الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شيرين وفرهاد: الفصل الرابع 5

دلور ميقري

2018 / 11 / 19
الادب والفن


على الرغم مما كان يُظهره الشابُ الحلبيّ من سذاجة وبساطة، لم يخفَ على " ميرا " أنها أمام مخلوقٍ حُرم من متعة تذوّق الأنثى خارجَ إطار علاقة عابرة؛ كأن تكون مومساً، مثلاً. ولم يخدعها مظاهرُ تديّنه، طالما أنّ زوجها بنفسه كان يؤدي طقوسَ الصلاة في مواعيدها، متمتماً الآيات الكريمة بفمٍ يفوح منه رائحة الكيف، الحرّيفة. بدَورها، كان جسدُ المرأة الصغيرة يعاني من البرود بعدَ ما يزيد عن شهرين من انفصالها عن الرجل، عملياً، وإقامتها في منزل حَمي شقيقتها. إلى ذلك، كانت من المكر أن رسخّت لدى أفراد العائلة المضيفة صورتها كإنسانة مسكينة، مغلوبة على أمرها، بل وضحية أيضاً. كون " لوحا " هوَ الذي تعهّدَ الواسطة في ذلك الزواج غير الموفق، جعل موقف الضيفة أكثر قوة. الواقع، أنّ سيّدة الدار كانت ستستقبل الفتاة حتى بدون هكذا ذريعة: الكنّة، وكانت عزيزة عليها حقاً، سبقَ أن أعلمتها مفصلاً بطبيعة أبيها، وأنه يُصر على عودة ابنته إلى رجلها كي لا تضطره المحكمة على إعادة مال صداقها والمصروفات الأخرى.
هذه المرأة الصغيرة، الماكرة والجائعة للجنس، وجدت ذاتها ممتحنة بوجود رجل غريب في المنزل وبصفته خطيبَ كبرى البنات غير المتزوجات. في اليوم الأول، الشاهد على حلول الضيف، بقيت " ميرا " لساعاتٍ ملتزمةً حجرة شقيقتها في الدور العلويّ. فلما أرتفعَ نداءُ سيّدة الدار باسمها، داعيةً إياها للنزول إلى مائدة الغداء، فإنها ما لبثت أن ظهرت ملتزمةً الحجاب فوق جلباب من القماش السميك والقاتم اللون. لم تلقِ نظرةً على الخطيب السوريّ، إلا مع انشغال الآخرين بالثرثرة، وكانت نظرة خاطفة مواربة. من ناحيته، تلقى صاحبنا الحلبيّ النظرةَ بحذر. مع أنّ مُعين النظرة، المزدوج، أثّرَ فيه حالاً وبشدة: كانت عينا " ميرا " رائعتين، واسعتين يغشاهما اخضرار حفيف، ومسدل عليهما أهدابٌ طويلة. بصرُ الشاب الغريب، كان قد أحاط قبلاً بلمحةٍ من جسد الفتاة، الريان الممتلئ، آنَ كان يخطرُ بتؤدة وتدلّه في الطريق إلى المائدة.
ولا كذلك تأثيرُ نظرته في المرأة الصغيرة، التي جلست مقابله بهيئتها الموحية بالتحفظ والحياء. لون عينيّ الشاب، المَدعو " حدّو "، لعله المُشكل هنا. فالعيون الزرقاء، كما هوَ معروف، تُعدّ باعثاً للتطيّر في عقلية المسلمين مشرقاً ومغرباً. لقد أحتاط أصحابُ هذه العقلية من شرّ العيون الزرق، متسلحين برمز الخميسة ذات اللون نفسه والتي يُمكن رؤية نقشها بشكل خاص ضمن إطارات صغيرة في مداخل المنازل. أي مثلما كان يتعامل الطب القديم مع علّة اليرقان ( الصفراء )، وذلك عن طريق وضع المريض داخل حجرة عارية ذات جدران مصبوغة باللون الأصفر.

