الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبد المجيد غيفارا

دعد دريد ثابت

2018 / 11 / 30
الادب والفن


موضوع أو شخصية هذا الإنسان أصطدمت بها ومعها وقتاً لأستطيع أن أعبر لها ومن خلالها عما يجول في فكره والكثير من أمثاله.
ربما أردت الهروب مني وما أشعر به من خذلان في هذا المد الصاخب من أناس صامتين ممن هم من حولي وماتجترعه روحي وتحاول أن تنتشلني الأنا كل مرة من جديد بعد خذلان جديد. ولكن الأمانة التي أعطيتها لنفسي والوعد الذي قطعته سراً بيني وبينها يعود فينتشلني من جذور الأمل المتقد دوماً يعود فينتشلني من بقايا شعري من مستنقع يود إبتلاعي لغير رجعة مرة أخرى من جديد، ماجعلني أدون عنه.
فلكل شخصية أو حدث أصب كإنسانة سواء كنت كاتبة أو مطلقة لعنان روحي جزءاً منه، وعليه عليّ أن كون بنفس الآن حريصاً وشاهداً محايداً لأكون لسانه الأخرس وروحه الصامتة في إطلاقها.
وهنا المعضلة هل هو ينطق عني أم أنني سأكون حرفه الأخرق؟
عبد المجيد كان من الممكن أن يكون ليوناردو دافنشي، ماركس، همنغواي، تشي غيفارا أو عبد الله المختار، ليس فقط للحيته الكثة، ولكن لنظرة الغربة التي تنطقها روحه المعذبة بداخلها. ولكنه كان المتسكع الغريب بلا مأوى ولا أهل ولا روح ترأف به ولا مال بحوزته، محصناً فقط بالمه وعزلته وبرد يرتديه في كل الفصول.
التقيته في إحدىحواري إسطنبول القديمة، مساءاً وقبل إغلاق المحلات بوقت قصير، وكعادتي في تفحص واجهات المحلات وخاصة الأنتيكة والحلي، حتى وإن لم أبتاع شيئاً، فهناك دائماً الجمال للقديم مايشدني للرؤية والإستمتاع. ومن طبيعتي لا أكتفي فقط بالرؤية، وإنما أتحدث عن جمال المصوغات أو الأنتيكة وابرع في وصفها وتثمين قدمها وجودة صناعتها. ويالغرابة الحدث فلولا هذا الترف ماألتقيت بذاك العوز، فقد فوجئت برجلٍ يكلمنا بكل لياقة وأدب ويسألنا إن كنا عراقيين. وحين أجبناه بإيجابية، لاحظت شهقة الفرحة تنطقها كل ملامح وجهه وهو غير مصدق، كأننا حمامتي السلام من أرض اللا سلام.
طلب منا وهو يمتلئ خجلاً إن كنا نملك بعضَ الوقتِ لنشرب الشاي معه. ومن ملابسه التي كانت تحاول بحياء الحفاظ على مأنقها التي كانت عليها في يوم ما، وإتساخها الخجل في محاولة للبقاء عليها نظيفة منشاة كما كانت عليها سابقاً، تأكدت بسرعة بديهتي أن الشوارع هي ملجأه ومنفاه، والحوانيت وقطط الشوارع وأشجارها رفاقه ومكمن أسراره.
جلسنا في مقهى على طرف الشارع، وألححنا عليه بطلب شئ يأكله، فرفض بشدة. وبعد إصرار شديد وافق على سندويشة يأخذها معه في منفاه المختار تحت شجرة كفطور للصباح، وطلبنا الشاي وجلسنا نستمع لقصته.
كان رجلاً فناناً أنهى دراسة أكاديمية الفنون الجميلة، وكان يملك محلاً في بغداد لبيع التحفيات والأنتيكة. وقد رحل لإسطنبول وهو يملك بحوزته رصيداً جيداً، ولكن سوء طالعه في تقدير الآخرين، جعلته يقع في براثن النصابين والمحتالين ليخسر كل أمواله ومايملكه حتى من موبايل وأغراض قيمة. لأكون محايدة تماماً وبعد شكي بأنه مدمن على الشراب، علمت أنها إحدى تلك الأسباب والتي جعلت حتى أهله يبتعدون عنه، بعد أن قاموا بمحاولة أخيرة بأن زاروه قبل أسبوعين من لقائنا، وأخبروه أنهم مستعدين لإعطائه المال فقط في حال رجوعه الى العراق.
