الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تورغينيف وعصره/ القسم الرابع

دلور ميقري

2018 / 11 / 14
الادب والفن


5
" الآباء والبنون "، لاقت استهجاناً شاملاً من الانتلجنسيا الروسية الشابة، بزعم أنّ مؤلفها تحيّز إلى " الآباء " وأنه قدّم بصورة كاريكاتورية بطله المؤمن بالنهلستية ( العدمية ). لقد علق تورغينيف على ردة الفعل هذه، حزيناً محبطاً: " هذه الرواية، التي انتهى بسببها ـ وإلى الأبد على ما يبدو ـ ميل جيل الشباب إليّ وحسن موقفهم مني ". (1)
نحى الكاتب باللائمة على النقاد في شأن سوء الفهم، الذي قوبلت به " الآباء والبنون " من لدُن أولئك الشباب. وأسمى بشكل خاص مجلة " سوفريمنك "، التقدمية الإتجاه، كمحرض أساسي من خلال مقالات كتّابها عن الرواية. ولم يُشفع لمؤلفها، أنه زينّ صفحتها الأولى بإهداء إلى ذكرى بيلينسكي؛ أهم نقاد عصره، والمعروف بنزعته اليسارية ونقده الجريء للنظام القيصري. كذلك لم يخفف من وطأة تلك الهجمات، امتداح الرواية من قبل ناقد كبير من نفس النزعة، وهو بيساريف، أو من دستويفسكي وكان آنذاك متربعاً على قمة مجده الأدبيّ. هذا الأخير، فتحَ بابَ المصالحة مع مؤلف الرواية، المثيرة للجدل، حينَ كتب في إحدى مقالاته: " ما أكثر ما عاناه بسبب بازاروف، الإنسان القلق المتململ ( وذلك سمة القلب الكبير ) رغم عدميته النهلستية ". وعلى الأثر، تلقى دستويفسكي رسالة من تورغينيف، أشاد فيها بفهمه لمهمة الرواية " بأعمق من الآخرين " ـ على حدّ تعبيره. (2)
مع ذلك، كان الجدل المصاحب لصدور " الآباء والبنون " قد جعل مؤلفها على كل لسان في روسيا. وانتشرَ مصطلح " النهلستي " هناك، كالنار في الهشيم؛ ولو أن ذلك، غالباً، ترافقَ مع سوء الفهم والريبة. ثم سرعان ما انتقلت الضجة إلى أوروبا ( وفرنسا بشكل أقوى )، ليُصبح تورغينيف هنالك معروفاً كشخصية أدبية مرموقة ويُقبل القراء على مطالعة رواياته مترجمة إلى لغاتهم. بدَوره، شعر تورغينيف بالارتياح جراء ردة الفعل الإيجابية على روايته في أوروبا، وها هوَ بعيدَ صدورها يبدأ جولة جديدة من أسفاره في ربوعها، فيزور ألمانيا وايطاليا قبل أن يحط رحاله في فرنسا. ثمة، في باريس ـ كما سبقَ وذكرنا في سياق الدراسة ـ أرتبط بصداقة عُمر مع مغنية الأوبرا فياردو غارسيا، علاوة على علاقاته الوثيقة بكبار الأدباء الفرنسيين.
على أنّ علاقة تورغينيف، في المقابل، ما لبثت أن ساءت مجدداً مع أديبَيّ بلده البارزين في عصره؛ وأعني، دستويفسكي وتولستوي. كلاهما أخذ على مواطنه، " نزعةَ التغريب المتزايدة في أدبه "، بحَسَب رأيه، وأنه يريد في مجال الفكر إحلالَ المرجعيات الأوروبية بمحل الروسية. في إحدى رواياته الأخيرة، " الشياطين "، سخرَ دستويفسكي من ندّه الأدبيّ من خلال إشارته لشخصية مبتدعة تحت اسم " كارمازينوف "؛ بصفته روائياً عابثاً وقلقاً من الشباب المتحرر. ولم تكن هذه المرة الأولى، التي يُقحم فيها ذكر تورغينيف في أعمال مواطنه العظيم. ففي رواية دستويفسكي، " الأبله "، يُسميه بشكل مباشر بالقول على لسان إحدى الشخصيات: " ومتشيّع لذلك المذهب العدمي المعاصر، الذي أوضحه السيد تورغينيف ". (3)
المفارقة هنا، أن دستويفسكي لم يفقد شعبيته بين الشباب، على الرغم من أن أعماله الأدبية آلت أكثر فأكثر إلى التبشير ب " المسيح الروسيّ الجديد ". كان من الممكن، والحالة هذه، أن تكون كراهيته مفهومة من قبل الأوساط التقدمية لولا أنه عُمّد في فترة فتوته بحوض الآلام بسبب انضمامه لحلقة ثورية وما كان من اعتقاله ونفيه. بينما تورغينيف، بقيَ في نظر تلك الأوساط أديباً من منبت مشبوه، نبيل وإقطاعيّ!

من ناحيته، كان تولستوي أكثر حدّة في خصامه الفكريّ مع مؤلف " الآباء والبنون ". إنه لم يكتفِ بموقفه المذكور آنفاً، بشأن " نزعة التغريب "، بل وأيضاً اتهمه بالسعي لنشر الإلحاد عبرَ أعماله الأدبية. وبلغ الخصام درجة الصدام الشخصيّ، حتى أن تولستوي تحدى ذات مرة صديقه اللدود ودعاه للمبارزة. ومع أنه أعتذر عن ذلك، وبادر إلى مصالحته عن طريق مرافقته في رحلة إلى الخارج، فإنه ذكر ساخراً أن " صحبته مملة! ". والمعروف، أنهما بقيا على قطيعة تقريباً لمدة تقارب العقدين من الأعوام. حينَ أخلد تولستوي في أواسط عمره إلى حالة من العزلة والزهد، الأقرب إلى التنسك، بادر تورغينيف إلى مناشدته العودة للحياة والأدب.

(1) ايفان تورغينيف، المختارات في خمسة مجلدات ( المجلد 3 ) ـ الطبعة العربية في موسكو 1985
(2) المصدر السابق
(3) روايتا " الشياطين "، و" الأبله "، الترجمة العربية لسامي الدروبي ضمن الأعمال الكاملة لدستويفسكي ـ موسكو دار التقدم ( بلا تاريخ )

> للبحث صلة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا