الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيها الكهنة هذه ليست لغتنا

محمد أبو قمر

2018 / 11 / 18
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



اللغة العربية ليست لغة المصريين ، وأظن أن كل المشكلات التي تواجه العقل المصري تعود أساسا إلي هذا التناقض الرهيب بين مكونات المصري البيولوجية والنفسية والعصبية والاخلاقية والعلمية ، وبين لغة تشكلت في واقع اخلاقي واجتماعي ونفسي وعصبي لا يمت بأية صلة للواقع المصري الذي تشكلت فيه وتكونت من تفاصيله بُنية الشخصية المصرية التي يتداخل في بنائها الفن والطب والهندسة وعلوم الفلك والحرف المختلفة والأنساق الأخلاقية والانسانية والمعرفة الدينية فضلا عن النظام والايمان بالتعايش والعيش في إطار سياسي أعلي من الانتماء القبلي والعشائري ، إذ ثبت أن المصريين هم أول شعب في التاريخ عرف ماذا تعني الدولة وكيف ينبغي أن يكون احترامها فوق كل انتماء قبلي أو عشائري ، فضلا عن أنهم أول شعب بني نسقا للأخلاق في التاريخ الانساني كما يقول بريستد في كتابه العظيم ( فحر الضمير ).
اللغة ياسيدي هي وعاء التفكير ، وهي المواد الأولية التي تتشكل منها حياتنا ، كل تصرف إنساني مرهون بمدي توفر تلك المواد بوفرة لكي يتمكن الانسان من اختيار البدائل الأكثر نفعا والأكثر جدوي ، لو ضاق هذا الوعاء ولم يكن به ما يمنحنا القدرة علي التفكير في بدائل عدة لضاقت حياتنا ، وتجمدت ، وتحجرت ، ولصرنا مسيرين لا نملك أي فرصة للاختيار نتصرف بعشوائية وبطريقة رد الفعل دونما حساب لعواقب أو نتائج أفعالنا .
ولقد كانت لغة المصريين القديمة علي ما يبدو من الآثار العلمية والفنية ومن موروثات الحكمة والأخلاق لغة غنية غزيرة معبأة بتجارب وخبرات ومحاولات إنسانية عميقة لجعل الحياة أفضل وأرقي ، وتثبت المكتشفات الأثرية العظيمة أن المصريين كانوا يفكرون بلغة تشتمل علي أقسام وأنساق متنوعة ، منها ما هو علمي ، ومنها ما هو أخلاقي ، وديني ، وإنساني كما تثبت تلك الرسائل التي كان الحاكم يرسلها إلي رئيس عماله الذين يقومون بأعمال النحت أو التشييد أو الزراعة يحثه فيها علي معاملة هؤلاء العمال معاملة إنسانية ومنحهم كافة حقوقهم بلا نقصان ودونما تأخير ، ولك أن تنظر في موسوعة سليم حسن لتري كيف كانت دولة الفراعنة - فيما يتعلق بحقوق الانسان أسبق وأكثر حداثة من دول متقدمة في عصرنا الحالي.
هذه الأنساق وهذه الأقسام التي احتوتها لغة المصريين القدماء والتي مكنتهم من إنجاز ما أنجزوه لم تتوفر في حينها للغة العربية التي كانت مستعملة في الجزيرة العربية ، ففي حين كان المصري يفكر في تحنيط جثث موتاه لكي يبقيها مستعدة يوم القيامة لاسترداد الروح التي فقدتها وفقا لقوانين الطبيعة أو وفقا للإرادة الإلهية ، كان العربي في الجزيرة العربية يقوم بدفن بناته أحياء للتخلص مبكرا من مسئولياته المادية والاخلاقية تجاههن ، هذا الفرق الرهيب بين الفعلين هو فرق في التفكير ، فرق في المقدرة علي التفكير ، هو فرق في محتويات الوعاء التي تتيح للانسان فرصة الاختيار بين البدائل ، هل يفعل كذا أم يفعل كذا ، هذا الفرق بين الفعلين ، بين ماكان يفعله إنسان الجزيرة العربية مع بناته وما يفعله الانسان المصري مع أمواته هو فرق في مدي اتساع أو ضيق اللغة التي يفكر هذا أو ذاك بها ، فاللغة العربية وفقا للطبيعة الجغرافية ، ووفقا لأشكال الحياة الاجتماعية في الجزيرة ، ووفقا للنشاطات الاقتصادية المتاحة ، ووفقا للقبلية والعشائرية شديدة التحكم في مصائر الأهالي ، ووفقا للنزاعات والصراعات وأعمال السلب والنهب ضد القوافل التجارية المختلفة ، وفقا لهذا كله ولغيره من تفاصيل الحياة في الجزيرة لم تكن اللغة العربية تشتمل