الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تونس التي عرفت في صغري (2)

سلام محمد المزوغي

2018 / 11 / 14
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


كلمة "شِيخْ" لا تعني شيخَ دينٍ بل تعني الوظيفة والسلطة السياسية، وهو ما يعادل اليوم "العُمدة" وإلى اليوم يُقال للعمدة "شِيخْ". أما شيخ الدين فكان يطلق عليه "المِدِّبْ"، ويقصد بها الرجل الحافظ للقرآن المدرِّس في الكُتّاب أو محفِّظ القرآن، وتلك كانت مهمته الرئيسية بالإضافة إلى دفن الموتى بعد تغسيلهم وبعد ذلك القراءة عليهم في الأربعين صحبة "مْدَادْبِيَّة" آخرين عادة ما يُكرمون ليلة أربعين الميت بالكسكسي ولحم العَلُّوشْ أي الخروف (الكلمة أمازيغية ويستعملها ((كل)) التوانسة كغيرها من مئات الكلمات في لغتهم الحية/ اليومية المنطوقة دون أن يعلموا أصلها) ويكون من نصيبهم أحسن لحم ذلك العَلُّوشْ وأكبر قطعه، إضافة إلى التاي الأحمر بالنعناع: "المِدِّبْ" كان مكرّما ومحترما من الجميع لكنه لم يكن من يحلّ الخلافات بين الأهالي، تلك كانت مهمة "الشِيخْ" الذي كان يأخذ بجميع آراء أصدقائه أو حاشيته بمن فيها "المِدِّبْ" ثم يُقرِّر ويحكُم وفق العرف السائد أو القانون المعمول به.. في حالة جدي، كان صديقه "المِدِّبْ" خجولا وقورا إلى درجة أنه كان يرفض إبداء الرأي خوفا من أن يؤثر ذلك على احترامه من الأهالي، كان يُفضّل الحياد دائمًا، وحتى في أربعينات الموتى كان يخجل فلا يأكل مثل زملائه فيضطر أهل الميت إلى أن يرسلوا له إلى منزله فيكلفهم ذلك عوض نصيب شخص واحد أكلَ كل أفراد عائلته، وقد صارت مع الوقت عادة يعرفها عنه كل الأهالي. هذا "المِدِّبْ" إلى اليوم لا يزال يُذكر بإجلال من قبل كبار السن ويُترحم عليه، وتقريبا صار "قديسا" عندهم لكنه لم يتحول إلى "وليّ صالح" تُقام له زاوية يُزار فيها.
الذي مرّ دلالاته مهمة جدا، هكذا كانت الأمور في ريف من أرياف تونس في خمسينات القرن الماضي أي آخر أيام الاستعمار الفرنسي (المباشر) وقبل أن يتسلم بورقيبة الحكم، الذي ذُكر يعكس ثقافة أهل البلد أولئك الناس البسطاء الذين كانوا "كلهم" "مسلمين/ عرب"، لم يتأثروا لا بغرب ولا بحداثة ولا بدستور وقوانين بورقيبة التي لم تكن موجودة بعد، لم يكن عندهم إلا تراثهم الذي ورثوه عن أجدادهم عبر القرون ولم يكن عندهم إلا دينهم الذي كانوا يعتنقونه كلهم..
إذا كانت العلمانية تُنسب للغرب ولعصور أنواره، المجتمع الموصوف يُكذّب ذلك لأن رجل الدين لم تكن له أي سلطة سياسية بل كان يترفع عنها ويرفض المساهمة فيها خشية على مركزه بين أهله، وإذا كان التطور الذي حدث في تونس منذ الخمسينات يُنسب حصرا لبورقيبة فأيضا المجتمع المذكور يكذّب ذلك ويقول أن بورقيبة لم ينجز ما أنجز انطلاقا من العدم بل بنى على أرضية كانت موجودة قبله: الجد الموصوف كان معدِّدا للزوجات فمنع بورقيبة ذلك وهذا يحسب له، لكن هذا الجد كانت ثقافته فصل الدين عن السياسة فصلا كليا ولذلك يكون ما قام به بورقيبة من إبعاد للدين وكهنته عن السياسة ليس غريبا على هذا الجد ولا إضافة حصلتْ له من ورائه..