وحين سألته عن المانع، تحجج بأنه يرفض العودة خالي الوفاض مكسوراً وهو لايملك الحلم الذي ذهب من أجله لتركيا بأن يكون تاجراً غنياً. وهو بحاجة فقط لرأسمال صغير ليبتاع بعض الحلي ليعود فيبيعها ويربح وهكذا حتى يحصل على أمنيته بالمبلغ المطلوب ليعود مزهواً للوطن.
ولكني علمت أن هذا ليس السبب، فواجهته بأن وضعه لايسمح له بذلك وهو متسكع والشتاء قادم، ولماذا لا يبحث عن مأوى في الملاجئ الخيرية لكي يستحم ويحصل على بعضٍ من الدفئ. حتى أنني وبعد أن عرض علينا من كيس النايلون الذي كان يحمله تخطيطاته على أغلفة دفاتر وجدها مرمية وبأقلام بسيطة، رسومات أذهلتني بجمالها ودقتها وتنم عن روح شفافة. وحين قدم صاحب الحانة وأبدى إعجابه وتعجبه من أنه يراه كل يوم يتسكع ولم يعلم بأنه فناناً، خطرت ببالي فكرة بأن بعد أن يهندم حاله قليلاً، أن أطلب له من صاحب القهوة بأن يأتي ليرسم أمام محله للسواح بورتريهات أو مناظر لييبعها لهم. تمنيت بشدة أنني سأقبل عصفورين قبلة بمرة واحدة. فعرضت على عبد المجيد الفكرة ولكنه رفض بشدة ذلك. وأسقطت كل محاولاتي بإقناعه بالرغم من معرفته بسوء حالته الصحية ومعاناته من البرد. فهو ينام تحت الشجرة ليتلحف لحائها ويستيقظ مبكراُ لتخفي أغصانها بقايا متاعه المهلهلة صباحاً وتنتظره لحين قدومه مساءاً.
وكل ماكان يتمناه في خياله أن نلتزمه حين يعود لبغداد ونوفر له محلاً ليبيع به أنتيكته وأساور وقلائد سيجلبها معه من إسطنبول، وهو ماوعدناه به في حال عودته، التي كنا نعلم بأنها لن تكون وخاصة بعد أن سألته وبصراحتي المعهودة لي ولكن بإحراج بأنه يدمن المشروبات، والذي وبخجل منه أعترف بذلك.
سألته وأنا محرجة إن يسمح لي بتصويره، فأجابني وهو معترض على أنه لم يحلق لحيته الكثة منذ فترة طويلة. وأعقبت أن تلك اللحية هي السبب الرئيسي لي بذلك الطلب، لأنها تعبير حي عن معاناته وحربه النفسية مع ذاته التي يلفظها ويتقيأها مجتمع فظ منافق لايتقبل الا الخانعين الذين على شاكلته، ليضطر للهروب الى بلاد لايعرفه أحد بها ويبقى مجهولاً مخموراً لحين إنتقاء الموت الصديق له.
هل كانت تجاربه المكررة بإحباطتها مادفعه لترك أهله وبلده وماضيه خلفه؟ أم هو شعور من أخطأ بتقييم الناس من حوله وأعتقد الخير والصدق ولو بشخص واحدٍ، ليكتشف كم هو عقيم وساذج، بأن يظن بأن هناك حقيقة في ذلك الإنسان وأن في حياة لادخل لنا بإختيارها أن نشك ولو للحظة بأن هناك أملاً كنسيج عنكبوت واهي في عبث عمر سنعيشه؟ّ! وكم هي جعبة الألم بعد ذلك الإكتشاف الوجودي المتكرر المرة تلو الأخرى، ليصل الى القناعة أن الحقيقة هي أمر خائب، وعليه أن يكتشف حقيقته التي لن يكتشفها هي الأخرى، قبل أن يعول على أوهام حقائق الآخرين.
هناك الكثير من الأسباب لهروبه، وتفضيله الموت السريع على البطئ في بلد يخنق البشر بعضهم البعض بحجج مقيتة تاركين نفوس بعضهم محطمة، منهارة ومقادة عمياء، ليشهر جنونه وإدمانه بين أزقة لا تلفظها أرصفتها الا حين يلفظها نعله بالموت.
سلام محبة آزرة لروحك المعذبة أينما كانت ولكل أرواح عبد المجيد أينما كانت لحين لقيانا الأخير، أو مابعده !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا