الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تزييف التاريخ في سينما هوليود

محمد الفقي
محمد الفقي (1970) كاتب عربي من مصر.

(Mohamed Elfeki)

2018 / 11 / 22
الادب والفن


الرئيس الأمريكي هاري ترومان (1884-1972) الذي أعطى أوامره بإسقاط القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناجازاكي، وهو نفسه صاحب معسكرات الاعتقال الجماعية للأمريكيين من ذوي الأصول اليابانية في الحرب العالمية الثانية، كتب وهو شاب رسالة إلى خطيبته جاء فيها: "أعتقد أن كل إنسان مساو لأخيه الإنسان، طالما كان أميناً ومحترماً، وليس زنجياً، أو يابانياً، أو صينياً... يقول العم "ويل" إن الرب خلق الإنسان الأبيض من تراب، وخلق الزنجي من الوحل، ثم رمى ما تبقى فجاء منه الياباني والصيني."
لكن إذا كان هذا هو التاريخ الفعلي لأمريكا، فإننا نشهد تاريخاً آخر مزيفاً في أفلام هوليود. ففي (كابتن أمريكا: المنتقم الأول، 2011) Captain America: The First Avenger ، نرى شخصية بطل أمريكي-ياباني في قوات النخبة الأمريكية يعمل كتفاً بكتف مع "كابتن أمريكا" في مواجهة النازي الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية. وكأن الهدف هو زرع وعي بديل مفاده أن الأمريكيين-اليابانيين كانوا جزءًا من الجيش الوطني في الحرب وليسوا محتجزين جماعياً في معسكرات الاعتقال المسورة. إن صورة الوحدة الوطنية الأمريكية ضد العدو النازي هنا هي صورة مزيفة لما وقع تاريخياً بالفعل، وهي تأتي في نوعية أفلام شعبية وواسعة الانتشار، هي الآن مصدر أساسي من مصادر "الخبرة" لدى جيل المراهقين الجدد؛ جيل الإنترنت والمصطنعات المعزول عن الواقع الاجتماعي والإنساني، والذين يحيون في "صحراء الوعي" بتعبيرات سلافوي جيجك.
في نفس الفيلم أيضاً تكسب أمريكا الحرب العالمية الثانية بمجهودات "كابتن أمريكا" ورفاقه الجنود الخارقين، وبفضل ما في حوزتهم من أسلحة سرية فتاكة، وليس بتضحيات شعب الاتحاد السوفييتي، الذي قدم أكثر من 20 مليون قتيلاً من أبنائه حتى بدأ جيش هتلر ينهزم أمامه لأول مرة.
ويستمر تزييف الوعي خلال الفيلم حين يشير مثلاً إلى الضابط النازي السادي "يوهان شميت" ومنظمته النازية "الهيدرا" المستمرة في عملها من أيام الحرب العالمية الثانية وإلى يومنا الحالي، بوصفها المسؤولة عن الإرهاب والتخريب في عالمنا المعاصر. فتنجو بذلك السياسات الأمريكية في كوريا، وفيتنام، وكمبوديا، وأمريكا اللاتينية، وأفغانستان، والعراق.. إلخ من اللوم. إن الفوضى في عالم اليوم، والحروب الأهلية، والقتل، والانقلابات المدبرة، والاغتيالات، والفقر، والخراب الذي تتسبب فيه الأجهزة الأمنية والجيش والسياسات الأمريكية، يتم نسبها جميعاً إلى تغلغل منظمة "الهيدرا" النازية داخل منظمة "الدرع" الأمريكية المسؤولة عن حماية أمريكا والعالم.
بل وتصبح الآلة العسكرية الأمريكية هي الأمل الوحيد في "إنقاذ العالم" من الدمار، وإليها يرجع كل الفضل في تحويل الشاب الضعيف المصدور "ستيف" إلى "كابتن أمريكا" الخارق القوة والمفتول العضلات الذي ينقذ العالم من خطر الدمار في كل أفلام سلسلة (كابتن أمريكا) Captain America وسلسلة (المنتقمون) The Avengers. وتتكرر أصداء هذه الفكرة في معظم الأفلام الأمريكية الحالية، حتى وإن كانت أجواء الدراما خيالية وبعيدة عن الواقع، كمثل فيلم (ماكس المجنون: الطريق الضاري، 2015) Mad Max: Fury Road . فالجنة "الخضراء" التي يحاول أبطال الفيلم الوصول إليها لتحقيق الخلاص من عبوديتهم، لا يتم الوصول إليها إلا بوسيلة "المركبة الحربية" المتفوقة على باقي مركبات الخصوم والأعداء، وباستخدام الأسلحة والمسدسات والبنادق. وبمناسبة الحديث عن الجنة، نشير عرضاً إلى أن الجنة نفسها التي نعرفها كما استقرت صورتها في الوعي الجماعي الإنساني، يتم تشويهها في فيلم (هذه هي النهاية، 2013) This is the End ، حيث نرى الصالحين في الجنة يتعاطون المخدرات، ومن حولهم فتيات الاستعراض بالبيكيني. بل ويصل الأمر إلى أن يستقبل أحد الملائكة بعض الصالحين الصاعدين تواً إلى الجنة بقوله: "مرحباً بكم في الجنة يا أولاد الغواني!".
أما فيلم (أبراهام لينكولن: صائد الفامبايرز، 2012) Abraham Lincoln: Vampire Hunter ، فيحاول تزييف تاريخ أقدم من تاريخ الحرب العالمية الثانية. إن لينكولن في الفيلم يصطاد مصاصي الدماء، على طريقة "صيادي الأشباح" في السلسلة الفيلمية الشهيرة. لكنه يتحول إلى العمل بالسياسة عندما يدرك أن ممارسات مصاصي الدماء هي المسؤولة عن استمرار نظام الرق (وليس الرأسماليين، والإقطاعيين، والنظام الاقتصادي الحر الذي تأسس في الأصل على اقتصاديات الرق، والإتجار بالبشر، والسخرة). وحين ينجح في الانتخابات الرئاسية ويصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، يقرر خوض حرباً ضد ولايات الجنوب، لأن مصاصي الدماء يتركزون هناك، فيواجه جيشه الاتحادي جيش الفامبايرز الجنوبيين المُصرين على استمرار الرق، ويتفتق ذهنه عن استعمال ذخيرة من الفضة لأنها تدمر الفامبايرز، ويخوض بنفسه نزالاً ثنائياً ضد زعيمهم على سطح قطار سريع.
إن الفيلم بأكمله مليئ بالتزييف المقصود والمتعمد. يقول زعيم الفامبايرز، مثلاً، ضمن ما يقوله في شهادته على تاريخ الإنسان على الأرض: "ولقد شهدت اليهود في مصر وهم يُسخِّرون الناس ليبنوا الأهرامات كالعبيد..". بالرغم من أنه بات معلوماً اليوم للعامة، من الاكتشافات الأثرية، ومن مدة طويلة، أن اليهود لم يبنوا الأهرامات، ولا العبودية كانت هي النظام الذي بُنيب على أساسه؛ بل كان بُنَّاؤها عمالاً مصريين من الأحرار الذي حظوا باحترام وتقدير الحكام الفراعنة، والذين كانت لهم مساكنهم الخاصة في منطقة الأهرامات، ومتوفر لهم أنظمة غذائية ومعيشية متحضرة أكثر حتى من باقي المصريين.
إن الفيلم يحاول زرع وعي جديد في ذهن المراهقين؛ بأن الجنوب الأمريكي الذي أيد الرق ودافع عنه باستماتة، لم يكن جنوباً من البشر أو الأمريكيين. إن وصمة العار هذه في التاريخ الأمريكي يتم إلصاقها بمصاصي الدماء المتوحشين. وبدلاً عن ما نعرفه من أن تمسك طبقة السادة في ولايات الجنوب بنظام العبودية كان في الأساس لأسباب اقتصادية؛ حيث يعتمد اقتصاد تلك الولايات على زراعة القطن بأيدي عبيد الأرض الأقنان، تصبح الحرب الأهلية الأمريكية في الفيلم هي ضد الشر الشيطاني الممثل في الفامبايرز، الذين يهدفون إلى احتلال كافة التراب الأمريكي ليصبح وطناً لهم، تمهيداً لحكم العالم أجمع بعد ذلك.
وينتهي الفيلم بانتصار لينكولن طبعاً على الفامبايرز. ويكتب لينكولن أخيراً في مذكراته بأنه قد طهر التراب الأمريكي من مصاصي الدماء، الذين فر من تبقى منهم إلى "الشرق" وإلى "أمريكا الجنوبية". إن الرسالة واضحة: من هناك سيأتي "الشر" في ما بعد، ومن "هناك" سيهاجم "الفامبايرز" أمريكا في ما بعد، وستكون مهمة أحفاد لينكولن هي "إنقاذ" العالم من "الشر" الموجود في "الشرق" وفي "أمريكا الجنوبية".

تزييف تاريخ العنصرية ودعمها:
لا تخلو أفلام هوليود اليوم من تزييف لتاريخ العلاقات بين الأعراق الأمريكية. إن المثال الذي سقناه سابقاً عن تزييف تاريخ العلاقة مع الأمريكيين ذوي الأصول اليابانية، وتصويره على أنه لحظات سامية من الوحدة الوطنية، عوضاً عن حقيقة معسكرات الاعتقال الجماعية للأسر الأمريكية-اليابانية، واعتبارهم طابوراً خامساً، إن ذلك المثال ليس استثناءً من القاعدة. ففي فيلم ريدلي سكوت، مثلاً، (رجل العصابات الأمريكي، 2007) American Gangster ، هناك محاولة مستميتة لإعادة رسم ملامح الفترة التي شهد فيها المجتمع الأمريكي ذروة الأحداث العنصرية تجاه السود. إن الفيلم يستدعي الفترة ما بين عامي (1968-1971)، وهي نفسها فترة غزو أمريكا لفيتنام، ليصورها باعتبار أن السود هم أفراد عصابات، وتجار مخدرات يغرقون أمريكا بسمومها. بل إن حي هارلم كله يعيش على الجريمة التي يؤيدها ويساندها أبناء الحي من السود. وفي المقابل، يصور الرجل الأبيض الأنجلوساكسوني بوصفه المتفوق أخلاقياً (ريتشي روبرتس: الممثل راسل كرو)، وهو شرطي شريف وأمين يرفض رشوة بمليون دولار من تجار المخدرات السود. إنه الأذكى، والأصلح، والأكثر مهارة، ومثابرة، وشرف، ووطنية.
إن الفيلم يرسم لنا صورة تلك الفترة على اعتبار أن المشكلة الأولى والكبرى في الداخل الأمريكي كانت هي انتشار المخدرات القادمة من فيتنام، وليست الممارسات الأمريكية العنصرية تجاه المواطنين السود، ولا حتى الغزو الأمريكي لفيتنام. إن الهيروين، في الفيلم، يأتي من فيتنام، من جيش التحرير الفيتنامي نفسه، الذي يعقد صفقة مع تاجر المخدرات الأسود (فرانك لوكاس: الممثل دنزل واشنطن)، لإغراق السوق الأمريكية بالمخدرات الفيتنامية. وكأنه حلف فاوستي بين الأسود المجرم وبين الفيتنامي عدو أمريكا، في ذروة الحرب الأمريكية على فيتنام. ولابد أن يستنتج المتفرج عديم الخبرة أن المقاومة الفيتنامية للاحتلال الأمريكي تركت الحرب لتتفرغ لزراعة الأفيون وتصنيع الهيرويين في الأدغال.
ولا يكتفي الفيلم بهذا التزييف، بل يدين كذلك "الغباء الفطري" للرجل الأسود: فنرى الإنفاق المتهور لدنزل واشنطن حين يصبح مليونيراً في طرفة عين من تجارة المخدرات. يعرض علينا الفيلم بذخه في شراء القصور، والضياع، والعقارات، والنوادي الليلية، بلا أي غطاء قانوني، ولا حتى محاولة لتبييض الأموال القذرة. وذلك على النقيض من زعماء عصابات المافيا الأمريكية-الإيطالية الذين يظهرون أكثر ذكاءً وحرصاً وتدقيقاً في مصارف أموالهم تجنباً للفت النظر. وإن كان الحال كذلك، فمن حق المتفرج -وربما كان هذا هو هدف الفيلم- أن يحتقر المجرم الأسود الغبي، المتهور، كما يحتقره زعماء عصابات المافيا الإيطالية في الفيلم، باعتباره "نوفوريش" أرعن وغبي.
النظرة الأخلاقية الدونية للأسود، سنجدها في الكثير من الأفلام الهوليودية، وربما يكون من الأمثلة على ذلك؛ المخترع الأمريكي الأسود الذي اخترع "المدمر الشرير" في فيلم (المدمر جينيسس، 2015) Terminator Genisys. والأكثر فجاجة في الفيلم، أن المخترع الأسود يمنح المدمر الشرير الذي اخترعه ملامحاً آسيوية، بينما الأبطال المنقذون للبشرية في الفيلم هم من البيض الأنجلوساكونيين.
قس على ذلك أيضاً فيلم (الرجل النملة، 2015) Ant Man ، الذي يتم فيه السخرية على مدار زمن الفيلم من العرق المكسيكي؛ فيظهرون حمقى وبلهاء، فضلاً عن كونهم لصوصاً ومجرمين. إن عصابة اللصوص الظرفاء، أصدقاء البطل الأبيض الخارق "الرجل النملة"، والذين يعملون على مساعدته بوصفه صديقهم القديم قبل أن يصبح خارقاً، هم مجموعة من الأمريكيين من ذوي الأصول المكسيكية، ويتم توظيفهم في الحبكة لإثارة السخرية منهم، والضحك على سلوكياتهم وردود أفعالهم البلهاء. إن الحمق، وانعدام الوعي لدى الشخصية الأمريكية-المكسيكية يصل إلى حد أن يسأل زعيم العصابة المكسيكية صديقه "الرجل النملة" أثناء احتدام المواجهات مع الأعداء: "أخبرني.. هل نحن الأخيار أم الأشرار؟!".
إن العنصرية مبثوثة تقريباً في كل أفلام هوليود الشعبية اليوم؛ في ثنايا تلك الأفلام، وعلى الحواف والهوامش. في (كابتن أمريكا: المنتقم الأول)، نكتشف أن الشرير الذي تم تقديمه في بداية الفيلم على أنه فرنسي الجنسية ومن الكوماندوز السابقين في الجيش الفرنسي، نكتشف أنه عربي جزائري.
والسرعة التي يتم بها إيقاع مشهد من تلك المشاهد، لا تتيح للمُشاهد فرصة للتفكير أو التأمل، فضلاً عن إدانة أو استهجان فعل التزييف، فتلاحق الصدمات المتتالية للأحداث، تطالبه بالتركيز على القادم والآتي، بينما تقبع نفايات التزييف في قاع الوعي، وقد أخذت في التحول إلى حقائق. ونكون هنا بإزاء مشاهدة "دون الصفرية"، أي سلبية؛ لأنها تضلل وعي المُشاهد، وتقدم له خبرة زائفة. إنه نموذج للاصطناع الذي تحدث عنه جان بودريار: خلق نسخة مصطنعة بعيدة عن الواقع، لكنها أكثر تحققاً من الواقع نفسه. وبتعبيرات وزير الدعاية النازية جوبلز: "إذا ألححت على تقديم كذبة، أصبحت حقيقة".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في