الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نيتشه وسؤال التربية والثقافة

محسن وحي

2018 / 11 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مما لا شك فيه أن كل من الطبيب والفيلسوف يقومان بوظيفة واحدة تتمثل في تشخيص المرض بهدف علاجه ووقاية الجسد منه. نجد الفيلسوف الألماني نيتشه تقمص وظيفة الطبيب عندما شخص الوضع المأساوي للحضارة والثقافة الغربية التي وصلت إلى الانحطاط . هذا الأخير هو نتيجة تحالف الدين والميتافيزيقا والأخلاق من أجل أن تسود قيم الانحطاط. إن الإنسان حسب نيتشه عمل على استعباد نفسه بحمله أعباء “مثل” الأخلاق والميتافيزيقا والدين. وهذا الاستعباد يبدو، في نظر نيتشه، أكثر حدة في الثقافة التي تسير في مساربها الخفية المثل القديمة، من خلال سيطرة الحركات الليبرالية والاشتراكية والديمقراطية والقومية، بالإضافة إلى عوامل أخرى ساهمت في تكريس الأزمة.
إن سؤال التربية والثقافة عند نيتشه يحتل مكانا مهما في مشروعه الفكري. نجد الرجل خصص له مجموعة من المؤلفات مثل “شوبنهاور مربيا” وخمس محاضرات حول مستقبل المؤسسات التعليمية في ألمانيا. وهذه المحاضرات هي ما سنعمل على تحليلها والوقوف عند رؤيته للثقافة الألمانية.
تجدر في البداية الإشارة إلى أن نيتشه ليس من أولئك الفلاسفة الذين نجد عندهم مذهبا في التربية كما عند فلاسفة من أمثال أفلاطون وروسو، وإنما نجد عنده إشكال التربية والثقافة باعتباره أفقا للحياة والوجود. وبالعودة إلى المحاضرات الخمسة التي ألقاها نيتشه في جامعة بازل، وهو في سن السابعة والعشرون ، التي عمل من خلالها على تشخيص أزمة العقل الألماني، وهي أزمة المؤسسات التعليمية. منذ المحاضرة الأولى يتساءل نيتشه عن مستقبل هذه المؤسسات، ولا يخفي كون أن هذه المؤسسات، الثانوية والجامعية، تعمل ضد الثقافة الحقيقية، ولم تستطع أن تنجب ولو عبقريا واحدا من أمثال غوته وشيلر ولسينغ ووينكلمان. هذه الأزمة حسب نيتشه ترجع إلى سيادة نزعتان متعارضتان في الظاهر ولكنهما متساويتان في النتائج وهما:
النزعة الأولى تعمل على توسيع نطاق الثقافة؛ أي توسيع نطاق التعليم إلى أكبر قدر ممكن. هذه النزعة هي نتيجة طبيعية لسيادة الصناعة التي تهدف إلى جعل المدرسة مجرد أداة لخلق مهنيين متخصصين لربح أكبر قدر من المال. هذه النزعة حسب نيتشه لا يمكن مطلقا أن تخلق العباقرة لأنها تهدف بالأساس إلى إيجاد رجال عاديين من أجل الاشتغال في المصانع وربح المال. والحال أن التعليم لا يجب أن يهدف إلى تفريخ المهنيين من أجل كسب لقمة العيش، وإنما التعليم يجب أن يعمل على تحرير الإنسان من الأغلال وهي أغلال الثقافة المنحطة والسامة التي تقتل ذلك الجانب المبدع في الإنسان.
أما النزعة الثانية وهي التي تعمل على تقليص نطاق الثقافة، بحيث تعمل الدولة على جعل رجل التعليم مختصا أكاديميا في مجال محدد يتخندق فيه، إنه شبيه بعامل المصنع الذي ينفق كل حياته من أجل صنع مفك براغي واحد أو مقبض لأداة. يعتبر نيتشه أن كلا هاتين النزعتين تجتمعان في الصحافة، إذ تعمل هذه الأخيرة على جعل نفسها بديلا عن الثقافة الحقيقية، في حين أن الصحافة هي تجسيد للانحطاط الثقافي.
إن أزمة الثقافة الألمانية ترتبط بشكل جوهري خاصة في المؤسسات التعليمية الثانوية بعدم الاشتغال على اللغة الأم، إذ أنها المدخل الأساسي للرقي بالثقافة من حالة الانحطاط إلى حالة السمو. نجد نيتشه يقول في هذا الصدد: “خدوا لغتكم بجد، فالذي لا يشعر بهذا شعوره بواجب مقدس فهو لا يمتلك النواة المناسبة لثقافة راقية. ومن خلال استعمالكم للغتكم الأم يمكننا أن نرى القيمة التي تعطونها للفن أو الازدراء الذي به تنظرون إليه . “ هذه اللغة في حاجة ماسة إلى العودة للعصر الإغريقي، ذلك العصر الذي تحدث عنه نيتشه مع الفلاسفة قبل سقراط، العصر الذي تجسدت فيه العبقرية الإغريقية. هذه العودة إلى ستؤدي إلى إحياء العقل الألماني الأصيل الذي يتشرط ان يكون المرء قد بلغ نسبة من تجاوز الصراع مع مطالب الحياة اليومية.
يشخص كذلك نيتشه وضع التعليم العالي في ألمانيا ويعتبره مجرد ترويض للأفراد لصالح الدولة. يرى نيتشه أن الثقافة الحقيقية والدولة لا يجتمعان، إذ أن الدولة غالبا ما تتحدث عن خدمة الثقافة في حين أنها تشكل العدو اللدود لها. إن الجامعات لا تعمل مطلقا على تربية العباقرة إنها تعمل على خلق المتخصص. أما في علاقتها مع الفن فإنها تعمل على اقباره ولا ترقى به لمستوى الفن الحقيقي.
خلاصة القول يمكن اعتبار هذه المحاضرات الخمسة التي ألقاها نيتشه في جامعة بازل الألمانية هي تشخيص لواقع العقل الألماني الذي وصل إلى حالة الانحطاط بسبب الثقافة السائدة في المؤسسات التعليمية. لم تعد هذه الثقافة تلعب أي دور في مسار الثقافة الغربية بصفة عامة. في الماضي كانت تؤدي إلى ظهور العباقرة مثل غوته وشبنهاور... أما في الحاضر فهي لا تقوم إلا بدور المضاد والعائق. ومن هنا فنيتشه يستشرف المستقبل انطلاقا من الماضي والحاضر. هذا المستقبل كان بالنسبة إليه غامضا ومقلقا. ونحن الآن في القرن الواحد والعشرين نقول لنيتشه إن الثقافة الألمانية لا خوف عليها ولا على الدولة، فهي من أكثر دول العالم تقدما في مجال التعليم، وفي نفس الوقت فإنها أنجبت فلاسفة عظام مثل هايدغروشلاير ماخر وفلاسفة مدرسة فرانكفورت كماكس هوركهايمر وادرنو وماركيوز وأكسيل هونيت وهابرماس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسلتنا: مقتل شخص في غارة استهدفت سيارة بمنطقة أبو الأسود ج


.. مشاهد جديدة من مكان الغارة التي استهدفت سيارة بمنطقة أبو الأ




.. صحفي إسرائيلي يدعو إلى مذبحة في غزة بسبب استمتاع سكانها على


.. هجوم واسع لحزب الله على قاعدة عين زيتيم بالجليل وصفارات الإن




.. شمس الكويتية تسب سياسيي العراق بسبب إشاعة زواجها من أحدهم