الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عودة مسعود.

يس الضاحي

2018 / 11 / 22
الادب والفن


في زمن (الانتظارات) الرطبة والعطن، نسجت أمة من عناكب دولتها على النوافذ المضببة،على الأرواح المستنزفة زرقتها باكرا ، دولاب الملابس العاري ، الأبواب التي ترتعش بشيخوخة ، البسط الشعبية المتيبسة كما الأرحام التي لم تطأ طويلا ،الساعة المعطلة، الاقفال المتزاوجة ، الستائر المنزوعة اللون ، الضحكات المندسة كعلكة في ثقوب الجدران المصابة بالبهاق، خيالات الوجوه المتعرقة و برودة الصمت الذي أغرقت المكان منذ سنين بغبار الغياب.
صرير الباب يسمع الآن ، انفراجة صغيرة ينهم على مهل من خلالها جدول من ضوء الشمس يطفو فوقة جسد فتى لامع كقطعة زجاج أسود صقيل وقعت من واجهة الليل الهائلة .
اصوات أنثوية خافتة تتعالى تدريجيا بشكل ممسرح
: رجع مسعود رجع ..،مسعود ، مسعود ، مسعودددددد،،، يضاعف نفسه الصدى ألف مرة،
:مسعود ، مسعود ، مسعود عود ،،دددد….
فجأة يسود صمت وعتمة .
…….
(أم غايب)
في اواسط السبعين ,ببشرة سوداء معتقة موشمة في الحنك و الكفين برسومات وطلاسم خضراء غريبة ، تتطوى بجسد نحيل جدا تكاد تكنسة الريح بطريقها، بعض النسوان يصفونها ب( المسكونة)،احاله لعالم الجن، هناك سرديات غير موثقة عن قدراتها على التواصل مع المخلوقات الموازية والغير منظورة ,في الجلسات النسوية في البيوتات القديمة تقص عليهن أحسن القصص كنبي ،عن (غايب) ولدها يسالنها ،
:يمه( غايب ) خذوه جندي للحرب وما عود، ليومكم هذا،
: اي حرب منهن ، الاولى الثانية الثالثة الرابعة ...،يستفسرن منها،
تقول: حرب الشتا، يمه ،
: عيني ام غايب حروبنا بيها ستين شتا وستين صيف ،
: هو من راح كان لابس شتوي بعد يمة ما ادري .. يضحكن.
يخمن النسوة انها الحرب التي دارت بين العراق وبين اكرادة في الشمال، يصلنها ولكن لا يدخلن غرفتها لسبب ما، يحملن اليها على رؤوسهن (صواني الرحمة) ،طعام يوزع لاستحصال ثواب قراءة سورة الفاتحة للموتى ، تشكل فواجع البلد مصدر رزق لها ، الثمانينات خاصة ، زمن المعارك الطاحنة التي تستمر لأيام مكونة مصادر خصبة من الشهداء، كانت صواني الرحمة لاتنقطع ، رزق وافر، نزيف من مدنين وعسكريين ،ثم حرب الخليج الذكية جدا! كذلك مسالخ المنتفضين في اذار ، معدومي التقارير الامنية ، ضحايا السرطانات المنتشرة في الجنوب كمالانفلونزا، سلسال متصل وان شهد تغير نوعي متدني بصواني الرحمة بسبب الحصار وشحة المواد الغذائية ، لكنه تحسن بعد مجىء الامريكان والدولارات والمليشيات المحترفة بقطاع الاستثمار بالقتل ،يشاكسنها النسوان،
: لو فرضنا ما احد يموت منين تعيشين؟
: السيد الشعيبي مايتركني اموت جوع انا و(عيالي)، حشا.

في غلاء متصاعد كما الأبخرة، يجود عليها الميسورين بصدقاتهم، ليشعروا بعدها براحة ضمير وينامون بعمق، تعتاش ايضا من هذه الثغرة الالكترونية ببرمجيات الأغنياء النفسية التي تقودهم كل مرة ل( ام غايب )،يرشوها و يرشون الله من خلالها ليغفر لهم خطاياهم ، او يقلها على اقل تقدير ، وان كانوا لا يهتموا أصلا عندما يجتازوا علاماته المرورية يوميا ويدهسوا انسانيتهم بتعمد.
ما يمنحوه يدفع عجلات يومها مع (عيالها) الى خانة اخرى في التقويم ولو بصورة مزرية، عندما ينقطع المدد الذي تتلقاه (العلقة) ام غايب، تفترش بسطية على أرض متربة في سوق البصرة القديمة في منطقة الصفاة لتبيع الملابس المستعمل ، لمن يمر سيصعب تميزها بين اكوام العباءات السود الرثة والملابس المتعبة ،بجسدها الهزيل والمقوس على نفسة كما أقواس السعف التي تصنع في اعراس العذارى في البصرة، تعود بما استرزقتة ل( عيالها) عند الغروب، عندما يسوء الحال تتبضع مجانا من بقايا عربات المخضر ، بصل ذابل ، طماطة نصف متعفنة ، دجاجة ميتة ملقاة ، اي شيء يتبفى من الباعة عند انقضاء اليوم ، اذا عرفت ان مايباع للناس اصلا تالف ومغشوش تجاريا، لك ان تتصور ما سوف تكون محتويات (علاكة) ام غايب حينها.