علي أقسام أو أنساق تفيد ميل إنسان الجزيرة العربية لتغيير شكل الحياة هناك أو تطويرها أو خلق ظروف تساعد علي تطويع الصحراء لارادة الانسان بحيث يؤدي هذا التطويع إلي إنقاذ السكان من خشونة الحياة وتصلبها ، وأعتقد أن ذلك هو سبب خلو اللغة العربية من التجارب ومن الخبرات ومن المحاولات التي تؤدي بالتالي إلي تطوير اللغة وامتلائها بالأفعال لا بالأوصاف ، قد تكون اللغة جميلة ورصينة ومثيرة وذات تراكيب عجائبية غاية في الجمال والروعة لكنها خاوية هشة جمالها شكلي لا تستند إلي دعائم ناتجة عن الخبرات والتجارب الانسانية المختلفة .
كانت اللغة العربية في الجزيرة لغة جميلة وبليغة بلا حد ، لكنها لم تكن لغة أفعال ، لم تتحول أبدا إلي أدوات لتطويع الطبيعة ولم تُستخدم كمواد لإجراء تجارب من أي نوع ، كانت لغة كر وفر ، ، وتفاخر ، ونزاعات وغارات ، وصراعات ، كانت لغة رعي ، وبكاء علي الأطلال ، كانت المفردات اللغوية المتوفرة لا يسمح تركيبها وإعادة صياغتها بأكثر من التغني بجمال الحبيبة .
لم تستطع اللغة العربية في تلك العصور القديمة بناء أية أنساق علمية ، ولم يكن للطب في هذه اللغة أي نصيب كما كان للمصريين ، ولا للهندسة ، ولا للعمارة ، ولا للنظام العام ، ولم تعرف اللغة العربية معني الدولة ، ثم هي خلت تماما من الفن باستثناء فن الشعر الذي لم تتعدي أغراضه تلك الأشياء التي سبق ذكرها كالحب والفخر والبكاء علي الأطلال والحث علي الحرب والتغني بالانتصارات والمكايدة والهجاء والمدح وما إلي ذلك مما لم يترك أي علامة حضارية محددة.
ياسيدي العزيز إن الآثار الفنية والعلمية والهندسية والموروثات الأخلاقية والانسانية المختلفة هي نتاج عمليات عقلية ، نتاج آلية تفكير ضخمة ، وبديهي جدا أن كل عملية عقلية وكل عملية تفكير لا تتم إلا باستخدام مفردات لغوية ، وكلما كان الأثر عظيما كلما كان ذلك دليلا حاسما علي أن وعاء التفكير كان يفيض بلغة حية ومتجددة تتطور وتزداد غني يوما بعد يوم .
من هذه العمليات العقلية ومن منظومة التفكير الغنية الضخمة تكونت شخصية المصري ، الشخصية المركبة من كافة العمليات اللغوية التي أنجز بها المصريون خضارتهم العظيمة ، أي أنك تستطيع القول إن المصري هو تركيبة لغوية تتضمن علوم الطب والتحتيط والهندسة والفلك والزراعة وفنون النحت وديانة التوحيد ونظم الاخلاق والحكمة والنظام العام والايمان بأن الدولة فوق القبيلة .
والسؤال الذي يدق في صدري الآن هو :
هل تسطيع هذه الشخصية التآلف مع لغة خالية من أي نسق من الأنساق التي كانت تشتمل عليها لغته التي هي أساس تركيبته الحضارية؟؟!!
إنني أقول لكل هؤلاء الذين صدعونا بثرثراتهم عن المخاطر المحدقة باللغة العربية وما زالوا يتحفوننا باقتراحات واجراءات وقرارات ضد الهجمات الشرسة ( كما يدعون ) التي تستهدف القضاء علي اللغة العربية ومن ثم ( كما يدعون أيضا ) تستهدف القضاء علي الاسلام ، أقول لهم إن ما يبدو لكم كمؤامرة علي اللغة العربية هو في الحقيقة عدم قدرة هذه اللغة علي الاستواء في نفسية وضمير الشخصية المصرية ، إذ كيف تريد غرس نبتة صخرية في أرض طينية وتريدها أن تزهر وتثمر ؟؟؟!!!!!.
إنك بدلا من أن تحاول تفريغ الشخصية المصرية من محتواها الحضاري والانساني والتاريخي لتسكب فيها لغتك الصحراوية الرملية الصخرية التي لم تستطع إنجاز لوحة فنية تحكي قصة شعب فضلا عن أن تلونها بألوان تبقي بزهائها آلاف السنين ، بدلا من ذلك حاول أن تطوع اللغة العربية وتطورها وتحقنها بلمحات لغوية من العامية المصرية العبقرية وتمنحها فرصة إعادة التشكل علي ألسنة المصريين لكي تصبح لغة قوية وغنية ، هذا هو الاجراء العملي الوحيد الذي يحافظ علي تلك اللغة ويمنحها روحا جديدة أكثر شبابا وحيوية.