***
يبدو مما جدَّ من أمور في الأيام التالية، أنّ " ميرا " غضّت الطرفَ عن موضوع العينين الزرقاوين. بل ولقد كفّت عن الاسترسال في الضحك، حين تُشرع إحدى البنات بالتندّر على قصر قامة الضيف. إنّ شكله الآنَ، أضحى متماهٍ مع الأشكال الجميلة لأبطال المسلسلات التركية، الناطقين باللهجة السورية ذات الجرس المحبب والشاعريّ. عليها كان أيضاً أن تلحظ أناقة الضيف، على الأقل مقارَنةً بالهيئة الرثة لزوج شقيقتها. هذا الأخير، كان من جانبه على ضيقٍ بيّن من وجود شاب غريب في البيت. ولكنه أضطر على مضض لمراعاة رأي الأم، والمفترض أنه يصب في مصلحة شقيقته العانس بسنّها المتجاوز الثلاثين. وكان " لوحا " آنذاك مكتفٍ بساعات الدوام في وظيفته، وغالباً ما كان يلتزم المكوث في المنزل على أثر إفاقته من القيلولة. كونه بلا أصدقاء تقريباً، ندرَ أيضاً رواحه للمقهى سوى في مواسم الدوري الإسبانيّ. في هذه الحالة، أتيح له متسعٌ من الوقت لمراقبة مسلك الشاب الغريب عن كثب. ولقد أفضى ذلك، أخيراً، إلى شعوره ببعض الاطمئنان. فالشاب يقضي في عيادة الأسنان أكثر ساعات النهار، فإذا حضرَ مساءً رأيته بالكاد يخرج من حجرته إلا للصلاة في المسجد المجاور. وكان " لوحا " يرافقه إلى بيت الله، فخوراً أمام رجال الزنقة بصهر المستقبل، المكتسية هيئته الورعة بعباءة بيضاء ناصعة مما يلبسه عادةً أهلُ الخليج. سارت الأمور زمناً على هذا المنوال، حتى كانت إحدى ليالي أواخر الشتاء.
على مألوف عادته كل ليلة، كان " لوحا " يأوي مبكراً إلى الفراش، ثم يتجه بعد نحو نصف ساعة إلى الحمّام. بينما امرأته، الأشبه بالطفلة، تنزل الدرج في خفة كي تواصل السهرَ في الصالة مع بقية نساء المنزل. ويبدو أنه أفاق في ساعة متأخرة من تلك الليلة، بعدما أحسّ بحركة ما، مريبة. قبل ذلك، حين كان ما ينفك يهوّمُ حالماً، دخل في وهمه مروق شبحٍ في الظلمة المطبقة على الحجرة. ما أثار استغرابه في اللحظة التالية، كان بصيص النور المتسلل من باب الحجرة والمترافق مع تمايل الستارة المسدلة عليه بفعل هبوب هواء الخارج. إلا أنّ امرأته كانت غافية إلى جانبه على السرير، مثلما لاحَ من تنفسها المنتظم. وها هوَ ينهضُ في هدوء، لينزلق من على السرير بحركة حذرة. من وراء الستارة، وخِلَل شق الباب الموارب، ما لبثَ أن ألقى نظرة على الخارج. على الرغم من كون الليلة غير مقمرة، أستطاع بصره اختراق حجب العتمة وصولاً إلى مشهد على شيء من الإبهام والغموض. ولكنه سرعان ما أدرك جلية ما يجري ثمة، عند الردهة المتصلة بين باب الحمّام والدرج الداخليّ: صهرُ المستقبل، كان منتصباً هنالك بقامته الضئيلة ووجهه إليه. في منتصف قامة الرجل، كان رأس إحداهن ملتصقاً فيما يده تحاول الوصول إلى ظهرها شبه العاري. شعورُ الهلع عند من يراقبهما، عليه كان أن يهدأ نوعاً. عندئذٍ، كان ظهرُ الفتاة قد لمعَ ببياضه الناصع تحت ضوء القمر، الذي سطع نوره فجأةً. بلى، كانت " ميرا " مَن تنحني على وسط عشيقها، مشاركة إياه في الإثم. ضوء القمر، كأنما ألهمَ الرجلُ الفاسق فكرةَ تغيير وضعية شريكته للحصول على المتعة المحرمة. بيْدَ أنّ " لوحا " سرعانَ ما تراجع عن موقفه، بعدما غمر الضوءُ بابَ الحجرة.
واقعة منتصف الليل، أمدت " لوحا " بمبرر كي ينفجر مرة أخرى بوجه والدته. ولكنه، لسبب ما، لم يجد الجرأة في نفسه أن يقص عليها ولو بعضاً من تفاصيل الفضيحة. ذلك أنّ ذاكرته قد حشدت حالاً صوراً مماثلة، أو أكثر شناعة، تعود إلى مراحل شتى من حياته. وربما فكّر بأبيه أيضاً، وكان هذا يرقد شبه عاجز في حجرته الأشبه بالتابوت ـ مشفقاً عليه بالطبع من تبعات الواقعة. حالة " حياة "، كانت دائماً بمثابة شوكة تخز ظهرَ الوالد، مسببة له الألم. كان يُدرك، ولا شك، حيلةَ امرأته بخصوص جلب الشاب السوريّ إلى المنزل لحثه على التعجيل في إجراءات عقد القران. على أثر الواقعة، وما تبعها من اختفاء " الخطيب "، دأب الأبُ على رسم ابتسامة حزينة كلما أطلت عليه ابنته بسحنتها الكئيبة. ولقد ظل يفعل ذلك إلى حين وفاته، بعد مضي نحو ثلاثة أشهر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و