الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تلويث الذوق العام

فاطمة ناعوت

2018 / 11 / 15
المجتمع المدني


تخيّلوا معي ذاك السيناريو التخيُّليّ (الذي لم يحدث) منذ خمسين عامًا: جاءَ شخصٌ غير كريم وألقى منديلا مُلوّثًا في أحد شوارع مصر النظيفة (آنذاك). تصدّى له حشدٌ من الناس؛ وقدموه للشرطة بتهمة تلويث الطريق. صعد الأمرُ للقضاء المثقف؛ وحُكم على ذلك المجرم بغرامة مالية ضخمة والحبس شهرًا. تناولت الصحفُ الخبرَ وصارت سيرةُ ذلك "المُلوِّث" الآثم على كل لسان. لم يحدث ذلك السيناريو بالطبع، لهذا صِرنا على ما نحن عليه الآن من فو ضى ودمامة.
في طفولتنا، كانت هناك لعبةٌ شهيرة اسمها "بنك الحظ". وهي تعريب للعبة غربية اسمها Monopoly (احتكار السلع). اللعبةُ عبارة عن بساط من الورق المقوّى مقسّمة إلى مربعات عند الحواف، يحمل كلُّ مربع اسم مُقاطعة أو عاصمة أو مدينة يمكن للاعب أن يشتريها بعملات ورقية مُقلّدة تدور بين اللاعبين. اللعبة تُعلّم الطفلَ طبيعة الحياة من بيع وشراء وقوانين وغيرها. وهناك مربعات لو وقف عندها اللاعب يقوم بتنفيذ الحُكم الصادر عليه. مازلتُ أذكرُ أحد تلك الأحكام. “ألقيتَ قمامةً في الطريق، ادفعْ غرامة خمسمائة جنيه، واذهب إلى السجن.” هكذا تعلّمنا في طفولتنا أن تلويث الطريق جريمة تستوجب العقاب. وكبرنا ولم نجد هذا يتحقق في الواقع المصري، بكل أسف. فكل نهار ومساء، نشاهد من يلقون القمامة في الطريق، مطمئنين أن لا قانون يلاحقهم. وإن تبرّعتَ وانتقدت ذلك السلوك المشين، سوف تسمع ما لا ترضى. لهذا تحوّلنا إلى شعبٍ نصفُه "يُلوِّث"، ونصفُه "يتلوَّث”، ويصمتُ صاغرًا. غدونا شعبًا نصفُه يُجرمُ في حق الوطن، والنصفُ الآخر يعتنقُ "الأنامالاية" مذهبًا؛ لأنه يخشى أن يدخل في صراعات، سوف تُحسَم في الأخير لصالح الأطول لسانًا والأبطش يدًا. و"الأنامالاية" مذهبٌ غير متحضر مشتقٌّ من عبارة "وأنا مالي!". تلك التي يقولُها المرءُ لنفسه، بعدما سمع قبلها عبارة: “وأنت مالك؟"، على لسان المخطئ أو المجرم؛ فتعوّد المرءُ فيما بعد أن يقولها لنفسه، صونًا لكرامته.
ولأن للتلوُّثِ أشكالا وألوانًا وأنواعًا. فقِسْ على ما سبق من تلويث الطرقات بالقمامة، تلويثَ العيون بالقبح المعماري وانعدام الأناقة في الأزياء، وتلويثَ الأنوف بالروائح غير الطيبة في الشوارع والحافلات، وتلويثَ الُأذن بالركاكة اللفظية والبذاءات والشتائم في المدارس والبيوت والشوارع وعلى الشاشات، وتلويثَ الروح بالتكفير والطائفية والإرهاب. ويمكن جمعُ كل ما سبق من تلوّثات في عبارة واحدة موجزة اسمها: “تلويث الذوق العام". وهو الاتهام الذي وجّهه الفنانُ المثقف "هاني شاكر" إلى شخص يُصدر من حنجرته أصواتًا مُنفّرةً، ويُطلق عليها "طربًا"!! والمدهش أن ذلك الغثاء الصوتي يجد له جماهيرَ وسامعين؟ ولكن، لا مجال للعجب لأن تلك الجماهيرية هي نتاجُ كل ما سبق من تلوّثات مجتمعة. فالحقُّ أن "دائرة التلوث الجهنمية" تشبه "الأواني المستطرقة" في علم الفيزياء. فهي دائرةٌ يُفضي بعضُها إلى بعض. فالقمامةُ في العيون، والركاكةُ في الأذن، والطائفيةُ في الروح، مع مرور الزمن والتراكُم، تؤدي جميعُها معًا إلى انهيار في "الذائقة العامة". وحين تنهار الذائقةُ العامة، فمن الطبيعي أن تتقبّل الإسفافَ الصوتي باعتباره غناءً وطربًا ونغمًا. والحقُّ أن السبب في هذا ليس مُدّعي الطرب وحسب. فمن حقّ كل إنسان أن يحلم بأن يصير مطربًا أو موسيقيًّا أو شاعرًا أو رسامًا. لكن غيابَ الحراك النقدي الحقيقي والواعي، وعدم الوقوف في وجه المُدّعين هو المسؤول الأول عن انهيار الذوق العام.
ولنعد إلى السيناريو التخيّلي في صدر المقال. تُرى لو كان قد حدث، هل كان سيتجرأ شخصٌ آخرُ على تلويث الشوارع بالقمامة؟ وهل لو تصدّى المجتمعُ بكامله لكل قبحٍ بصريّ نصادفه في المعمار والأزياء، هل كانت القاهرة مثلا ستصلُ إلى ما نراه اليوم من دمامة، بعدما حصلت على لقب "أجمل مدينة في العالم" عام 1925؟! وهل لو تصدّى المجتمعُ بأسره إلى كل ركاكة لفظية نصادفها في الطريق العام، هل كنّا سنصلُ إلى ما وصلنا إليه اليوم من تشوه سمعيّ؟! وهل لو تصدّى المجتمعُ بأسره إلى كل مُتطرف قبيح يُكّفر البشرَ ويوعز للحمقى بقتلهم، هل كنا سنصلُ إلى ما نحن عليه اليوم من إرهاب؟ طوبى للناطقين بالحق والخير والجمال، والخسرانُ للشياطين الأنامالية الصامتة.

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الآن في مصر المخروسة
عبد الله اغونان ( 2018 / 11 / 16 - 01:41 )
الآن في مصر المخروسة كل شيئ ملوث

السياسة والفكر والإعلام والصحة وحتى الدين

إذا تلوثت العين تلوصت السواقي

اخر الافلام

.. بينهم نتنياهو و غالانت هاليفي.. مذكرات اعتقال دولية بحق قادة


.. بسبب خلاف ضريبي.. مساعدات الأمم المتحدة عالقة في جنوب السودا




.. نعمت شفيق.. رئيسة جامعة كولومبيا التي أبلغت الشرطة لاعتقال د


.. في قضية ترحيل النازحين السوريين... لبنان ليس طرفًا في اتفاقي




.. اعتقال مناهضين لحرب إسرائيل على غزة بجامعة جنوب كاليفورنيا