(قصر ام غايب)

: ام غايب! عنوانها قصر معقولة.
يقهقه موظف الحصة التموينية وهو يثبت عنوانها في السجلات الحكومية ، تسكن ام غايب في غرفة تسميها (الدار) عند اطراف حديقة بمساحة خمس فدادين تعود لقصر ضخم يسكنة السيد الشعيبي ، هو كبير عائلة عريقة وغنية في البصرة، منحها غرفة (البستونجي) المزودة بتواليت!و حمام ، يمتد ممشى من غرفة ام غايب الى باب صغير في السور الخارجي على الشارع العام ، يعيش السيد الشعيبي الكبير منفردا متواريا عن الانظار منذ فترة طويلة ، تصنع ام غايب(مهفات) ، مراوح يدوية من خوص النخيل بزخارف نباتية ، ترسلها للسيد الشعيبي بواسطة خادمة ( عبد الرسول) ،الوحيد الذي يدخل عليه خلوته ويدير ملكه بوكالة شفهية ،يسألونها النسوة بفضول عن السيد الشعيبي هل تشاهده يتنزه في الحديقة المكتظة بالنخيل والأعناب والزيتون ؟كيف يبدو ؟ ولما لم يتزوج؟ وكم عمرة ،ووو..تجيبهم
: يمه شلون اشوفه وانا (وصيفة) عندة ، ..لا يمة لايخلف ولا يتزوج مره ،حشا.

(مسعود)
السماء متردده، تبصق زخات متقطعة ثم تمسك ،تسمى ام غايب هذا الوضع (دمعة مسعدة) ، وما يدريك ب( المسعدات ) وشحة دموعهن يا ام غايب ،لم تكوني (مسعدة) في يوم من الايام على ما اعتقد؟ ترص في لثتها( السويكة) وتغير الموضوع
: اليوم شويت سمك ، تعال اتغدى ويانه يمه.
يوم دبق وكسول غير انه يحمل رائحته ، تستشعرمجيئه منذ الصباح، عربيد ليل،لامع كزجاج أسود مصقول، مملوح دمه يلعب ، يطرق الباب وقت الظهيرة فتفتح له،تتلقاه بقبولا حسنا ، سيدعوها (يمه) وتدعوه (ولدي) ، يجالسهم معهم على سفرة الطعام،يتفحص (عيالها) بصريا بطريقة المسح الضوئي ويتفحصوه بريبة،
: مد ايدك قبل لايبرد الزاد، يمه .
يأكل بخجل ،يترخص منهم ان ينام لانه متعب، يقول انة جاء مشي من( الرفاعي) في الناصرية الى البصرة.
يتقافزن في حضنها ، تسرح شعورهن و تربط لكل واحدة شريط احمرعلىً مفرق رأسها،
اسمته مسعود لعله يجيب السعد،
:لكنك لاتعرفين له اصل وفصل؟تسالها احداهن،
: مازال دخل من الباب هذا بن اصول يمة ، ماطفر على الدار وبيها بنات ، متربي زين يمه، تكمل
: خاويتة مع الاشقر ، وتمالحوا بالزاد ، ما يفرقهم الا الموت.

(لعيال).

