الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هروبٌ إلى ضفة الموت .

يوسف حمك

2018 / 12 / 3
الادب والفن


انتظروا الليل بفارغ الصبر . ليرخي خيوطه ، فيسدل على الكون لوناً كاحل السواد .
طهروا جروحهم بدموع أبويهم الكاشفة لمكنونات ذواتهما المقهورة .
وضعوا آهاتهم داخل حقائب السفر القسريِّ . وثقوها بأحزمةٍ من نسيج المرارة و القسوة ، ليغامروا برحلةٍ قد تقصيهم من حضن الأبوين بغيابٍ أبديٍّ . أو ترميهم وسط مياهٍ غبيةٍ بلا قلبٍ ، أو على الأرجح تبتلعهم إلى أعماق مقبرتها الأبدية . أو جثثاً تطفو على سطحها ، لتلفظهم إلى شواطئها هامدةً .

هكذا اعتادت أمواجها المسعورة الرعناء أن تتعامل مع الهاربين من جحيم بلدانهم - كالطيور المهاجرة إلى ألأوطانٍ الدافئةٍ - بلا توضيحٍ لفعلتها المجنونة . أسوةً باللاعبين على ملاعب أوطانهم بكرة الموت .
لعل التزامها بالصمت حيال ضحاياها الذين باتوا في خبر كان هو الاقتداء باللاعبين أصحاب قلوبٍ خلت من الرقة ، و غدت قاسيةً كالحجر .

لا قيمة لوطنٍ اجتاحه موجٌ باردٌ ، ليطرد الدفء من حضنه ، فيعتكف فيه ، مستمداً شرعية وجوده من مبادئ قانون الغاب .
و لا هيبة لبلدٍ حكامه التهموا موارده كالجراد ، فأغمى عليه من الإفلاس . و شحذوا سيوفهم لذبحه من الوريد إلى الوريد .
وسوسوا عقل الكهرباء حتى استكثرت عليه بنورها ، ليعيش في الظلام . و يدون اسمه على رأس قائمة بلدان العتمة .
و لا خير لأبناء بلدٍ واحدٍ يقتلون بعضهم بضراوةٍ . منقسمين لفريقين أحدهما معارضٌ و الآخر مؤيدٌ .
أما الذين لا ناقة لهم في الاقتتال المجنون ، و لا جمل لهم في الحرب الضروس بين أقطاب القوى العظمى ، و لا دخل لهم بمن ينتصر ، أو يحكم ، أو يهزم .
فهمهم الوحيد هو الركض وراء أحلامهم يالهجرة إلى ملاذٍ آمنٍ . حيث لا قتال و لا دماء و دمار .

بدأت رحلتهم في الهزيع الأول عقب رحيل الشمس ، و سحب خيوط أشعتها . بعد رفضهم الانصياع للنصائح التي تحثهم على البقاء في بلاد العتمة .
لم يأبهوا لتلك التحذيرات . بل استجابوا لنداء تجار الهجرة و سماسرة الحروب .
انفقوا أموالاً طائلةً لعبور حدود دولٍ تستغل هروب المتوافدين على شواطئها بكثافةٍ . كورقة ضغطٍ على الدول المستضيفة ، لتحقيق مكاسب اقتصاديةٍ ، و مآرب سياسيةٍ .

أكملوا المسيرة في رحلةٍ مضطربةٍ ، وهم على يقينٍ ربما تكون الأخيرة في الحياة ، أو تشكل المرحلة النهائية من هروبهم إلى موتٍ محتمٍ .
ركبوا قارباً مطاطياً ، تفتقد لأبسط معايير السلامة ، مكدسين كالخراف .
سار بهم القارب البائس متوجهاً نحو الضفة الأخرى .
أوشكوا على الوصول ، إلا أن المطاط المهترئ لم يتحمل ازدحام الفارين و ثقل همومهم .
انفجر بهم ، و أفرغ حمولته على الفور .
صاحت طفلةٌ في العاشرة من عمرها ، على الشاطئ الآخر . كانت قد عبرت المياه بأمانٍ :
لقد غرقت شقيقتي .
صيحتها كانت صرخةً دوت أرجاء سكون الترقب و الحذر .
كانت صرخة عجزٍ و شعورٍ بالوحدة لأول مرةٍ في حياتها .
صرخة قلبٍ مهزومٍ ذاب من الوجع .
صرخة ألمٍ أحدثت شرخاً واسعاً لروحٍ أحست أنها بقيت بلا سندٍ .
صرخة وجعٍ أحرقت أحشاءها ، كطفلةٍ ناضجةٍ عاشت الموت بكل تفاصيلها . داهمها شعورٌ مرعبٌ على أن رحلتها انقلبت مأتماً .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-