الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التأسيس لدين إنساني من منظور كانطي

احمد زكرد

2018 / 11 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لاشك أن الفلسفة النقدية الكانطية قد جارت القطيعة بين الدين والعلم وبين الأخلاق والعلم، ولكنها أثبتت الوصال بين الأخلاق والدين. غير أن هذا الوصال معكوس، ليكون الدين تابعا الأخلاق، وينتقل من عبادة الله إلى عبادة الإنسان، يعني واجبات الإنسان نحو الإنسان، فليس هناك واجبات خاصة اتجاه الله. وبالتالي فالمشروع الكانطي يهدف إلى إحلال السلام بين الجنس البشري وهذا ما أوجب عليه أن يؤسس لدين كوني واحد كما شهدنا في المحور الأول من هذا الفصل. إذن فما السبيل لبناء دين إنساني أخلاقي والقطع النهائي مع الدين اللاهوتي؟ وعلى الرغم من أن الأخلاق تقود ولابد إلى الدين كما يقول "كانط": «الأخلاق إذا تقود ولا بد إلى الدين الذي بواسطته ترقى إلى فكرة مشرع أخلاقي خارج الإنسان. بحيث تكمن في إرادة تلك الغاية القصوى (خلق العالم) التي في الوقت نفسه، يمكن ويجب أن تكون الغاية القصوى للإنسان» . ومن هذا القول يتضح أن "كانط" يمجد الإنسان قبل كل شيء فالدين هو واجبات للإنسان اتجاه الإنسان مرضاة لله، وهنا نجد عند "كانط" العملة المفقودة؛ وهي الغيرية، وهذه الأخيرة التي تتخذ موقفا مركزيا في الواجبات الأخلاقية في الدين، وقد ذهب إلى هذا "كانط" حينما أقر أن طاعة القوانين في الدين أفضل من أداء الشعائر الجوفاء، بل إن الشعائر لم توجد إلا لضبط أكثر للقواعد الأخلاقية ، وإذا كانت الأخلاق تتركز على كيفية العمل الصالح فهي في حاجة ضرورية للعقل العملي، وضرورة ملحة لمسلماته. ففكرة الخلود دافع أساسي في العملية الأخلاقية، لأنه لا يمكن الإخلاص التام للواجب في هذه الدنيا، إذ لم نسلم بخلود النفس، وذلك لأن الذات الإنسانية تشعر بطموح اتجاه الحياة السعدية وغير النهائية. هنا يكون دافعها إلى العمل الأخلاقي مسنودا إلى ذلك التواصل بين الزمنين؛ زمان حاضر وآخر قادم في عالم اليقين، هكذا يكون الدين قد قدم الناحية الموضوعية للقيم الأخلاقية، فكانط يذهب إلى أنه من الضروري للأخلاق أن تسلم بالمسلمات التي هي: (وجود الله والحرية وخلود النفس)، معبرا عن ذلك بقوله أن مسلمة الحرية لازمة لكل الأحكام الأخلاقية فبدونها لن تكون الأفعال الأخلاقية ممكنة، فهي أفعال مستقلة ممكنة ، وبالتالي يكون العقل العملي هو المصدر الأول لكل الإثباتات الأخلاقية، بحيث لن يكون هناك قانون آخر إلا قانون الإرادة الخيرة، التي لا تعمل إلا لآن الواجب يلزم بالعمل لان الإرادة الخيرة هي خير مطلق. حيث المبدأ يجب أن يكون أمرا مطلقا، وخيرة لأنها إرادة إنسانية لا تفعل إلا بموجب القانون الأخلاقي، دون تصور شكل من أشكال الغاية الذاتية، وبالتالي فكانط قد جمع بين الناسوت واللاهوت، وجعل الإنسان مصدر التشريع الأخلاقي، فيمكن القول أن الإنسان عند "كانط" قد أصبح إله، بما أنه تجرد من تصورات الحالة الإنسانية الوجدانية، وأصبح يفعل على نحو يجعل قاعدته الذاتية قانونا كليا . رغم أن الإنسان كائن ينتمي إلى الطبيعة فلا يمكن اعتباره إلها، وبالتالي فالتعالي ليس من خصائص الإنسان، وهذه هي المقومات التي جاء بها عصر الأحياء الذي أعاد للإنسان إنسانيته، وأقر بالصورة المزدوجة له إنه جسد وعقل. وهنا ينفى التصور القائل أن الإنسان روحين؛ روح خيرة إنسانية و أخرى شريرة شيطانية، ويبقى الصراع قائم بين مبدأي الخير والشر من أجل السيطرة على الإنسان، لكن "كانط" أسس لتخليص البشرية من وجود الشر. باعتبار الإنسان والطبيعة في وئام ويكفي أن يطوع الإنسان إرادته لها كي يحيا في سعادة. لكن هذه الإرادة لا تجعل الإنسان فقط خير بل أيضا يمكن أن تجعله شريرا. فكما يقول "كانط": «من وجهة نظر أخلاقية للإنسان هو إما خير وإما شرير ومن الضروري أن يصبح كذلك أي إما خيرا وإما شريرا بفضل إرادته الحرة» . ولكن دائما يسيطر الخير على الشر والعقل على الحس والقانون الأخلاقي على الرغبات والميولات، ويقوم ملكوت الله على الأرض . إذن فكما أنزل سقراط الفلسفة من السماء إلى الأرض، أنزل "كانط" الدين من السماء إلى الأرض، فأصبح الدين منهاجا للحياة بحكم أنه يجمع بين النظر والعمل مزودا العقل بتفسير للكون ومقاصد الأعمال الإنسانية، وكذا كيفية صدور الإنسان وخلقه ومصيره. وهكذا يقدم الدين الرؤية الميتافيزيقية التي تمد الإنسان عبر وجوده وآماله الأنطولوجية في الحياة الثانية. وكما شهدنا أن الدين قد ألف مرجعية ضرورية للتفكير في العصور الوسطى في التوفيق بين النقل والعقل، ولكن الدين الفلسفي (الأخلاقي) عند "كانط" سوف يجمع كل هذه التفرعات في دين واحد، وغايته هو الإنسان باعتباره مصدر الحقيقة. وليست رهينة بالكنيسة.
إذن فكانط انتشل الدين من الفكر السكولائي، وتجاوز صورة الإنسان كما أصلتها الكنيسة وهي الإنسان الخطيئة. الإنسان موعود بالعقاب إذا تجاوز حقيقته الطبيعية. وبالتالي فالتأسيس لدين إنساني ما هو إلا تأسيس لإنسانية الإنسان. أي خروج الإنسان من حالة قصوره ، وهذا الخروج قد بدأ بنقد الدين الذي نتج عن حركة الإصلاح الديني مع "مارتن لوثر". وكذا حلول العقل كقوة ذاتية مكان كل القوى الأخرى، وقد اتسم هذا العقل ببناء نظام عملي منذ الثورة (كوبرنيك وغليلي)، اللذان قتلا في سبيل تحرير الإنسانية. هكذا أصبح إنسان العصر الحديث إنسانا آخر غير ذلك الذي عرفته العصور الوسطى، بانفصال الإنسان عن البعد اللاهوتي، واعتراف بحق الإنسان الإنساني الذي يعنى أنه جسد ورغبات وغرائز تريد الإشباع، وهو الإشباع الذي لا يمكن الحكم عليه حكما سلبيا بمعنى أنه خطيئة بل هو حق من حقوق الإنسان.
هكذا تبدو توجهات الحداثة مع "كانط" في العبور من مجتمع الوصاية إلى مجتمع العقلنة والحرية. وقد تحقق هذا العبور بالضرورة على مجتمع يقوم على الفضيلة ويفرض العقل على كل الجنس البشري كواجب عليه هو المجتمع الأخلاقي ، وللعيش داخل هذا المجتمع يستوجب العيش بسلام ودون حروب، وذلك يقتضي الالتزام الضروري مع تحقيق الواجب الأخلاقي، ففي هذا الصدد يطربنا "كانط" بقوله: «إنه مما يناقض العقل مناقضة بينة أن نسلم لفكرة الواجب هذه بما هي جديرة به في سلطان، ثم نزعم بعد ذلك أننا لا نستطيع إيذاء ما هو واجب» ، ومن هذا يتضح أن إقامة المشكلة الأخلاقية هو السلام، لأن تحقيق السلام هو شرط صادر عن تقديس الواجب الأخلاقي، لذلك إذا أردنا تحقيق السلام واقعيا حقيقيا علينا أن تبدأ من الواجب الأخلاقي. وإذا تحققت إمكانية الواجب تتحقق إمكانية السلام. وهذه الواجبات هي التزام الفرد بالواجب الأخلاقي نحو نفسه، حتى يقوم السلام مع نفسه أولا، والتزام الفرد بالواجب الأخلاقي نحو غيره حتى يحدث السلام مع الآخر، كما يؤكد "كانط" ذلك بقوله: «أحبب الله فوق كل شيء، وأحبب جارك كنفسك» . هكذا فإن محبة الآخر هي واجب أخلاقي، لأن قاعدة الذاتية يجب أن تكون قانونا كليا ، يسري على الإنسانية جمعاء وذلك من أجل توحيد الجنس البشري.
فالامتياز الذي يمتاز به الدين الأخلاقي هو كونه واجب أخلاقي اتجاه الذات والآخر، كأمر غير مشروط والصادر عن العقل (الإرادة الخير)، وبالتالي فإن هذه القوانين الأخلاقية أو الواجبات الأخلاقية توحد بين الجنس البشري. وهكذا يصرح "كانط" بأن« للعقل ملكة قادرة على أن تغرس فيه (الجنس البشري) شعورا باللذة والرضا المرتبطتين بالوفاء بالواجب»، واعتبار جميع الواجبات كأوامر إلهية . ومن أجل تحقيق الخير الأسمى كخير اجتماعي للجنس البشري وإقامة ملكوت الله على الأرض، وجب الامتثال داخل مملكة الغايات الشهيرة التي يكون كل عضو من أعضائها بوصفه كائنا عاقلا وفاعلا وهو يعتبر الإنسانية في ذاته، وفي الآخرين على أنها غاية في ذاتها. وباحترام كرامة كل إنسان وكل شخص مزود بالعقل. وبالتالي فكانط سيجعل الإنسان في خدمة الإنسان، وإن كانت وظيفة الإنسان لا تتحلى بمعنى إلا بالنسبة لسائر البشر؛ أي أن الإنسان يستمد قيمته داخل وسط اجتماعي، وبامتثاله لهذه المجموعة وباحترامه لها. فقد أدان "كانط" كل من استخدم الإنسان وسيلة، وإذلاله الذي يحرمه من حريته وهنا نستحضر المقولة الشهيرة والجليلة «افعل على نحو تعامل معه الإنسانية في شخصك كما في شخص غيرك. كغاية دائما وفي نفس الوقت، لا كمجرد وسيلة البتة» . إذن فكانط يدعو إلى المعاملة الإنسانية للإنسان، فإن كل كائن مهما كان (معوقا أو عجوزا أو مختلا) فإنه يفرض واجب العطف والحماية، ويفرض حتما مد يد العون بما هو عليه. بل يفرض أكثر من ذلك الاعتراف بكرامته واحترام ما كان يمكن أن يكون عليه واعتباره غاية في ذاته وليس مجرد وسيلة من أجل غاية أسمى منه.
إذن فكانط يبين للإنسان كيف يمكن أن يكون إنسانا، وما يفعل بحريته، وكيف يحافظ على كيان نفسه، وذلك لأن الإنسان وحده دون الحيوان هو الذي يجب عليه أن يسعى لتحقيق مصيره، وهذا لا يمكن أن يتم إن لم يكن لديه تصور عن مصيره، ولهذا فإن التربية يجب أن تكون تنويرا، يتعلم الإنسان منها كيف يفكر ؛ أي كيف يستعمل عقله من أجل سعادة الشخص فهو كفيل بأن يجعل نفسه سعيدا أو تعيسا، كما يقول "كانط": «فإن لسعادتك أنت وشقاءك أنت يتوقفان عليك» ، ومن هنا نستشف بأن كانط يقوم بتأصيل الإنسانية داخل الإنسان، و يجعل الدين (الكسموسي) يشمل سائر البشرية في كل زمان ومكان وترسيخ الفعل الأخلاقي في الإنسان من أجل الإنسان.
وبالتالي فالكانطية قد جعلت من الدين صورة أخلاقية ومبعثا للأمل الإنساني، وهي أيضا (الكانطية) مشروع أخلاقي وسياسي يفترض أسلوب التعايش الفاضل في المدينة الكونية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا


.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد




.. يديعوت أحرونوت: أميركا قد تتراجع عن فرض عقوبات ضد -نتساح يهو


.. الأرجنتين تلاحق وزيرا إيرانيا بتهمة تفجير مركز يهودي




.. وفاة زعيم الإخوان في اليمن.. إرث من الجدل والدجل