الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عودة العشائرية في العراق ... عودة جاهلية

داخل حسن جريو
أكاديمي

(Dakhil Hassan Jerew)

2018 / 11 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


كان المجتمع العربي في عصر ما قبل الإسلام مجتمعاً قبليّاً في البوادي والحواضر تحكمه القوانين والأعراف التي تضمن للقبيلة هيبتها،, لذلك شاعت بينهم العصبية القبلية, وكانت هذه العصبيَّة على مستويات تناسب الجماعة التي ينتسب إليها الفرد، فهو في قبيلته يتعصب لأسرته على سائر الأسر، والبطن الذي هو منه على سائر البطون، ويتعصب للقبائل التي يجمعها مع قبيلته أب واحد قريب على القبائل التي يجمعها مع قبيلته أب بعيد، وإلى جانب رابطة الدَّم هذه كانت روابط أخرى كالولاء والجوار والتحالف والمصاهرة، وكلُّها داعيةٌ إلى ضروب من التَّعصب متفاوتة القوة.ولما جاء الدين الإسلامي الحنيف حرّم العصبية القبلية , ففي الحديث النبوي الشريف " ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية ". وبرغم تعاليم الدين الإسلامي الحنيف التي تحرم العصبية القبلية , إلاّ أن المجتمعات العربية لم تستطع التخلص منها تماما , ذلك أن جذورها ضاربة في أعماقها حيث بقيت القبائل العربية تتفاخر بأنسابها حتى يومنا هذا , أكثر من تفاخرها بمنجزاتها ذلك أن قيمة الإنسان بعمله لا بنسبه كما يؤكد ذلك القرآن الكريم : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
وقدر تعلق الأمر بالعراق فقد عاش إزدواجية المفاهيم العشائرية الضاربة في القدم ومفاهيم الحياة المدنية المعاصرة عند تأسيس دولته الحديثة عام 1921, فقد اصدر الجنرال (فاشو) القائم باعمال قائد الحملة العسكرية في 27 تموز 1918 نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية. خوّل هذا النظام الحكام السياسيين صلاحيات خاصة تمكنهم من البت في القضايا الحقوقية والجزائية من خلال "مجلس قبلي" يتم تشكيله من قبل الحكام السياسيين انفسهم ، يضم المحكومين والشهود وينظر في المشاكل التي يكون احد طرفيها أو كلاهما من سكنة المناطق العشائرية . وكان الضابط السياسي مخولاً بنقض قرار المجلس القبلي، واستبدال عقوبة السجن بالجلد، وهو أسلوب استخدمته السلطات المحتلة للتنكيل بالعناصر التي تعترض سبيل مصالحها أو تهديد أمن قواتها المسلحة.لقد رفع هذا النظام من اهمية الشيوخ بأعطائهم مركزا معترفا به في النظام السياسي والقانوني وألزم عشائرهم بالاعتراف بمراكزهم الاجتماعية رسميا. استعان الحكام السياسيون بالشيوخ ورجال الدين في تحقيق الصلح بين بعض العشائر. كان الدافع الذي حدا بالبريطانيين لاصدار نظام دعاوى العشائر يعود بالدرجة الأولى إلى كسب الاقطاعيين وخاصة شيوخ العشائر وتحويلهم إلى قاعدة اجتماعية يستندون اليها في حكمهم للعراق.كما صدر عن القائد العام لقوات الاحتلال البريطاني للعراق في 21 تشرين الثاني سنة 1918 (قانون العقوبات البغدادي) وقد اعطيت له هذه التسمية بسبب انه نفذ في (ولاية بغداد) ثم مد تطبيقه الى الاجزاء الاخرى من العراق بعد ذلك.
وعندما صدر الدستور العراقي الاول سنة 1925 منح (جميع البيانات والأنظمة والقوانين التي اصدرها القائد العام للقوات البريطانية في العراق – ومن بينها قانون العقوبات البغدادي) وكذلك ما اصدره منه الحاكم الملكي العام والمندوب السامي البريطاني وحكومة الملك فيصل، منح الدستور كل ذلك قوة القانون الى أن تبدله أو تلغيه السلطة التشريعية. وقد استمر قانون العقوبات البغدادي نافذا من اليوم الاول من الشهر الاول من سنة 1918حتى تشريع قانون جديد للعقوبات الذي حل محل قانون العقوبات البغدادي وهو قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969حيث جاء في بعض أسبابه الموجبة أنه : "اصبح تبديل قانون العقوبات البغدادي بقانون جديد يساير الحياة العصرية لمجتمع متجدد كالمجتمع العراقي – حاجة ملحة نادى بها الكثيرون، ليس فقط في محيط القضاء والعاملين على تطبيق القانون، ولا في الاوساط الجامعية والدراسات الفقهية فحسب، بل في ميادين متعددة وكثيرة اخرى من اوساط المجتمع العراقي ايضا. وبضغط تلك الحاجة الملحة الى تشريع قانون جديد للعقوبات يساير روح العصر وحاجات المجتمع، يسد به الثغرات الكثيرة الموجودة في قانون العقوبات البغدادي .
تم إلغاء نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية بالمرسوم الجمهوري ذي الرقم (56) لسنة 1958 من قبل حكومة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، كما حدّ صدور قانون الإصلاح الزراعي لسنة 1958 من نفوذ زعماء العشائر اللذين كان الكثير منهم يتحكم بحياة مصير آلاف الفلاحين , فضلا عن توسيع رقعة التعليم لتشمل الكثير من القرى والأرياف الذي ساعد بنشر الكثير من القيم والمفاهيم الحضارية المدنية بين أبناء عشائر تلك القرى وتقريبهم أكثر إلى حياة سكان المدن وخضوعهم لقوانينها المدنية.أصبح جميع العراقيين سواسية أمام القانون في الحقوق والواجبات , وأصبح لزاما على أبناء العشائر تأدية الخدمة العسكرية الإلزامية أسوة بأقرانهم من سكان المدن. وفي أواخر عقد السبعينيات أصبح التعليم إلزاميا لجميع أطفال العراق في الريف والحضر. ثم جاء القانون العراقي رقم (34) لسنة 1981 بإنزال عقوبة لا تقل عن عشرين سنة سجنا لكل من احتكم إلى خارج منظومة القضاء الرسمية.
لقد قادت الأوضاع التي نشأت بعد الحرب العراقية – الإيرانية وحرب تحرير الكويت في 1991، وانتفاضة معظم المدن العراقية في آذار 1991 ضد النظام السياسي،إلى لجوء السلطة الحاكمة لشيوخ العشائر لفرض سيطرتها على المجتمع ، فنمت مظاهر وأشكال التنظيم العشائري، لتملأ فراغ المجتمع المدني المغيّب. وعادت العشائر لتسترجع قوتها ونفوذها من جديد، ليس بسبب ضعف الدولة فحسب، بل لأن الدولة شجعتها، فقامت بملء فراغ الدولة من خلال توفير الحماية لأفرادها وتولي مهمة القضاء القائم على الأعراف، وهكذا عادت العشائر لتنمو في عقد التسعينيات، وظهورما يسمى "شيوخ التسعينيات"، وهي زعامات عشائرية لم تكن معروفة على الساحة الاجتماعية, لكنها استمدت شرعيتها من السلطة الحاكمة التي عمدت إلى تفتيت العشائر الكبيرة وتقسيمها وتنصيب شيوخ وزعماء عشائر جدد موالين لها وربطهم بأجهزة السلطة من خلال تنظيمهم حزبياً وأمنيا,حيث أسس مكتبا خاصا بشؤون العشائر مرتبط برئاسة الجمهورية وتحت إشراف أحد أقرباء الرئيس.حدد قرار مجلس قيادة الثورة المنحل المرقم (24) لسنة 1997 عقوبة الحبس لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات على كل من ادعى بمطالبة عشائرية.
وبعد غزو العراق وإحتلاله عام 2003 أحيت السلطة الحاكمة دور العشائر بنص دستوري حيث جاء في الفقرة "ثانيا "من المادة (45) من الدستور العراقي : " تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية، وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون، وتعزز قيمها الإنسانية النبيلة، بما يساهم في تطوير المجتمع، وتمنع الاعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الانسان". تم تنظيم هذه المادة بقانون مجلس قبائل وعشائر العراق الذي تمت قراءته الأولى عام 2006 , كهيئة مستقلة ترتبط برئاسة الجمهورية، بهدف كسب ود وتأييد شيوخ القبائل والعشائر للسلطة الحاكمة. وطبقا لذلك تأسست مجالس قبائل وعشائر في جميع محافظات العراق .إستعانت سلطة الإحتلال الأمريكي بزعماء هذه العشائر بتأسيس ما عرف بقوات الصحوة لمطاردة الإرهابيين في محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين, كما إستعانت الحكومات اللاحقة بتنظيمات ما يعرف بالحشد العشائري للغرض نفسه.وبحكم أن العشائر ما زالت تمثل الغالبية في النسيج المجتمعي العراقي , فقد سعت الأحزاب والكتل السياسية المختلفة إلى كسب ود زعماؤها وتجيير أصوات أفرادها للفوز بمقاعد مجالس المحافظات ومجلس النواب والمناصب العليا في الحكومة وأجهزتها المدنية والعسكرية والأمنية في إطار تبادل المنفعة والمصالح بصرف النظر عن أحقيتها.
يتزامن صعود "القانون العشائري" مع ارتفاع مؤشر عدم ثقة المواطن بالقضاء الرسمي، بسبب استشراء الفساد والمحسوبية فيه، وانغماسه في بيروقراطية بطيئة، واستمرار فقدان الأمن وانتشار المليشيات والجماعات المسلّحة وضعف الحكومة، ومعاناة أجهزة الأمن من إالفساد والترهل. ذكر تقرير لمنظمة "لأجل العراق" الحقوقية، صدر أخيراً، أن "بغداد شهدت ( 800) محكمة عشائرية خلال الشهر الماضي، بمعدل (27) محكمة يومياً، بينما شهدت النجف( 1200) محكمة عشائرية، بمعدل ( 40) محكمة يومياً، والبصرة (2450 ) محكمة عشائرية، بمعدل ( 82 )محكمة يومياً. وباتت وظيفة المحاكم الحكومية مقتصرة على تسجيل عقود الزواج أو الطلاق، ونقل الملكية، وتلبية حاجات شريحة العراقيين، الذين لا ينتمون لعشائر.
تعتبر المحاكم العشائرية في العراق واحدة من مظاهر التخلف الذي حلّ بالعراق بعد غزوه وإحتلاله عام 2003 , حيث تحكم القوانين والعادات العشائرية المجتمع العراقي، بشكل شبه كامل، في ظل غياب سلطة الدولة، وعدم قدرة الأجهزة الأمنية على تنفيذ القانون على العشائر في حال مخالفتها للأنظمة والقوانين العراقية، حتى باتت سلطة العشيرة أعلى من سلطة الدولة نفسها.وتخشى قوات الأمن من مواجهتها في فض نزاع عشائري، كونها تمتلك نفوذا ودعما سياسياً في الدولة. بينما كان ينص القانون العراقي السابق، ذي الرقم ( 34 ) لسنة 1981، على إنزال عقوبة السجن لمدة لا تقلّ عن( 20 ) عاماً ً، لكل من احتكم خارج منظومة القضاء الرسمية في البلاد. وكانت العقوبة تطال طرفي النزاع وقاضي المحكمة العشائرية، وهو ما أدى إلى إضعاف النظام العشائري ، في مقابل تعزيز قوة القضاء الرسمي في البلاد.
وكنا نأمل بتطوير القوانين العراقية لتتماشى مع روح العصر وتقدم العلوم والمعارف ومواكبة التقدم الحضاري والإنساني الذي تشهده شعوب العالم في مغارب الأرض ومشارقها , والإسهام بتنمية مجتمع عراقي مدني متحضر تسوده العدالة وتنظم حياته في قراه وريفه ومدنه, قوانين عصرية تحفظ للإنسان حريته وكرامته دون أي تمايز بين سكانه , وإذا بنا نشهد تراجعا مخيفا في قيمه وأعرافه , وكأنهم بذلك يريدون العودة بالعراق حقا إلى عصر ما قبل الصناعة الذي وعد به الأمريكان قبل غزوه وإحتلاله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آثار القصف الإسرائيلي على بلدة عيترون جنوبي لبنان


.. ما طبيعة القاعدة العسكرية التي استهدفت في محافظة بابل العراق




.. اللحظات الأولى بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلا في حي السلط


.. مصادر أمنية عراقية: 3 جرحى في قصف استهدف مواقع للحشد الشعبي




.. شهداء ومفقودون في قصف إسرائيلي دمر منزلا شمال غربي غزة