الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موريس بلانشو قارئا كافكا

محسن وحي

2018 / 12 / 2
الادب والفن


إن البحث في فكر الروائي والأديب التشيكي كافكا كالبحث عن أحجية غامضة، وهذا يرجع إلى مجموعة من الأسباب من بينها أن طبيعة الأدب الكافكوي قابل لعدة تأويلات مختلفة يمكن أن تصل إلى حد التناقض، تأويلات تريد أن تجد لنفسها الخيط الرابط بين مجالين مختلفين : الحياة الخاصة لكافكا وأدبه، بين عالمين يؤثر أحدهما في الآخر، عالمين منفتحين على جميع الإمكانيات المتعددة للتأويل. يقول موريس بلانشو "أن أي قراءة لكافكا ستكون خائنة بشكل من الأشكال، وهذا الشيء يرجع إلى استحالة وجود تأويل واحد للأعمال الأدبية لكافكا" . يمكن أن نستنتج من خلال هذا الاقتباس لموريس بلانشو أن أحد مصادر الغنى والخصوبة فيما تركه كافكا وراءه من أثار كتابية هو تعدد المعنى الذي تحمله في طياته، إن كتاباته بمعنى من المعاني تتحدى التأويل الواحد والمعنى . هذا المعطى ما هو إلا تعبير عن مكانة كافكا في الأدب العالمي، يصفه "برادبري" بأنه الكاتب الأطول ظلا لأنه أثر بشكل عميق على عدد من الكتاب المعروفين والمكرسين في الدوائر الأدبية والنقدية،"ألبير كامو" مثلا كان يكتب مثل رجل مدان مثل كافكا تماما، وقد صرح في أكثر من موضع بإعجابه بكافكا.
لعل ما يميز كافكا هو تعدد تصنيف فكره من قبل دارسيه، فهناك من يعتبره بأنه مفكر ديني لأنه يؤمن بالمطلق أو الإله-هذا التصنيف نجده عند صديقه ماكس برود- وبالمقابل هناك من يعتبره بأنه ينتمي إلى النزعة الإنسانية التي تنتصر للإنسان بغض النظر عن ارتباطه بالإله. بالإضافة إلى ذلك فهناك تأويلات مختلفة فيما يخص حياة كافكا، فمثلا" بيير كلوسوسكي" يرى أن حياة كافكا وسيرته الذاتية هي نموذج لشخص مريض يرغب في الشفاء ، بينما يرى "جون ستاغوبينسكي" بأن كافكا مثل رجل غريب مسه سوء الطالع .
يرى موريس بلانشو بأن هذه القراءات والتأويلات المتعددة لفكر كافكا وحياته الخاصة تعكس سوء فهم لقراءة تريد أن تحفظ لنفسها حق حل الأحجية . إن ما يفسر هذا المعطى المرتبط بالقراءة الفكرية لكافكا هو أن أسلوبه في الكتابة يعتمد على الأسلوب الشذري في الكتابة ، بالإضافة إلى هذا فالعالم الكافكوي- القصصي والروائي- هو عالم على حد تعبير بلانشو عالم متهم وغير مقفل، انه عالم اللاعدالة والخطأ بمعنى أن أدب كافكا لامتناهي من حيث المعنى يفرض على القارئ أن يكون قارئا مؤولا مطالب باحترام مقتضيات النص أي بدراسته في شكله وتشكُّله وباحترام مقتضيات الفهم أي بتتبع حركية المعنى ومحاولة الوقوف على الأرض الصلبة. ومن الممكن أن نذكر من المراحل التي يتبعها المؤول، مرحلة الوصف ومرحلة التفسير ومرحلة التأويل ومرحلة التقييم.
1 – الوصف أو التوصيف: هو تحديد مجموع المواصفات والشروط والعلاقات التي تؤسس النص أي تحديد المستوى السيمانطيقي ومعرفة الطبيعة النوعية للكتابة التي ينتمي إليها. وبما أن لغة الأدب قد تجعل العلامات منفصلة عن الأشياء ومنفتحة على الخيال فإنها تقدم إمكانية إيجاد أبنية جديدة تجعل النص في صورته الخاصة موجودا بالقوة فقط أو موجودا مع وقف التنفيذ. ولذلك ينبغي للمؤول في هذه المرحلة أن يستفيد من الدراسات اللغوية أو من الدراسات البنيوية ليفتح منفذا إلى الاضطراب الحاصل بين كيان النص وكينونته أو بين عالمه وحقيقته أو بين إشكالية الكتابة وإشكالية القراءة …على أن الوصف قد لا يكون موضوعيا أو تاما ومن ثم قد يكون موجِّها لعملية التأويل منذ البداية، وتلك إحدى المزالق التي يحف بها .