أجزم أن ذلك الريف كان يعكس ودون أن يعي ذلك ثقافة أمازيغية أصيلة وبالخصوص في نقطتي فصل الدين عن السياسة الذي لم يعرفه العرب ولم يقل به الإسلام يوما وفي نقطة احترام المرأة التي لم يعرفها الاثنان أيضا، تلك الثقافة اصلها الأعراف الأمازيغية التي رفضتْ تطبيق الشريعة الإسلامية الهمجية التي كانت تفرضها السلطة في المدن دون أن تستطيع فرض ذلك على الأرياف.. المسألة إذن ليست لغة لا يتكلمها التوانسة اليوم بعد تعريب ألسنتهم، المسألة ثقافة أصيلة موجودة في كل ربوع شمال افريقيا لا تزال حية إلى اليوم وتمارسها شعوبٌ تجهل حقيقتها وأصولها فتنسبها إلى الإسلام وعروبته.
الحديث عن بورقيبة يطول، ولا أظن أن "المجاهد الأكبر" سيأخذ "حقه" كما يجب عند الكلام عنه من منظور "عربي إسلامي" أو "غربي" كما يفعل أغلب من يتكلمون عنه منذ عقود، الحق الكامل سيأخذه بورقيبة عند الكلام عنه من كل الجوانب دون تغييبٍ لجانب مهم في الهوية التونسية أي الأصل الأمازيغي المجهول والمغيّب عن التونسيين لأن هذا الجانب سيجعل من بورقيبة وبالرغم من كل انجازاته مجرد عميلٍ لغربٍ فرضَ هوية أجنبية على بلده هي السبب الرئيس لتخلفه، ومجرد مولى لصحراء لم نجنِ منها إلا الجهل والتخلف والانحطاط..
لكن وبالرغم من ذلك لا يزال هذا البلد ولا يزال هذا الشعب رائدا بين كل شعوب العروبة إسلام في مجال الحريات والحقوق والكفاح ضد ظلم العروبة-إسلام بالرغم من اعتقاده أنه أعرب من العرب أنفسهم.
(((أفتح قوسا عن الأولياء الصالحين، وطرفة حدثت مع أحد أبناء المنطقة المعروفين بسكره وبتعاطيه للتكروري في الثمانينات، هذا الشخص ذهب إلى ليبيا وفي منطقة غير بعيدة عن راس الجدير، أصبح وليا صالحا وبنى مزارا له كان يعمل فيه فيستقبل الناس ويداوي أمراضهم ويكتب لهم "حروزا" ضد العين والسحر و "يحل المكتوب" لمن لم تتزوج و "يخصب الأرحام" لمن لم تنجب وتخشى أن يطلقها زوجها إلخ من كراماته، لكنه سرعان ما اكتشف الناس كذبه فهدموا له زاويته وصادروا كل الأموال التي جناها منهم وأبقوه مقيدا ثلاثة أيام قال أنه خلالها ضربه كل سكان تلك المنطقة وتفت عليه النساء والصبية، ثم أطلقوا سراحه ولم يتركوه إلا بعد أن عبر المعبر الحدودي بين ليبيا وتونس وتوعدوه إن هو عاد إلى ليبيا مرة أخرى أن يقتلوه: كنا أطفالا عند عودته إلى البْلَادْ، وتلك القصة تربينا عليها فكانت نتيجتها أن "الليبيّة أغبياء ضحك عليهم الصادق كَيَّافْ التكروري".. عم الصادق بحثتُ عنه - رفقة صديق مهتم بتاريخ المنطقة وبنوادر أهلها - وقابلته قبل وفاته بالسرطان، فأكد لي حقيقة القصة وقال لي ضاحكا "الليبيّة عْطَاوْنِي طْرِيحَةْ نَبَّاشْ القْبُورْ آمَا حَتَّى آنَا نِسْتَاهِلْ". فرويتُ له طرفة حقيقية وقعتْ مع أحد الفلاحة في المنطقة، حيث ذهب للسوق لبيع بقرة "هُولَانْدِي"، ورفض بيعها لكل من أرادوا شراءها وانتظر وصول أخيه للسوق ليبيعها له، وبعد مدة اكتشف الأخ أن البقرة عاقر لا تلد، وعند احتجاجه على أخيه على غشه له وعلى "سواد قلبه" سائلا لماذا لم يبعها لغريب على الأقل بدلا من أخيه، أجابه أن الغريب قد يُسبب له المشاكل وربما ضربه أما أخوه فسيغضب قليلا ثم ينسى القصة: "غُشْ خُوكْ خِيرْ مِ البَرَّانِي، وْقُلُّو وِلْدْ أُمِّي مَا يْخَلِّيكِشْ وَحْدَانِي".)))








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاميرات مراقبة ترصد فيل سيرك هارب يتجول في الشوارع.. شاهد ما


.. عبر روسيا.. إيران تبلغ إسرائيل أنها لا تريد التصعيد




.. إيران..عمليات في عقر الدار | #غرفة_الأخبار


.. بعد تأكيد التزامِها بدعم التهدئة في المنطقة.. واشنطن تتنصل م




.. الدوحة تضيق بحماس .. هل يغادر قادة الحركة؟ | #غرفة_الأخبار