين، بعد أن تفرغوا وجعلوا مهنتهم وعملهم اليومي خدمة للثورة، وتطويرا لها، وتصحيحا لهفواتها، وانتصارا على صعابها.. نجوا إذن من شباك البوليس والمخابرات، وواكبوا جميع محطات العمل الثوري بكل مستلزماته، وأعطوا بكل سخاء للثورة والثوريين مجنبين أبطالها الاختفاء أو الزوال، حيث تعرض الحزب خلال مسيرته النضالية للعديد من الهزات التي كادت أن تنال منه، والتي ألزمته بالتراجع والهدنة "والمساومة" في بعض اللحظات، والتحالف مع بعض الأحزاب والتيارات الثورية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة.
كانت خطة الحزب حينها تلزمه بالتحالف مع جميع القوى السياسية الثورية المناهضة للاستبداد والمطالبة بالحرية السياسية وبالجمهورية الديمقراطية، وهو الشيء الذي ألزمه من ناحية أخرى بإبداء الرأي واتخاذ الموقف من الطبقة البورجوازية، ومن عدم الهدنة معها، وللحد من طموحاتها، عبر استمرار الصراع ضدها وضد مصالحها، وعبر مواصلة الدعاية للثورة الاشتراكية كمخرج وحيد من البؤس الذي عاشته وعانت من جراءه الجماهير العمالية والشعبية الكادحة، حينها.. اختار الحزب لحظتذاك خط النضال الديمقراطي، ودافع عن برنامج الحد الأدنى، أي برنامج الثورة الديمقراطية، والذي طرحه على جدول أعمال ثورة دجنبر 1905، حيث أسهب في شرحه، وتفسير مضامينه وأهدافه الديمقراطية البورجوازية، التي وضعت سقفا لطموحاتها في مناهضة الاستبداد والدعوة الصريحة للجمهورية ولمجتمع الحريات الديمقراطية والسياسية..حيث كان الحزب دقيقا لأبعد الحدود، في شعاراته، وحريصا على الشرح والتوضيح وإبراز المرامي والخلفيات، عكس النهج الذي اختاره وسار في طريقه الرفاق في التجربة المغربية، الذين استعصى عليهم فهم واستيعاب طبيعة وعمق هذه الخطة التكتيكية المحكمة، والخاصة بظروف وأوضاع محددة، وغير صالحة للاستنساخ أيضا..من خلال تجربة "اليسار الجديد" والذي اعتبر نفسه وما زال ماركسيا ثم لينينيا..هذا اليسار الذي شكل لنفسه حركة مناضلة ومناصرة لمشروع الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية، ما زال البعض من دعاتها يدعي التجديد والابتعاد عن النسخ والاستنساخ تشبثا بعملية ومنهج "التحليل الملموس للواقع الملموس" والتزاما بنظرية التمرحل والبرامج المرحلية، وما يلزمها من تحالفات سياسية مبطنة لا تتقنها سوى القيادات المحنكة ـ البيروقراطية في واقع الأمر والحال- والتي تخطط للوصول لأهدافها الانتهازية بالليل ومن وراء ظهر المناضلين من أجل التغيير.. منافحين في هذا السياق عن العديد من التراجعات والتنازلات في ميادين الفكر والهوية والتنظيم والمواقف السياسية.. فمن أجل مثل هذه التكتيكات المستنسخة، وهذا النوع من الحد الأدنى باع الرفاق الإستراتيجية والنضال من أجل الاشتراكية والتغيير الاشتراكي، تحت حجة التحالفات والجبهات المناهضة للمخزن..ليفيض الاجتهاد ويراهن على جرف عموم المعارضين بمن فيهم عتاة الظلامية والسلفية، المعارضين للحرية ولقيم الحرية، والحق في التعبير وإبداء الرأي، ومناصرة المرأة في حقوقها وفي تحررها..ومعارضين كذلك لحرية المعتقد..مما سيدفع الرفاق بشكل صريح لافتقاد هويتهم التقدمية أو على الأقل تمييعها وتضبيبها.