2 – التفسير: وهو محاولة إقامة تلاؤم سيمانطيقي جديد في النص لإزالة الغرابة واستعادة أو خلق الألفة المفقودة فيه، بمعنى التعرف على المقامات أو السياقات التي تفيد في فهمه أو تجعله ذا معنى يساعد على إنجاز المرجعية التي ظلت معلقة. ورغم أن الأثر يفيد بما يجعل منه آلية تمثُّل البنيات الاجتماعية والثقافية والإنسانية، وبما ينم عن انشغالات القراء زمن إنشائه، وبما يحدد دوره ومنزلته ضمن صيرورة التاريخ وفي جدلية الفن والواقع، فإن السياقات الخارجية قد لا تفيد كثيرا في عملية التأويل، لأن القارئ أو الناقد المؤول ينظر إلى ملابسات الجانب التقني في بناء النص وليس إلى مُرْفَقَاته. فالنص الشعري مثلا يفسر في نطاق مستلزمات الشعر ومقومات النوع وليس فقط فيما قد يحتويه من أثر السياقات الخارجية وعليه فإن مشكلة التأويل تتجاوز ما يدعي النص أنه يقوله أو لا يقوله، وتعني بالأحرى تلك الكيفية التي يحدد بها السياق تأويل المقول. ومع ذلك أو لذلك فإن التفسير قد لا يزيل كل الغموض، وبالتالي قد لا يصل التأويل إلى المدى المطلوب.
3 – التأويل: يتتبع التأويل إذن وفق المراحل السابقة حركية المعنى في النص متجها إلى العالم ومستهدفا استخلاص الحقيقة من الفن أو معرفة الباطن من وراء الظاهر. فهو بسط للوسائط الممكنة بين الأدب أو غير الأدب والناس. وإذا كان الكاتب غائبا لحظة القراءة فهو محمول حسابه في التأويل، أي في فهمه من خلال فهم كتابته، وهو مصداق قولة ( ديلتي Dilthey ) مثلا: « إن الغاية النهائية للتأويل هي أن نفهم الكاتب أكثر مما فهم هو نفسه »
4 – التقويم: وهو الحكم أو التقدير الذي يأتي في نهاية التأويل، ورغم أنه قد لا يكون صائبا أو شاملا إلا أنه يدفع إلى امتلاك المعنى العميق في النص برمته وتنزيله منزلته ضمن مراتب المعرفة العامة.

يعتبر موريس بلانشو أن كافكا كان شغوفا بالأدب إلى حد القول "أنه لا يريد أن يكون شيئا أخر غير الأدب" . من خلال هذا المقتطف نستنتج أن الأدب بالنسبة لكافكا يحتل مكانة رفيعة في حياته، انه الملاذ الوحيد من ضجر الحياة التي كان يعيشهاً. فالكتابة الأدبية الكافكوية هي تعبير عن رفض الأشياء التافهة، رفض للعمل اليومي الذي تطبعه الرتابة والآلية، ورفض للعلاقة مع الآخرين، ورفض حتى لذاته ، كل ذلك تثبته لنا يوميات كافكا.
إن قراءة الأدب الكافكوي لن تكون ممكنة إلا إذا قراناه في تاريخيته ، فالأعمال الأدبية لكافكا مستقاة من الواقع الاجتماعي والسياسي الذي كان يعيش فيه، وهي الفترة الزمنية التي ظهرت فيها أشكال متعددة من السلط القهرية على الإنسان المعاصر. ولعل أبرز هذه القوى التسلطية هي الأنظمة الشمولية التي ظهرت في القرن العشرين في أروبا، كالنازية في ألمانيا، والفاشية في ايطاليا. وما يميز وضعية الإنسان آنذاك هو فقدانه لحريته وإحساسه بالاغتراب، وتحوله إلى أداة وعبد للآلة التي اقتحمت حياته اقتحاما لتنزوي أمام ذلك إنسانية الإنسان والجانب الروحي فيه إلى أقصى درجات الانزواء. في ظل تلك الظروف التاريخية التي عاش فيها كافكا كان من البديهي أن يتأثر بهذه الوضعية التراجيدية للإنسان المعاصر، نجد هذا المعطى حاضر بشكل واضح في روياته الأدبية مثل: "القلعة"و"القضية" و"أمريكا". يذهب الكثير من النقاد الأدبيين أن هذه الرويات إنما ينتقد فيها كافكا نظام وسلوك البيروقراطية كنموذج من نماذج السلطة التي تنزل كل أشكال الظلم والجور والتعامل اللانساني على البطل الفرد في روياته، ويقابلها فعلا على مستوى الواقع وضعية الأفراد الذين فقدوا قدرتهم على الفعل أمام هذه السلطة البيروقراطية.
