الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تونس التي عرفت في صغري (1)

سلام محمد المزوغي

2018 / 11 / 13
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


في صغري، مررت بفترة أمضيت فيها أغلب أيام الأحد أشاهد قداس الأحد على القناة الفرنسية الثانية، كانت تعجبني ألحانهم فأطرب لسماعها وكنت مفتونا أكثر بجمال تلك الكنائس.. كنت أقارن "بيننا" و "بينهم" وأتساءل لماذا لا نغني نحن مساجدنا؟ عند مقارناتي البريئة تلك، كان أول ما يحضر في ذهني رمضان وتلك المسلسلات التي تروي قصصا عن قبائل الصحراء وعن القتل والعنف، لكني كنتُ أقول أن "جَوّْنَا" في رمضان خير من الفرنسيين أو "الڤْوِرَّه" أي الغربيين/ الأوروبيين ورمضان يعني العائلة والسمر والأكل فقط، رمضان في منزلنا كان ضيفا خفيف الظل وكان الجميع يحبونه وينتظرونه ومن سيرفض مناسبة تجتمع فيها العائلات أكثر وتفرح؟ رمضان المقصود هو رمضان خاص ليس له من رمضان المعروف إلا الاسم، هو رمضان لا يصومه أحد غير الأم والأب. أغلب الجيران كانوا مثلنا، لكن كان هناك قلّة منهم يصفوننا بِـ "يْهُودْ" ويُقصد بالنعت أننا عائلة لا أخلاق لها/ "لا دين لا مِلّة"، مع العلم أن تلك العائلة لم يكن يصلي فيها أي أحد كعائلتنا وككل العائلات الأخرى إضافة إلى أن أغلب أبنائها لا يصومون. رمضان عندنا كان يشبه العلاقات مع الجنس الآخر حيث يُسمح بها قبل الزواج أما بعد الزواج فيلتزم بقاعدة الشريك الواحد والوفاء إليه، لا أحد كان يصوم رمضان قبل الزواج وبعده يشرع في صيامه تدريجيا.. كان هذا حال أغلب أفراد العائلة، لكن البعض كان لا يصومه حتى بعد زواجه؛ لم أسمع قط أني يجب أن يصوم وإلا سيحشرني الله في جهنم، لم يضربني أحد ولم يصرخ في وجهي يوما أحد، بل كانت أمي - الصائمة - تحضر لي فطور الصباح والغداء الذي عادة ما يكون ما تبقى من عشاء الأمس وفي مرات أخرى كانت تطبخ لي شيئا جديدا أو أفعل ذلك بنفسي، لا أحصي المرات التي في الصباح طلبت من أبي - الصائم - أن يشتري لي للغداء لحما أو سمكا لأشويه وكنت إما أشوي أنا أو تشوي أمي وأبي بجانبنا ثم أفطر وهما بجانبي.. كان أبي في البدء يجيبني عندما أطلب منه ذلك "حَاضِرْ عَرْفِي"، لكنه ومع مرور الأيام طلب مني أن أطبخ بمفردي وألا أُتعب أمي الصائمة فاتفقنا. شكرا رمضان، ففيه تعلمت الطبخ منذ الثانية عشرة، وصرتُ أفتخر بذلك على أغلب أقاربي من كانوا في عمري ومن كانوا أكبر والذين بدورهم كانوا يعرفون الطبخ.. النساء كن تطبخن عندنا، لكن الرجال كانوا يُعينون زوجاتهم والأولاد كانوا يعينون تقريبا كالبنات وفي كل شيء؛ هو أمر سيراه أغلب من سيقرأ "غريبا" حتى للكثير من التونسيين الذين سيستغربون أكثر عندما يعرفون أن ما يوصف وقع في ريف من أرياف الوسط في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، والمعروف عن الأرياف أنها حاضنة للعقليات المتزمتة والجهل والتعصب والتقوقع واحتقار المرأة عكس المدن أين يُهذّب كل ذلك.. يقال دائما أن التونسيين ورثوا من بورقيبة ما هم عليه اليوم مقارنة بباقي شعوب العروبة إسلام، وهو كلام صحيح لكنه لا ينطبق إطلاقا على ذلك الريف الصغير أين أمضيت طفولتي.. كان "عيبا" على الرجل أن يهين امرأته ويروى عن جدي "أب أمي" أنه لم يرفع يده على امرأة طوال حياته وكان يحب بناته ويميزهم على أولاده، جدي هذا الذي توفي قبل ولادتي كان "شِيخْ" في الخمسينات والستينات والسبعينات وكان يجمع كل السلط في يده، كان الحاكم الأوحد للمنطقة وكان القاضي الذي يحل النزاعات، كان عنده غرفة يستعملها كسجن يسجن فيه من يحكم عليهم، سلطته كانت مطلقة إلى درجة أنه كان يضرب بعكازه الرجال المذنبين، يروى أن أقصى العقوبات التي كان يحكم بها وأشد الإهانات كانت تخص كل رجل يهين زوجته.. الغريب أن جدي هذا كان متزوجا من ثلاث نساء، ولم يضرب أيا منهن طوال حياته بالرغم من أنه كان معروفا بالحزم والشدة، الأغرب أنه قبل بزواج أمي - ابنته - من أبي الذي لم تكن عائلته من مستوى عائلة هذا الجد، في تلك الأزمنة كان يستطيع دفنها حية لو أراد دون أن يحاسبه أحد لكنه قبِل بالرغم من المهانة التي لحقت به حيث قيل عنه أنه رضخ لابنته التي أذلته ومرغت كرامته في التراب وأنه لم يعرف كيف يُربّيها هي وكل بناته. قالت أمي أنه ظل لسنوات لا يزور منزلها ويرفض أن تزوره، لكنه كان يرسل أمها لتطمئن عليها ثم عادت المياه إلى مجاريها بعد ذلك.. روى أبي المسكين أنه عاش في رعب طوال حياة جدي وجدتي التي كان يهابها أكثر من جدي، والتي كانت دائما ما تهدده لو أساء معاملة ابنتها وعندما تنفرد بأمي تهددها إن هي أساءت معاملة زوجها.
مثال آخر أراه فريدا وغريبا حصل في بداية الخمسينات يكشف عن ثقافة ذلك الجد الفريدة من نوعها، حيث حضر إليه أخوان يستشيرانه كيف يتصرفان مع ابنة أحدهما حملت من ابن الآخر، يقال أنهما كان ينويان قتل الولد والبنت، وعند معرفته بنواياهما قرر الجد وضعهما في السجن بعد أن ضربهما، ثم أمر بإحضار الولد والبنت على حدة، فضرب الولد ولم يسجنه أما البنت فلم يضربها ثم زوجهما وتَكفّل بأغلب مصاريف العرس.
كلامي عن هذا الجد ليس لأنه "جدي"، بل لأنه كان بمثابة رئيس لدولة وحاكم أوحد ولأنه كان رمزا لكل منطقته وهدفي من ذلك الإجابة عن سؤال "من أين جاءته تلك الثقافة؟ هل من الإسلام دينه؟ هل من العروبة أصله كما كان يعتقد؟ هل من بورقيبة؟ هل من ثقافته الخاصة وهذا الجد لم يعرف من الكتب إلا القرآن وقد خصص "حانوتا" ككُتّاب كان يُعلم فيه القرآن صديقه "المِدِّبْ"؟ (اللطيف أن حانوت الكُتّاب كان ملتصقا بحانوت السجن)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. امتعاض واعتراض وغرامات.. ما رأي الشارع العراقي بنظام المخالف


.. عبد الله حمدوك: لا حل عسكريا للحرب في السودان ويجب توحيد الم




.. إسرائيل أبلغت دول المنطقة بأن استقرارها لن يتعرض للخطر جراء


.. توقعات أميركية.. تل أبيب تسعى لضرب إيران دون التسبب بحرب شا




.. إبراهيم رئيسي: أي استهداف لمصالح إيران سيقابل برد شديد وواسع