هؤلاء الذين يصرخون كل يوم ، اللغة العربية ، اللغة العربية ، ثم يتقافزون كالقرود عند كل خطأ نحوي ، ثم يحدثونك عن الأسلوب ، وعن تركيب الجملة ، وعن الصور البيانية العظيمة ، وعن الاستعارات ، وعن الجماليات الاسلوبية التي تبهجك ، وعن مقدرتهم علي النحت اللغوي المدهش ، هؤلاء جميعهم بالنسبة لي اشبه بالجوقة التي تدعو للموتي في المقابر كل يوم خميس لقاء قرصة محشية بالعجوة وكعكتين
إذا أردت أن تفرض اللغة العربية الفصحي علي المصريين وتجعلها لغة الحديث اليومي فأنت في حاجة إلي خمسة آلاف عام تقضيها في تخليص الشخصية المصرية من حكمتها المتوارثة ومن ميلها للفن الفريد ومن أنساقها الأخلاقية ، ومن شغفها بالحياة ، ومن استعدادها الدائم لتطوير تلك الحياة ، ثم إنك لن تستطيع أن تفرضها بالشكل الذي يطمئنك إلا إذا ردمت النيل وخلصت الذهنية المصرية من ذكرياتها التاريخية ومن ارتباطها بالأرض واعتبارها مساوية للعرض والشرف.
كهنة اللغة العربية هؤلاء لم يتوقفوا ليسألوا أنفسهم ولو لمرة واحدة : لماذا يتحلف العرب ويقبعون في منطقة الذيل دائما بالرغم من توفر كافة العوامل التي تجعلهم في مقدمة الأمم ؟ ، ألا يتوفر المال ، وتتوفر المواد الخام ، وتتوفر سبل الاستفادة من نظم العلم والتعليم الموجودة لدي الأمم المتقدمة؟؟ ، لماذا وكل شيء متاح ولا أي صعوبة في الحصول عليه لماذا هم متخلفون ومتجمدون وضعاف وخائرون؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!!!!!!!.
لقد أطلت وما كان ينبغي ذلك لكن اللغة العربية ليست لغتنا ، نحن نتعلمها في مدارسنا كما لو كنا نتعلم لغة أجنبية ياصديقي ، ورغم ما نبذله من جهد في دراستها إلا أننا جميعنا نكاد نرسب في اختباراتها دائما ، فهي لغة غريبة عنّا ، وبعيدة جدا عما نحمله من محتويات معرفية ، وأؤكد لك ياصديقي بأن وعي المصريين ليس مستمدا من معارف اللغة العربية وإنما يرتكز وعيهم علي التاريخ والذكريات والحكم والأمثال المتوارثة .
أعرف أننا لن نستطيع استرداد لغتنا القديمة التي صنعنا بها تلك الحضارة المصرية المذهلة ، وأعرف أننا لن نتمكن من إنجاز أية مهام حضارية بهذه اللغة الغريبة عنا التي تتناقض تناقضا مميتا مع مكوناتنا النفسية والعصبية والأخلاقية ، ووتناقض أيضا مع ميلنا التاريخي إلي تطوير حياتنا وإلي خوض تجارب في مختلف مجالات الحياة كما كان أجدادنا يفعلون دائما .
لكل ما سبق أقول لك بضمير مرتاح دعك من كهنة اللغة العربية وسدنتها ، فهؤلاء لا أمل فيهم ولا رجاء ، وكل ادعاءاتهم عن المؤامرات التي تحاك ضد اللغة العربية ما هي إلا مجرد طق حنك فارغ لا يعي ما يقوله ، هؤلاء لن يقدموا لنا أكثر من الاستعارات المكنية والصور البيانية والطباق والجناس وكل ما هو تافه وفارغ ولا قيمة فعلية له ، اللغة العربية ليست لغتنا ، ونحن الآن نتحدث بلغة نحن ابتدعناها كبديل لما افتقدناه تحت وطأة الهجمات الاستعمارية المتوالية ، كهنة اللغة العربية يسمونها اللغة العامية بما يعني أنها لغة رديئة لا يتحدث بها إلي الدهماء ، لكنني أري أن هذه العامية هي أملنا الوحيد في الافلات من تلك اللغة الضيقة الميتة التي لن يؤدي استخدامها إلي التواصل مطلقا مع منجزات الحضارة الانسانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المحكمة العليا تنظر في حصانة ترامب الرئاسية في مواجهة التهم


.. مطالب دولية لإسرائيل بتقديم توضيحات بشأن المقابر الجماعية ال




.. تصعيد كبير ونوعي في العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل|


.. الولايات المتحدة تدعو إسرائيل لتقديم معلومات بشأن المقابر ال




.. صحيفة الإندبندنت: تحذيرات من استخدام إسرائيل للرصيف العائم س