يعتبر "جون ماكوري" بأن كافكا هو أعظم الكتاب الوجوديين، فمن خلال روايته "المحاكمة" يمكن أن نجد فيها هذا المعطى حاضر بشكل قوي، حيث يجد البطل نفسه فجأة ماثلا أمام المحكمة ولا يستطيع حتى أن يكتشف طبيعة التهمة الموجهة إليه. هذه القراءة لفكر كافكا إنما هي قراءة خاصة لأن كل قراءة كما يؤكد على ذلك موريس بلانشو إلا وتكون خائنة بشكل من الأشكال.
يقول كافكا في يومياته" كل ما لا يمث صلة بالأدب أشمئز منه وأبغضه "، من خلال هذا المقتطف لكافكا نستشف المكانة الكبيرة التي يليها للأدب، يراه موريس بلانشو أنه مرتبط أشد الارتباط بالكتابة إلى حد أنه يوما ما فكر في الموت عندما كان ملزما بالعمل داخل معمل أبيه لمدة خمسة عشر يوما ستمنعه من الكتابة .
يفترض هذا الشيء حسب بلانشو التساؤل حول ماهية الأدب عند كافكا، فكيف إذن يقرأ بلانشو الكتابة الأدبية عند كافكا؟
إن الأدب عند كافكا هو سؤال حول معنى الحياة، هو ذلك السؤال الذي يغوص في الأعماق وفي التفاصيل، وهذا حسب بلانشو هو جوهر الأدب عندما يصبح سؤالا. الكتابة عند كافكا لا تؤسس على وظيفة جمالية، ولا تستهدف أن تكون تعبيرا عن رواية واقعية، إن ذلك ليس من الكتابة في شيء، بل الكتابة عند كافكا هي الملاذ الوحيد للخلاص من ضجر الحياة ورتابتها وفقدان المعنى . يعتبر موريس بلانشو أن الأدب عند كافكا يشبه تلك الطريقة التي كانت سائدة في القرن العشرين، وهي الكتابة التلقائية، ما فحوى هذه الطريقة في الكتابة؟
الكتابة التلقائية هو ذلك النوع الأدبي الذي ساد في القرن العشرين مع ظهور تيارات أدبية كالسريالية، وهي اتجاه أدبي حاول محاربة عنصر الوعي في الكتابة، فأداعت في بعض الأذهان، أن الكتابة ليست دائما لحظات من الوعي متصلة، بل إنها كثيرا ما تنفلت من سلطان الوعي، وقد تتخلص من هيمنته، وحينئذ يكون اللاوعي وحده هو مصدر العطاء والتدفق والثراء.
إن الأدب حسب بلانشو لن يكون ممكنا إلا بوجود مجموعة من الشروط من بينها:
- أن يكون الكاتب فنانا جيدا
- أن يتحلى الكاتب بحس جمالي
- أن يتقن الكاتب مهنة البحث عن الكلمات والصور.
هذه الشروط حسب بلانشو لن يكون لها معنى وجدوى إلا إذا كان الأديب أديبا حتى النهاية، وأن يؤمن بالأدب وأن يضحي من أجله ، ويضرب بلانشو المثال بكافكا الذي أراد في أخر أيام حياته أن تحرق كتاباته القصصية والأدبية، ليس لأنه يراها مخلة أخلاقيا، بل كان يراها لا تصل لمرتبة الكمال، ولكن لحسن حظنا أن صديقه "ماكس برود" قام بإخراج كتابات كافكا إلى الوجود.
نستخلص من كل ما سبق أن الكتابة الكافكوية شكلت لحظة تاريخية مهمة في خريطة الأدب العالمي، وقد أثرت كتاباته على مجموعة من الروائيين والأدباء والفلاسفة في العالم سواء في الغرب أو الشرق. هذا التأثير الكفكاوي يرجع بالأساس إلى طبيعة الكتابة والأسلوب والقضايا التي كان كافكا يتناولها في رواياته وقصصه القصيرة؛ إذ أنه يلجأ في الكتابة إلى عنصر الخيال والإبداع الفني والأسلوب الشذري، كل ذلك أدى إلى خلق قراءات متعددة ومختلفة التأويلات، مما يؤكد على مكانته في الأدب العالمي برمته، فكافكا رغم قصر حياته أنتج لنا كقراء زخما هائلا من الإنتاجات الأدبية مستقاة من تجاربه في حياته الخاصة من جهة، ومن واقع الإنسان الأوروبي في بدايات القرن العشرين من جهة أخرى.
يري موريس بلانشو أن الأدب عند كافكا عالم منفتح من المعنى والدلالة، وهذا ما يجعله قابل لتأويلات متعددة قد تصل إلى حد التناقض.
المرجع/Maurice blanchout/ De kafka a kafka
محسن وحي. أستاذ فلسفة في الثانوي التأهيلي. الدار البيضاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن