الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مازنجر القديسين - ج٢

ادم عيد
(Adam Eid)

2018 / 11 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تكملة الحديث عن قاهر الأخصام ..
تفوح من هذه القصة بوضوح رائحة الأساطير الأغريقية، التي احتوت علي هذه التيمة “قاتل الوحش و منقذ الأميرة” في العديد من اساطير ابطالها، فمثلا جزئية الأضحية البشرية للوحش الذي يهدد المدينة ربما تكون مستقاة من اسطورة البطل ثيسيوس الذي قضي علي المينوتاوروس في قصر اللابيرنث في مدينة كريت، حيث تذكر هذه القصة أن “مينوس” ملك كريت قد انجبت زوجته من علاقة غير شرعية مع ثور، مسخ هو خليط بين البشر و الثور، و خوفا علي مملكته من هذا الوحش قام مينوس ببناء قصر التيه “اللابيرنث بأسلوب هندسي يمنع من يدخله من الخروج منه و حبس بداخله الوحش، و قام بألزام مدينة أثينا التي كانت تخضع لسيطرة مينوس بأن تدفع جزية سنوية من شبابها و فتياتها ليتم تقديمهم كأضحيات للمينوتاوروس الذي كان يتغذي علي اللحم البشري، و ظل هذا الوضع قائم إلي أن قام “ثيسيوس” ابن ملك أثينا الذي نشأ بعيدا عن مملكته بالعودة إلي أثينا و ذهب ضمن الجزية البشرية السنوية ليقتل الوحش و قام فعلا بقتله و انقاذ رفاقه من الموت كما انقذ أثينا من هذه الجزية السنوية البشعة، و نري هنا تماثل في العديد من العناصر حيث توجد في الأسطورة اليونانية ايضا مدينة منكوبة (أثينا في مقابل سيليني في الأسطورة المسيحية) كما يوجد وحش (المينوتاوروس الأغريقي في مقابل التنين المسيحي) و ايضا يوجد بطل حارب الوحش بمفرده و تغلب عليه (البطل ثيسيوس الأغريقي في مقابل القديس جورج المسيحي) كما يوجد ايضا ضحايا كانوا علي وشك الموت المحقق لولا تدخل البطل لأنقاذهم، صحيح أن هذه النقطة غير متطابقة تماما مع نظيرتها المسيحية من حيث عدد الضحايا المقدم للوحش، كما تختلف ايضا طريقة قتل الوحش في كلا من الأسطورتين، فبينما قام ثيسيوس بفصل رأس المينوتاوروس، قام جورج بقتله بالرمح.



اما بالنسبة لتيمة انقاذ البطل لأميرة منكوبة فهي ايضا تيمة معروفة في الميثولوجيا الأغريقية، و سنذكر هنا علي سبيل المثال اسطورة انقاذ البطل بيرسيوس للأميرة أندروميدا من الوحش “كيتوس” و تحكي هذه القصة بأختصار كيف أن الملكة “كاثيوبيا” زوجة الملك “سيفيوس” – ملوك الحبشة – قد اهانت “النيرديات” (حوريات بحرية جميلة مرافقين دائما لأله البحر بوسيدون) عندما قالت أن أبنتها “أندروميدا” أجمل منهن، فلجئت النيرديات إلي بوسيدون لينتقم لهم من هذه الأهانة، فقام بوسيدون بأرسال الوحش كيتوس ليدمر مملكة الحبشة انتقاما من وقاحة كاثيوبيا، و عندما علم الملك بذلك قام بأستشارة وحي الأله “أمون” بواحة سيوة في مصر الذي اخبره إنه لا سبيل لأنقاذ المملكة إلا بتقديم أبنته أندروميدا كقربان للوحش، و فعلا قام الملك بتجريد أندروميدا من ملابسها و قيدها عارية علي الشاطئ في مكان قدوم الوحش ليقتلها، و حدث أن كان البطل بيرسيوس قاتل الميدوسا عائدا علي ظهر الحصان المجنح “بيجاسوس” فرأي أندروميدا مقيدة في انتظار مصيرها، فقام بسؤال الملك و الملكة عن القصة فأخبروه بما حدث، فعرض انقاذ الأميرة في مقابل ان يتزوجها فوافقوا علي الفور، فقام بيرسيوس بالأتجاه إلي مكان قدوم الوحش و حين مجيئه قام بقتله، و قد اختلفت مصادر الأسطورة في كيفية القتل، حيث ذكرت احدي المصادر أن بيرسيوس قام بفصل رأس الوحش بمنجل و هي نفس الطريقة التي قتل بها الميدوسا، إما المصادر الأخري فقد ذكرت أنه رفع رأس الميدوسا في مواجهة كيتوس الذي تحول إلي حجر بفعل نظره إلي عين الميدوسا، و ايا كانت طريقة القتل فقد قام بيرسيوس بالقضاء علي الوحش و انقاذ لأميرة، و التشابه في هذه النقطة مع الأسطورة المسيحية للقديس جرجس اوضح من ان يتم شرحها، حيث تشترك القصتين في العديد من العناصر مثل المدينة المنكوبة و الملك الذي يقدم أبنته كقربان للوحش من اجل بقاء مملكته و الوحش الذي كان سيتسبب في فناء المملكة لولا التضحية البشرية و أخيرا البطل الذي كان يمر مصادفة و قام بأنقاذ الأميرة و المملكة، إلا انه ايضا تختلف هذه الأسطورة اليونانية في طريقة قتل الوحش عن الأسطورة المسيحية.



يتشابه مشهد القديس جورج و هو ممتطيا حصانه الأبيض طاعنا التنين في حلقه بشكل كبير مع صورة البطل اليوناني “باليرفون” و هو ممتطيا ظهر بيجاسوس طاعنا الوحش الأسطوري “الخيميرا” بأسلوب مشابه، و باليرفون هو ابن “جلاوكوس” ملك مدينة “كورينثيا” كما تذكر بعض المصادر الأخري للأسطورة انه ابن الأله بوسيدون، و قد حدث أن ذهب باليرفون إلي إحدي المدن سعيا لتطهير نفسه من جريمة قتل اقترفها، و حدث أن أعجبت به زوجة ملك المدينة و حاولت اغوائه الا انه صدها، فقامت بأتهامه بالأعتداء عليها، فأراد الملك ان يقتله إلا أنه خاف من وصمه بعار قتل ضيفه، فأرسله إلي حماه ملك “ليكيا” ليسلمه رسالة منه و طلب منه في الرسالة أن يقتل حاملها، إلا أن ملك ليكيا بدوره لم يستسيغ فكرة قتل ضيف ففكر في تكليفه بمهمة تسبب هلاكه، فقام بتكليفه بقتل “الخيميرا” (حيوان اسطوري نافث للهب، عبارة عن جسد عنزة و رأس أسد و زيل ثعبان كما قالت مصادر اخري للأسطورة انه متعدد الرئوس و له رأس عنزة إلي جانب رأس الأسد) الذي كان يثير الرعب في مملكته، و بعد موافقة باليرفون استشار الألهة التي نصحته بأن يأسر الحصان المجنح بيجاسوس و يستخدمه ليكون له الأفضلية علي الخيميرا، و فعلا نجح باليرفون في أسر بيجاسوس و اتجه به إلي حقول ليكيا حيث يعيش الخيميرا، و حينما وصل لم يستطيع مجرد الأقتراب من الخيميرا الشرس بسبب قدرته علي نفث اللهب، فواتته فكرة يمنع بها الخيميرا من نفث اللهب حيث قام بأحضار كتلة من الرصاص ووضعها علي قمة الرمح ثم طار بالقرب منه منتظرا فرصة ليهجم قبل ان تواتي الخيميرا فرصة نفث النار عليه و عندما واتته هذه الفرصة تمكن من غرز رمحه الذي بقمته كتلة الرصاص التي زابت بدورها في حلق الخيميرا من فرط درجة حرارة اللهب الذي ينفثه و سدت مجري الهواء الخاص به ثم اجهز عليه بالرمح. هنا نري التشابه في طريقة قتل باليرفون للخيميرا مع طريقة قتل القديس جورج للتنين، فقد استخدم بطلي القصتين نفس الأداة لقتل المخلوقين، و كان الأثنان ممتطيين صهوة جواد و الوحشان متشابهان في صفة نفثهم للنار و تهديدهم للممالك المتواجدين فيها، و قد عرف المسيحيين الشرقيين هذه الأسطورة و استخدموها في اغراض فنية و من الأمثلة علي ذلك قطعة نسيج قبطي تعود للقرن السادس الميلادي مصور عليها باليرفون و هو يطعن الخيميرا.



تعتبر تيمة البطل و التنين أو الوحش من اشهر التيمات القصصية المنتشرة في العديد من اساطير العالم القديم و الحديث فإلي جانب البطل ثيسيوس الذي هزم المينوتاوروس و برسيوس الذي هزم كيتوس و باليرفون الذي هزم خيميرا نجد ايضا أن هيراكليز قد قتل الهيدرا، و لم يقتصر الأمر علي الأبطال و انصاف الألهة فقط بل لقد قتل الألهة وحوش ايضا فنجد أن زيوس قد هزم التايتن “تايفون” و أن الأله الكنعاني بعل قد هزم حية البحر لوتان، كما جاء ايضا في سفر أشعيا أن يهوه قد هزم حية البحر لوياثان و قتل تنين في البحر (إش 27 : 1)، و هذا ليس غريبا فكما وضحنا أن تيمة هزم الوحش هي تيمة معتادة للتعبير عن رمزية هزم الخير للشر الذي يتم تمثيله في صورة وحش، و كما وضحنا فقد انتقل هذا التصوير الرمزي إلي المسيحية حيث تم تصوير العديد من القديسين و الشخصيات الدينية المسيحية و هي تحارب تنين أو يتم تصوير تنين مهزوم معها في الصورة منهم يوحنا الرسول و القديسة مارجريت و القديسة مارثا و القديس سيلفستر، ايضا يوجد تفسير نفساني فرويدي لتفسير انتشار هذه الأسطورة في العديد من الحضارات، و من وجهة نظر هذا التفسير نجد أن التنانين هي تمثيلا قويا لللاشعور الفردي الذي يلح علي الأنسان دائما بما يناقض وضعه الحضاري في صورة شهوات أو رغبات محرمة، و هذه الشهوات تحاول دائما أن تخرج من عالم اللاشعور إلي عالم الشعور، و بناءا علي هذا التفسير يمكن اعتبار البطل الذي يقهر التنين أو الوحش في كل هذه الأساطير بمثابة الفرد السوي داخل مجتمعه الذي يستطيع كبح جماح لاشعوره و السيطرة عليه ليحيا متوازنا مع قيم الجماعة، و يري اتباع مدرسة يونغ أن عملية الصراع مع التنين هي عملية بناء للشخصية الفردية التي تخلص الفرد خلالها من تأثيرات الطفولة و اعتماده علي شخصية الأم. و علي اية حال فأن اقدم تمثيل علي الأطلاق لرمزية فكرة الصراع بين الشر و الخير أو البطل و الوحش كانت في مصر و اقصد هنا مراحل الصراع بين حورس و ست التي انتهت بأنتصار حورس (الخير و الحق) علي ست (الشر و الباطل) حيث كان كان منظر سحق حورس للتمساح في الفن المصري القديم أحد اهم التصاوير التي تستخدم في الرقي السحرية للتغلب علي السحر و الشرور المختلفة.



يعتقد بعض المتخصصين أن صورة حورس و هو يسحق ست في صوره الحيوانية هي مصدر لهذه التيمات الأسطورية في العديد من الحضارات المختلفة، كما يوجد احتمال في انها كانت احد مصادر الأيحاء الفني لأيقونة القديس جرجس و هو يقتل التنين، و يوجد احتمالين لكيفية انتقال صورة حورس المنتصر إلي صورة القديس جرجس و هو يسحق التنين.



النظرية الأولي تقترح أن فترة الأنتقال تزامنت مع احتلال الرومان لمصر، حيث انه من المعروف أن الرومان قد مثلوا حورس في اعمالهم الفنية بشكل جندي يرتدي الزي العسكري الروماني، و علي الرغم من وجود اكثر من مثال علي تصوير حورس كجندي روماني إلا أن تيمة “حورس الفارس” أو “حورس و هو يمتطي حصان” لا يوجد عليها سوي مثال واحد في متحف اللوفر بباريس ترجع إلي القرن الرابع الميلادي (أي قبل اقدم تصوير فني معروف للقديس جورج و التنين بأكثر من 500 سنة).



النظرية الثانية و هي نظرية اكثر تعقيدا تنسب هذا الأنتقال إلي المسيحيين الذين نفاهم الأمبراطور الروماني دقلديانوس (٢٨٤٣٠٥م) إلي واحة الخارجة في مصر قبل اعلان المسيحية كديانة رسمية للأمبراطورية، و استمرت هذه الواحة كمنفي حتي بعد اعلان المسيحية كديانة رسمية للأمبراطورية و لكن كان ينفي اليها المسيحيين المنشقين عن المذاهب الرسمية، و منهم “النساطرة” (اتباع نسطور) الذين نفاهم اليها الإمبراطور ثيوديسيوس الثاني (٤٠٨٤٥٠ م)، و من المثير للذكر أن هذه الواحة تحتوي علي معبد مصري يعرف بأسم معبد “هيبس” تعود اصوله الأولي إلي الأسرة ال٢٦ المصرية كما تم اضافة العديد من الأضافات إليه في العصور التالية اهمها اضافات ملوك الأسرة ال٢٨ و ملوك الأسرة الثلاثين و اضافات الملك البطلمي “بطلميوس الثاني” الذي اضاف البوابة الكبيرة و طريق الكباش، و اخر هذه الأضافات كانت في عصر الأمبراطور الروماني جالبا (٦٨٦٩ م) أي قبل أن تكون الواحة منفي للمسيحيين بأكثر قليلا من ٢٠٠ عام كما كان المعبد مازال مفتوحا في عصر الإمبراطور دقلديانوس و كان مازال محتفظا برونقه و مناظره في فترة نفي النساطرة إلي الواحة الخارجة، و قد كان هذا المعبد مكرسا للثالوث العام “أوزيريس – أيزيس – حورس” و يوجد علي الجدار الغربي لقاعة الأعمدة الشمالية في هذا المعبد منظر يمثل حورس واقف في صحبة أسد و هو يطعن أفعي شريرة برمحه، فمن المحتمل بشدة أن يكون المسيحيين المنفيين قد نقلوا هذا المنظر معهم إلي بلادهم في أسيا الصغري و القسطنطينية حيث خلطه الفنانون بتأثيرات الميثولوجية الإغريقية ثم نقلته الحروب الصليبية إلي غرب أوروبا معها في القرن الحادي عشر الميلادي حيث تم استخدام المنظر للتعبير فنيا عن الأسطورة الملفقة حديثا.
.. إلي لقاء اخر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلسطين.. اقتحامات للمسجد لأقصى في عيد الفصح اليهودي


.. مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال صبيحة عي




.. هنية: نرحب بأي قوة عربية أو إسلامية في غزة لتقديم المساعدة ل


.. تمثل من قتلوا أو أسروا يوم السابع من أكتوبر.. مقاعد فارغة عل




.. العقيدة النووية الإيرانية… فتوى خامنئي تفصل بين التحريم والت