فلا سبيل، ولا مخرج من هذه الوضعية البئيسة التي أصبح يعيش في ضوئها المغاربة، ويعانون من جرائها الفقر والحرمان والبطالة والحكرة والاستبداد، والتطاول على حقوقهم ومكتسباتهم الاجتماعية في مجالات الصحة والتعليم والسكن..سوى التغيير الجذري بطابع ومضمون اشتراكي لا غبار عليه، ولا تسول من أجله..فالشعب المغربي الكادح، أي مجموع الطبقات الاجتماعية المعنية بالتغيير الجذري الشامل، المطالب بالحرية وبالديمقراطية وبالجمهورية، لن يدخر جهدا للمطالبة بالاشتراكية في سياق تحصينه لمكتسباته الاقتصادية والاجتماعية، وضمانة للمصادرة للأملاك التي تنعم بها الطبقة البورجوازية الكومبرادورية وحلفائها من كبار الملاك العقاريين، وكبار الضباط المستفيدين من الريع وعائداته..وفي هذا السياق الثوري ستتشبث الثورة ببرنامج التأميم وبالثورة الزراعية وبالاستيلاء على المصانع والمعامل الكبرى والأوراش الصناعية والموانئ والمناجم والضيعات والمجال الغابوي.. وكلها إنجازات تدخل في مجال البناء الاشتراكي وتعزيز سلطة الطبقة العاملة، بما تشكله من تقويض عملي لمصالح ما تبقى من البورجوازية، والحد من طموحاتها للعودة والسيطرة والتحريض على الثورة المضادة.
فالدرس البالغ الأهمية والاستفادة الجليلة من التجارب الثورية العصرية، وبدرجة أولى من تجربة ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى، يجب أن يرتبط بسؤال جوهري يتحاشاه العديد من المهرطقين الذين يدعون المطالبة بالتغيير.. سؤال وجب طرحه باستمرار وبإلحاح ودون تردد، وهو ما التغيير الذي نرغب فيه الآن؟ وإذا كان الجواب هو ثورة اجتماعية تغير من أوضاع وحالة السواد الأعظم من المواطنين المغاربة، ووضعهم الاقتصادي، وتضمن لهم بالتالي الحرية والديمقراطية والاشتراكية، فنحن جميعا معها ونؤيدها.. لنتابع مستحضرين سؤالنا المهم والنقدي، ثم الجوهري، لماذا فشلت هذه الثورة بالذات في الاتحاد السوفياتي، وأفلت دون رجعة؟ ثم لماذا عجز هذا النظام وأفلس، بعد أن شكل لحقبة طويلة، الأمل بالنسبة للعمال والشغيلة والمحرومين والكادحين والمضطهدين وذوي الحقوق والنساء..الخ الذين راهنوا بقوة على هذا النظام الذي سيكرس انتصارهم على أنظمة الاستغلال والاحتكار والنهب والامتيازات..الخ؟
فهي ذي، وباختصار شديد الأسئلة الواقعية والموضوعية، التي قد تحيي هذا المشروع وتعيد له جذوته وجدواه، وهو المشروع الذي ما زلنا ندافع عنه، ونحلم بتحقيقه على الأرض، متصارعين ومختلفين حول الطريقة التي يمكن اعتمادها لإنجازه، استنادا على الجمهور الكادح والمحروم، باعتباره، في الأول والأخير، المعني مباشرة بحسناته.. إذ لا مجال بعد مرور قرن من الزمن على هذه الثورة الاشتراكية العظيمة، أن نظل مترددين، بل ومتشبثين ببرنامج أقل ما يمكن أن يقال عنه، أنه شاخ ثم مات لانعدام شروط نجاحه ولانتفاء الجدوى من تبنيه والدفاع عنه.. وهو برنامج الثورة الديمقراطية البورجوازية بكل ما يفرضه من مستلزمات، أهمها الحفاظ على الرأسمالية وعدم المساس بنظامها الاقتصادي إلى حين توفر الشروط لتجاوز هذا النظام نفسه، والاكتفاء بالجمهورية وتوفير الحريات الديمقراطية وأشياء أخرى من هذا القبيل.. فهو ذا البرنامج وهي ذي أسسه ودعائمه وتبريراته ببهاراتها الماوية العجيبة والغريبة التي حملت معها نسخ الجبهات المتحدة وحرب التحرير الشعبية، دون أن تترك الأثر للحزب الطبقي، حزب الطبقة العاملة، ولمهامه في تشكيل النقابات وفي تأطير الجمعيات والحركات الاجتماعية المعنية بالتغيير..عوض هذا ظل الرفاق يجهدون النفس ويبررون انتظاريتهم، التي تشير على أنه لا ضرر في التحالف مع البورجوازية، أو الجزء منها "المعادي" للمخزن ولحلفائه الامبرياليين، على غرار ما فعلى الرفاق في الصين حين احتضانهم لجميع المعادين للإقطاع وللاستعمار، أي بمن فيهم على حد قرار "ماو النبيه"، الكمبرادويين والإقطاعيين والبورجوازيين المستنيرين..! ونحن إذ ننتقد هذه الوصفة ونعارض هذا المنحى، نؤكد على غياب نفس الشروط التي أنتجت هاته التكتيكات، حيث لم يعد الحلفاء نفسهم في سياق الثورة التي يتطلع للخوض في غمارها الجياع المغاربة، أي العمال وفقراء الفلاحين والعاطلين وعموم المحرومين والمهمشين..هؤلاء المحتاجين لثورة اشتراكية حقيقية ومتطورة، تقضي على الفقر وعلى مسبباته بشكل نهائي لا رجعة فيه، ثورة تراعي التراكمات والتجارب السابقة للحركة الاشتراكية المناضلة، الناجحة والفاشلة، أو المتعثرة في بداية الطريق..وهو المسعى الذي نريد من رواد الحركة الاشتراكية الخوض فيه، وتقييمه من جميع النواحي، قصد التقويم والتجاوز، وليس التباكي عن مخارج كانت في الأصل مؤقتة ومرحلية، في ظروف يستحيل على التاريخ إعادتها مرة أخرى، وفي بلد آخر كان يسمى روسيا الذي كان يعيش في ظل نظام إقطاعي متعدد القوميات، تنمو بداخله بورجوازية ناشئة، لا تتوانى عن التعبير عن ثوريتها ومعارضتها للنظام الاستبدادي القائم.. فإذا كان لا بد من التحالف، فيجب الابتعاد كليا عن جميع القوى والحساسيات السياسية الفكرية المعادية للديمقراطية، والتقدم، والاشتراكية.. فمن يعادي المشروع التحرري المغربي، ويناهض إنصاف المرأة، ويقف حجرة عثرة في مسار تحررها ويتلكأ في القبول بالثورة الاجتماعية، المنصفة والعادلة، التي ستمكن عموم الشغيلة المنتجة من حقوقها، ومن الاستفادة من خيرات عملها دون تعرضها للاستغلال والنهب والابتزاز.. لا مكان وسط هذه التحالفات، مهما تغنى برفضه ومناهضته المزيفة، للاستبداد.
فحركتنا حركة مناضلة تستهدف تغيير أحوال الناس بشكل جذري عميق، نريدها أن تبقى نشيطة في وسط الفئات الفقيرة المعنية بالتغيير، وفي وسط الطبقة العاملة بالذات، وكذا في صفوف الحركة الاحتجاجية ذات البعد الاجتماعي والاقتصادي، وداخل التجمعات الشبابية والطلابية والنسوية.. بالتزام تقدمي سافر، ينحو للتغيير الجذري الذي سيقضي نهائيا على نظام الاستبداد والاستغلال الرأسمالي، ويحقق الاستقلال الاقتصادي الفعلي،لينهي بالتالي تبعيته للمصالح البورجوازية الامبريالية، ولصناديقها المالية وشركاتها العابرة للقارات..
فهي ذي أهم الاستفاذات من ثورة أكتوبر الاشتراكية، التي غيرت بشكل جذري أحوال المواطن الروسي البئيس، مقدرة مكانة الشغيلة المنتجة في الصراع الاجتماعي وفي النضال من أجل المجتمع البديل، من قلب المصانع والمعامل والأوراش الحرفية والأراضي الزراعية..الخ، وعملت على صيانة الحريات وانتصرت للديمقراطية، ودافعت عن حقوق القوميات والأقليات المضطهدة، وحاربت التمييز ونادت بالمساواة..الخ، فهي ذي الاشتراكية التي نعتنقها ونعتقد في مبادئها ونؤمن بمشروعها..ومن يتردد في الجهر بهذا، فيجب أن يعيد النظر في ارتباطه بهذا المشروع، وفي أسسه الفلسفية والسياسية، لأن ماركس انطلق في تجربته اشتراكيا منحازا بشكل صريح للطبقة العاملة، وعموم الكادحين، من أجل بناء مجتمع جديد خالي من الاستغلال والاضطهاد والطبقية.. وكذلك الشأن بالنسبة للينين الذي لم يتخلى قط عن هذا الهدف الاستراتيجي التحرري، المتمثل في القضاء على الرأسمالية وبناء الاشتراكية على أنقاضها.
فهدفنا الثوري واضح، وسنعمل على الحفاظ على مضمونه الاشتراكي، الذي لا غبار عليه، وسنسعى جاهدين مع جميع رفاق الطريق المخلصين، ليناء التنظيم النوعي والصلب لهذا الغرض، بالرغم من ثقل الخصومات والشنآن الحاصل بين مكونات الحركة الاشتراكية، وسنطرح البرامج السياسية الملائمة والمسايرة لهذا الغرض والتي ستقيه من الانحرافات والانزلاقات اليمينية واليسراوية، سيان.. حيث يجب خوض الصراع الفكري والسياسي، بدون هوادة، ضد هذا الاتجاه، أو ذاك، أي ضد الإصلاحيين الانتهازيين والانتظاريين، الذين استحلوا الديمقراطية الشكلية، ديمقراطية الواجهة، واختاروا النضال المؤسساتي وعمقوه من أجل ملكية تسود ولا تحكم، وهي لا يمكنها إلا أن تحكم وتسود وتورث الحكم..في المقابل ومن الموقع الانتهازي نفسه، انزاح اليسراويون للتطرف والجملة الثورية والرفضوية الجذرية.. الممانعة لخط النضال الديمقراطي، ولبرامج الحد الأدنى حين تدعو لها الضرورة النضالية والثورية، في إطار تحالفات مع جميع المناهضين للاستبداد، والاستغلال الرأسمالي، والاحتكار، والعمالة للامبريالية، والخنوع لتوصيات مؤسساتها المالية، وشركاتها الاحتكارية العابرة للقارات..على الرغم من تواجد أنصار الاتجاهين معا في الميدان النضالي الاحتجاجي، فما يهم في الأخير والنهاية، هو الحصيلة ودرجة التقدم والنجاح في تغيير الأوضاع وأحوال الناس، أي السواد الأعظم من الشعب المغربي، العمال والعاملات وسائر الكادحين غير المالكين والمأجورين والمستخدمين وصغار التجار والحرفيين والفلاحين والعاطلين والمياومين..الخ وكلها عوامل تشدنا لهذا النموذج من الثورات، وتدفعنا للاستفادة من نموذجه، بالرغم مما سيثيره من زعيق وعويل عن عدم انضباطنا الصارم للمراحل، ولخطة التمرحل، كما خطط لها في لحظة ما، وتحت شروط ما، "الأسلاف المجتهدون"..فلتحيى الاشتراكية في ظل هذه الذكرى الاشتراكية العظيمة..ولا بديل عن المشروع التحرري الاشتراكي في الأفق القريب أو البعيد..

وديع السرغيني
أكتوبر 2018








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أميركية على مستوطنين متطرفين في الضفة الغربية


.. إسرائيلي يستفز أنصار فلسطين لتسهيل اعتقالهم في أمريكا




.. الشرطة الأمريكية تواصل التحقيق بعد إضرام رجل النار بنفسه أما


.. الرد الإيراني يتصدر اهتمام وسائل الإعلام الإسرائيلية




.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن