الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سفرة الى المانيا برفقة الشاعر محمد مهدي الجواهري والأستاذ الدكتور فيصل السامر في عام 1964

عبد الأمير رحيمة العبود

2018 / 11 / 14
المجتمع المدني


في شهر حزيران من عام 1964 و بينما كنت متجها بسيارتي الخاصة برفقة صديقي الفنان ماجد كامل الى بناية جامعة الاقتصاد في مدينة برلين في المانيا الديمقراطية استوقفني زميلي كاظم حبيب برفقة بعض زملائه، و أخبرني بانهم يفتشون عمن يساعدهم على ارسال كل من الشاعر محمد مهدي الجواهري و الدكتور فيصل السامر بسيارته الخاصة الى مدينة ((فايمر)) الالمانية لحضورهما دعوة للاحتفال بذكرى الشاعر الألماني ((شيلر)) و لمدة اربعة ايام، وقد وافقت على طلبهم في الحال، و اعتبرت تقديم هذه الخدمة المجانية فرصة ثمينة للتعرف على هاتين الشخصيتين المرموقتين.
و اتجهنا حالا الى الفندق الذي يقيمان فيه، و بعد فترة وجيزة من التعرف عليهما، ركبنا سيارتي و اتجهنا بهما برفقة صديقي ماجد كامل نحو الطريق السريع الذي يوصلنا الى مدينة ((فايمر)) التي تبعد 223 كيلومتر عن مدينة برلين.
كان الطقس لطيفا، و الطريق جميلا، يزدان بالأشجار الجميلة و البساتين الخضراء المنظمة و القرى الجميلة التي تترامي على جانبي الشارع السريع بين آونة و اخرى.
وما أن انطقت بنا السيارة بدأ الدكتور فيصل السامر يثير الأسئلة المتنوعة بأسلوبه الرقيق الواضح للتعرف على شخصيتنا انا و الاخ ماجد، سواءً أكان حول طبيعة دراستي للدكتوراه و الاختصاص الذي اعمل بموجبه، و البرنامج الدراسي و مدى تقييمي لذلك البرنامج، أم حول عمل صديقي ماجد كمصور في التلفزيون الألماني، و مدى تفاعله مع ذلك العمل، بينما بقي الشاعر الجواهري ساكتا مكتفيا بالاستماع الى احاديثنا لفترة طويلة.
و مع مرور الوقت كان حديث الدكتور فيصل يتناول جوانب عديدة تثير اهتماماتنا و مشاركتنا في مناقشته، فتارة يستفسر عن مدى نجاح التجربة الاشتراكية في المانيا الديمقراطية بالمقارنة مع الازدهار الاقتصادي الذي لاحظه في مدينة برلين الغربية التابعة للنظام الرأسمالي، و تارة اخرى يتحدث عن طبيعة الشعب الالماني الذي يتميز بحب العمل و الانضباط الدقيق في انجاز متطلباته، و كذلك تقيده الصارم بالأنظمة والتزامه بالقوانين. ، و أتذكر بأن صديقي ماجد قد علق على هذه الملاحظة بان النظرية الماركسية لا تؤمن بوجود طبيعة ثابتة عند البشر، بل انها تتأثر كثيرا بالعوامل الاقتصادية، و العلاقة بين قوى الانتاج و علاقات الانتاج، و ان طبيعة الانسان و كفاءته و قدرته تتغير مع تغير تلك العلاقات.
و هنا ثارت ثائرة الشاعر الجواهري منتقدا بشدة هذا التفسير، قائلا، ان كل انسان يولد بطبيعة و قابلية و موهبة محددة، و هو يستمر طوال حياته على هذه القابليات و تلك المواهب، و ليس للعوامل الاقتصادية و التربية و التعليم الا دور محدود في تهذيب هذه القابليات او تغيرها جذريا، و ضرب لنا مثلا عن موهبته الشعرية التي برزت بوقت مبكر من طفولته، و لم تتغير بل ازدادت كما تعلمون حتى الان.