يتهامسن بدلال مشبع بالرسائل الجنسية.وحدة الاشقر غير سعيد، هو ذكرهم الوحيد قبل مجي (متعوس ) كما اسماه بقلبه، تعرفة على ال (العيال)
: بنياتي ، (وردة) و (نعيمة) وهذي الوكيحة الفلفل اسمها (تحرير) لان نولدت يوم تحرير الفاو ،هذا الاشقر اخوك ، رجلنا وحامينا، تستدير وتشير لظل القصر الهائل الملقى على الدار المنزوية و المتداعية ،
: هذا بيت سيدنا الشعيبي ، وهذه حديقة ،اسرح وامرح بس لا تاكل من شجراته يمة ، ناهينا عنها لا يوزك( ابو بكيع) يمه.
تتنقل تحرير بين السيقان الممدة على الأرض وقت النوم ، تتعمد اثارة الذكرين كل مرة ، يرقبها كمن لايراها مسعود ، بينما الاشقر كان يحاصر فار ازعجهم في زاوية ، تحرير تتخاطف بين عيون مسعود وبين مكان إعداد الطعام في أحد زوايا الغرفة عند (الجولة ام الفتل )النفطية الملقاة على منضدة صغيرة والتي تحمل باقي ادوات المطبخ ، قدرين و بعض الصحون و الملاعق ، لا تملك ام غايب مطبخ ، تلصق صورا ملونة من المجلات لمطابخ اجنبية على الجدار الموازي للمنضدة،وبذلك تدلل سيميولوجيا على مطبخها الذي يتغير كل سنة بتغيير صور المطابخ الملصوقة، تمتلك ثلاجة صغيرة ، تحوي بصورة دائمة قناني ماء معبأه من الحنفية ، وباحسن الاحوال قطع خبز او خضار ذابلة ، في الرف الجانبي لباب الثلاجة مكان دائم لحفظ فكي اسنان متحركة، تخلعهم في كل ليلة لتريح لهاتها ، تقول
: خايفه يضيعن مثل ما خايفه عليكم تضيعون من بعدي يمه .

(الاشقر ، تحرير، مسعود)

يتفق الجميع ان الاشقر لتحرير، الا تحرير!، ليس من احد متاكد لهذه اللحظة من انها للاشقر، مرة سألتها وردة فتهربت من الجواب، اوصلت وردة ذلك للاشقر الذي لم ينم ليلتها، اعتمد تدليلها والتقرب منها عسى ولعل ( يجيبها للدرب ) كما يقول، كل هذا قبل مجىء مسعود ، يسميه الاشقر (متعوس) ، هو اصغر منه بحوالين تقريبا وأشد منه مرونة وقوة,يغار منه، لكن لا يخشا غدرة لأنهما تمالحا بالطعام.
ترتسم بأفق الدار بما يشبة السينوغرافيا جيوش تحتشد وحروب تعد لتعلن على سهوه من الجميع ، ام غايب قلقة،تسترشد ب (دليل الزمان لمعرفة النسوان) لتفهم تحرير المتقلبة كطقس هندي، ترطب جفاف التواصل بين مسعود و الاشقر بالكلمات المنمقة والحنيه المفرطة ، لاتاتي أكلها شجرة القرب بين نارين وانثى،
: خيتي ام صياح شتشورين علية.
تسال احداهن في ماتم لشهيد طازج ذهبن لعزائه.
: شوفي اخيتي، خلي البنية تختار وطلعي منها
: بس الاشقر لتحرير وتحرير للاشقر
: هذا اول ، الاول تحول يا ام غايب .
تجد ان لا جدوى من الاستشارة، سترفع مرساتها الايام وتبحر الى جزر المتوقع واللامتوقع، ستسحلنا معها حتما دون إرادة ،

: ياخوي محلاه الخشب لو لزه (السييف)
:كلها صبيان تجر المجاذيف..
: ياريتني ادهينه وادهن ايديهم..
: ياريتني خيمة واظلل عليهم..

تدمم مع نفسها بحزن ، وهي تهيئ (الكدو) لتدخن.
ليل اخر يلقي بعبائته المعتمة على الدار، تنام فيه العيون أما الأفئدة فتصطخب وترتج وهي تجنح على أكتاف الشط بلا دليل .

(شباطيات)
في طريقها لقضاء حاجتها ليلا، اعترضها مسعود بشهوة وحضنها، كان الكل نيام الا مجسات الاشقر ، يرقبهما من تحت اللحاف ليستبطن ردة فعلها التي ستقرر مسار حرب النجوم الليلة ، هل تجنح الى مسعود؟ام الية؟ لدقيقة كانت منسحقة تحت إبطي مسعود ، ثم فجأة هكذا انتفضت ودفعته عنها وعادت للفراش ، خرج مسعود بانتصاب، كبت الاشقر غضبة وهو يتساءل مع نفسه هل تتعمد تحرير أثارت غيرته؟ من يفهم الانثى ايا كانت ؟ من؟.


( طم طم طخ)

عصرونية جميلة ،هكذا بدأت ، ام غايب تعود مريض يرقد في المستشفى التعليمي، بدافع من الفراغ وبحثا عن منافذ للكبت تتحزم تحرير وأخواتها من الخاصرة، ترقص مطلقة للريح مستديرات جسدها المثيرة ، تطبل نعيمة على تنكة سمن الراعي ، طم طم طم طخ ، بينما وردة تغني بلذة اغنية كتبها مراهق لم يجد ثقب بشري لقضيبه فحول عوزة الى نص ايروسي صادق ، أما اللحن فكان لقوادة هرمت فتركت عند مجمع أزبال( شارع بشار )الشهير ببيوت الدعارة والذي ضمته اليونسكو مؤخرا لقائمة التراث العالمي حفاظا عليه من المليشيات الوقحة!
نعود لعفوية تلك العصرونية، يحتسي مسعود ال(جن) منذ الظهيرة ،يتعاطى الاشقر كمية كبيرة من (الكرستال) المخدر، كلاهما يريد ان ينفجر بالآخر دون ان ينظر في عينه خجلا من الزاد والملح، من يخرج سالما من هذا النوبة القاتلة سيفرغ شهوته بافخاذ تحرير ، مقابل مغري في نزق شباط اللباط، بينما ترقص تحرير واخواتها في عالم اخر يجري الان احتكاك ذكوري مميت فوق سطح الدار،يشتبكان كسنوريات برية، ناب حديدي حاد يخترق رقبة الاشقر ، يسقط بين ذراعي مسعود ملطخا شعره الاسود بالدم الحار.
تتراقص ( تحرير ) بحركات جنسية تدل على عطش الانثى، يمتلئ الجو بعرق الرغبة
: ردح ،ردح , اي ، اي ،
تتعالى الضحكات المتداخلة مع الغناء ،لم يسمعن الاشقر وهو يشخر بوجع ويردد بحروف مكسرة قبل الموت
:خخخ تح.. رير.. ررر.
لم يسمعن صوت(طببببب) قفزة مسعود الهارب بعيون غائرة شاردة ومرتعبة ووجه مسلوب الحياة أكثر من ضحيته،
: اي ، ردح ، اي
يتعانقن ويتمايلن ، يسقطن بعدها ارضا من الضحك والتعب
تستثمر وردة نشوة تحرير لتسألها،
: مسعود لو الاشقر، ها؟
تعود تحرير للرقص من جديد ،
تهز رأسها يمينا ويسارا كبندول ساعة غير مظبوط ،
: (محتارة ادور انا ادور انا ..)تردد أغنية بصرية قديمة، في الخارج ،يسيل الدم من سقف الدار ببطء قافلة نمل ،يهبط على النافذة ، تتراءى قطرات ومسارات حمراء زاحفة بتعرج على الزجاج،
:يا بنات، السما تمطر دم، تقول نعيمة بسذاجة وهي تنظر من الداخل للزجاج ،تنزل الستارة المنزوعة اللون ، وتعود للرقص مع الأخريات.
……….

(صبحونية اخيرة).

يعرفن بالأمر متأخرا،ينطلق صراخ أنثوي حاد يشبه مواء الف قطة تهرس في خلاط ، لم يكترث احد ففي شباط من كل عام تتفجر الرغبات الشابة لتصير نكاح ينتج صغار يملئون سطوح البيوت القديمة المنخفضة ، هكذا تجاهل من سمع الصرخات مصدرها.
في الصبحونية المشؤومة تلك تحمل (ام غايب) الأشقر على كتفها ،تسير ببطء وألم كمن كسرت له أربع ضلوع ، تنعاه،

: يمه يا شواربك الشوك ، وفوك الكتف نجماتك تلوك ، ربيتك ترف من طيحة الكاروك…

يلطمن ويمرغن اجسادهن بالتراب الا تحرير صمتت كمالبازلت، الصدمة افقدتها النطق..تجمع اشياءها في صرة ، تمسكها بفمها وتهرب الى المجهول ..
: امنا ، امنا..
يتهافتن (وردة) و(نعيمة ) على ام غايب التي عادت للتو ، تترنح عند الباب وتسقط ،
يتقافزن على جسدها الملفوف بعباءتها والممدد في عتبة الباب وردة تنحب وهي مستلقية على وجهها تجن فتقضم ذيلها ،تاكل نصفه وتفقد الوعي .
نعيمة تبكي ثم تصمت تقوم بعدها بضرب النافذة براسها وهي تموء وتموء حتى آخر الزمان، تهجر الدار وتبتعد عيون العابرون عنها، بانتظار أن يأتي يوما ما ، عربيد ليل ، لامع كزجاج أسود مصقول ،في زمن (الانتظارات) الرطبة والعطن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز


.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن




.. هنا تم دفن الفنان الراحل صلاح السعدني


.. اللحظات الاولي لوصول جثمان الفنان صلاح السعدني




.. خروج جثمان الفنان صلاح السعدني من مسجد الشرطة بالشيخ زايد