و ذكر لنا بأنه نظم الشعر و هو لمّا يزل في السنوات الاولى من دراسته الابتدائية، و كان والده يصطحبه الى بعض المجالس الأدبية في مدينة النجف ليلقي امام الحاضرين بعض اشعاره و هو طفل صغير. كما انه كان يحفظ الشعر الذي يسمعه لأول مره بعد الاستماع اليه. و هي موهبة يتميز بها شخصيا و ليس للتعليم دور في تبلورها.
و ذكر لنا ان احد الميسورين في مدينة النجف قد راهنه و هو طفل صغير اثناء انعقاد احد المجالس الادبية بانه سوف يدفع له ليرة ذهبية كاملة لو انه استطاع اعادة ترديد قصيدة من عشرة ابيات بعد سماعها لأول مرة، ثم قام هذا الشخص بقراءة تلك القصيدة غير المعروفة، و بعد الانتهاء من قراءتها قام الجواهري بإعادة قراءة القصيدة بالكامل بعد سماعها لأول مرة ولمرة واحدة، عندها منحنه ذلك الرجل الليرة الذهبية في الحال. ثم قال مؤكدا "ان هذه الموهبة الشعرية قد ولدت معي و بقيت معي حتى الان، و لم تغيرها الظروف الاقتصادية و غير الاقتصادية".
ثم ذكر لنا بأنه لم يخطط لكتابة القصيدة، بل انه يجدها امامه ثم يقوم هو بمجرد نقلها على الورق لا أكثر، "و هذه هي الموهبة التي خلقت معي و لم تتغير".
و بعد مرور قرابة اربع ساعات كانت حافلة بالاحاديث الشيقة و الممتعة و المفيدة وصلنا ليلا الى مدينة ((فايمر)) و اقمنا في احد فنادقها و في صباح اليوم الثاني حضرنا الاحتفال الذي اقيم تكريما لذكرى الشاعر الالماني ((شيلر)) و في بداية برنامج الاحتفال رحب رئيس اتحاد الادباء الالمان بحضور شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري و الوفد المرافق له، و قد اقترن ذلك بالتصفيق داخل القاعة، ثم القيت الكلمات العديدة بهذه المناسبة، و قد قمنا انا و الأخ ماجد بترجمة المهم منها الى ضيفينا، و بعدها حضرنا دعوة الغداء التي اقامها لنا اتحاد الأدباء الالمان في احد مطاعم المدينة، ثم قمنا بجولة للتعرف على بعض المناطق المهمة في تلك المدينة.
و في اليوم الثالث ترك لنا المجال باستثمار الوقت كما نشاء لزيارة بعض المناطق في تلك المدينة، و في اليوم الرابع عدنا الى مدينة برلين سالكين الطريق ذاته باتجاه برلين العاصمة. و قد تخللت سفرتنا ذات الاحاديث الممتعة و المفيدة التي كان يثير اغلبها الدكتور فيصل السامر.
و رغم ان الفترة خلال هذه السفرة كانت قصيرة، لكنها تمخضت عندي عن بعض الملاحظات حول شخصية الاستاذين الكريمين الشاعر محمد مهدي الجواهري و الدكتور فيصل السامر. لعل اهمها هو انني لاحظت خلالها حالة الرغبة و الشغف العارم لدى الشاعر الجواهري للتعرف و التحدث مع النساء الالمانيات الجميلات، فقد تكررت محاولاته خلال هذه الايام لمرات عديدة، بالتحدث مع من يلاقيهن من النساء الجميلات و دعوتهن الى احد المقاهي او المطاعم للتعرف على شخصياتهن و كانت تلك المحاولات تجابه دائما بالاعتذار.
و في احد الايام و بينما كنا نتجول في احد المخازن ابتسمت له احدى النساء الجميلات، فما كان منه الا ان بادرها بالتحية و الاستفسار عن تلك الابتسامة الجميلة، و كان جوابها هو انها اعجبت بالقبعة الجميلة التي كان يضعها على راسه لأنها لم تشاهد مثيلا لها في السابق. وقد علمت فيما بعد بأنها كانت سدارة فيصلية من باكستان مصنوعة من الفرو اختطفها من كاظم حبيب وأكد له بأنها تلائمه أكثر مما تلائم كاظم، فقدمت هدية متواضعة للجواهري.
و في يوم اخر فوجئنا بانه قام بدعوة عدد من النساء الالمانيات للعشاء في المطعم التابع للفندق الذي نسكن فيه، و قد كانت كلفة تلك الدعوة بالغة بالقياس لإمكانياتنا المالية حينذاك، و هو ما اضطرنا الى الاستعانة بزملائنا من الطلبة العراقيين في مدينة ((فايمر)) لسداد تكاليف تلك الدعوة.
في كل الاحوال ان هذا الاهتمام و الشغف نحو تكوين العلاقة مع النساء الجميلات الذي لاحظته عند الشاعر الجواهري خلال تلك السفرة قد اثار استغرابي، سواء أكان خلال تلك الفترة بل و حتى الان، و انا احد المعجبين و المتابعين و الحافظين لعدد من اشعار الجواهري، بل انني بسبب بلاغته الشعرية اعتبره بحق شاعر العرب الأكبر. استغرابي من كون مشاعر الغزل و الحب و الجمال لا تحتل الا نسبة ضئيلة من قصائد الجواهري، في حين تشكل مشاعر الحماس الوطني، و الهجاء، و المديح الجزء الاكبر من قصائده، و ربما هي الطاغية على غالبية اشعاره.
و قد اثار استغرابي كذلك غياب قصائد الغزل و الحب و الجمال التي يغنيها المطربون فتثير البهجة والفرح و الارتياح عند المستمعين اليها، على غرار القصائد المغناة للشاعر نزار قباني و مظفر النواب، من مجمل قصائده. ولو استثنينا قصائده الغزلية مثل جربيني، و سلمى، و افروديت و غيرها من القصائد التي اطلقها خلال المرحلة ما قبل 1934 فأن قصائده في الحب و الغزل خلال المرحلة اللاحقة كانت قليلة جدا. (3)
و الملاحظة الأخرى هي ان الأستاذ الجواهري لم يكن في هذه السفرة محدثاً ممتعاً، بل انه بشكل عام كان مستمعاً جيداً، و هو في الغالب لا يفضل التحدث الا بما يتعلق بتمجيد شخصه و اشعاره، كما انه بشكل عام حساس في علاقاته مع الاخرين كالكثيرين غيره من الشعراء، و من الصعب كسب رضاه خلال سفرة طويلة كهذه، و هو ما حصل معنا انا و الأخ ماجد كامل حينما كنا متطوعين لخدمته دون مقابل.
اما شخصية الدكتور فيصل السامر فيعجز المرء عن وصف الصفاة الجميلة و الرائعة التي كان يتسم بها، فقد كان متواضعا الى حد بعيد، و واضحا في التعبير عن اراءه و مشاعره، و كان حديثه المتنوع و المستمر يتميز بالمتعة و الفائدة. لقد كان حب الاطلاع والتعرف على ألمانيا وتجربتها بارزاً مثل أي باحث جاد. لقد تعلمنا منه خلال هذه السفرة جوانب كثيرة في الشؤون الثقافية والاجتماعية و السياسية لا نزال نذكرها بسرور حتى الان، لقد حاول مرارا ان يشعرنا برضاه و عبر لنا اكثر من مرة عن شكره حول تطوعنا لخدمتهما طوال تلك السفرة.



الملحق

1) ولد شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري في مدينة النجف الاشرف بتاريخ 26 حزيران 1897 عن اسرة دينية و ادبية عراقية عريقة، بدأ ينظم الشعر و هو طفل صغير و قد صدرت له اول مجموعة شعرية و هو في الخامسة و العشرين من العمر، عمل في البلاط الملكي بعد تتويج الملك فيصل الاول و استقال منه بعد ثلاثة سنوات، و اسس جريدة الفرات التي اغلقتها الحكومة فعمل معلما في ثانويات بغداد و في عام 1936 اصدر جريدة الانقلاب و بعدها اصدر جريدة الرأي العام.
و في عام 1946 اصبح عضوا في الحزب الوطني و في عام 1947 انتخب عضوا في مجلس النواب العراقي و استقال منه بعد مرور عام لمعارضته معاهدة بورتسموث و التي كان ضحيتها شقيقه جعفر الذي رثاه بقصيدتي ((أخي جعفراً)) و ((يوم الشهيد)). و في عام 1950 اختير عضوا في مجلس السلم العالمي، وما ان حل عام 1956 حتى طلب اللجوء السياسي في سوريا و عمل في تحرير مجلة الجندي السورية، و بعد ثورة 14 تموز 1958 عاد الى العراق و في عام 1959 اصبح اول نقيب للصحفيين العراقيين لكنه في عام 1961 سافر الى تشيكوسلوفاكيا بعد تأزم علاقته مع الزعيم عبدالكريم قاسم و طلب اللجوء فيها، و في عام 1963 اسقطت عنه الجنسية العراقية، لكنه عاد الى العراق في عام 1968 بدعوة من الحكومة العراقية، ثم غادر العراق في عام 1980 ليستقر في براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا، وفي العام 1983 انتقل للعيش في دمشق بدعوة من رئيس الجمهورية السورية، وكان يتنقل بين براغ ودمشق، ثم استقر في دمشق منذ أواخر الثمانينيات وإلى حين وفاته بتاريخ 27 حزيران 1997 و دفن في مقبرة الغرباء في السيدة زينب في مدينة دمشق.
2) الاستاذ الدكتور فيصل السامر احد الشخصيات العلمية و السياسية العراقية المرموقة، ولد في محافظة البصرة في عام 1924, و اكمل دراستة البكلوريوس و الماجستير و الدكتوراه في جامعة القاهرة باختصاص التاريخ الاسلامي، و في عام 1953 بعد عودته الى العراق قام بتدريس مادة التاريخ الاسلامي في دار المعلمين العاليه، لكنه ترك العراق في عام 1955 متجها الى الكويت بسبب نشاطه السياسي المعارض و انتمائه لمنظمة السلم العالمية و ملاحقته من قبل الاجهزة الأمنية العراقية، و في الكويت عمل مدرسا في احد المعاهد العالية، ثم عاد الى العراق بعد ثورة 14 تموز عام 1958 ليشغل منصب مدير التعليم العام في وزارة المعارف، و رئاسة نقابة المعلمين العراقية، و في عام 1959 شغل منصب وزير الارشاد و خلال فترة وزارته قام بتأسيس الفرقة السمفونية العراقية و دار الاوبرا و وكالة الانباء العراقية و بعد انقلاب 1963 رحل الى تشيكوسلوفاكيا ليعمل فيها استاذا للتاريخ في جامعاتها، لكنه عاد الى العراق في عام 1969 و عين استاذ و رئيسا لقسم التاريخ بجامعة بغداد، و استمر نشاطه في التدريس و التأليف و النشر الى حين وفاته في عام 1982. له مؤلفات و دراسات عديدة اهمها كتابة ((ثورة الزنج)) و كتاب الاصول التاريخية للحضارة العربية الاسلامية، و كتاب العرب و الحضارة الاوربية.
3) قارن سليمان جبران: قراءة في غزل الجواهري المكشوف، الحوار المتمرن في 24/10/2017 و كذلك عبدالجبار العتابي: الجواهري و حكايات عن النساء اللواتي مررن في حياته، الانترنت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عاشت ايدك ابو سامر خوش مقاله لطيفه ومفيده تحياتي
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2018 / 11 / 16 - 05:29 )
استمتعت جدا بمقالتك الحلوه ومناسبه لعمرك واعمارنا اكثر من التخصصيات الاكاديميه التي ليس مكانها الافضل عمر الشباب الثاني
ومن اجل اثبات جديتي في التقييم الايجابي لمقالتك اتمنى عليك التدقيق في الملحقين ففيهما العديد من عدم الدقه-مثلا الجواهري عاد من سوريا في ال56 وليس بعد بعد ثورة 14تموز 58 وهذا الحدث مشهور جدا لانه مرتبط بقصيدته-العصماء-وبالمقاطعه التي منحت له في شيخ سعد الخ صحيح هذا امر محرج ولكن السكوت عن التريخ في العوده اسلم
ومثال ايضا فيما جاء عن الراحل فيصل السامر فانه لم يسافر راءسا للكويت وانما بسبب البطاله والحاجه ولتحدي نظام نوري السعيد الخائن اخبرني المناضل الوطني والقانوني عبد الرزاق زبير انه والسامر واخرين انشؤا مطعما في شارع الرشيد تماما مقابل سينما الزوراء ونجح وعيشهم بعض الوقت وكانت اكلة البرياني من ابداعات طيب الذكر فيصل السامر-تحياتي

اخر الافلام

.. آلاف اليمنيين يتظاهرون في صنعاء دعماً للفلسطينيين في غزة


.. إيرانيون يتظاهرون في طهران ضد إسرائيل




.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون


.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة




.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