الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لقيط

دلور ميقري

2018 / 12 / 4
الادب والفن


إلى الطريق، الذي جاء منه وشكّل مصيره لاحقاً، يُنسب اسمُهُ ـ كما علمنا في زمنٍ آخر. " طارق " هذا، كان صديقَ العُمر المبكر وبقيت صورته ضبابية في طيات الذاكرة لحين أن جلاها يوماً حديثُ الأم بمناسبة متابعتنا لفيلمٍ كلاسيكيّ، يتعرض لحكاية طفلٍ لقيط.
في صدر الزقاق، وعلى مساحة فسيحة تشغل غالبيته حديقة ذات أشجار مثمرة، كان يتربع منزلُ أصدقاءٍ من جيلنا. جدّتهم لأبيهم، عُرفت آنذاك بكونها قابلة ولّدت العديدَ من نساء الحارة. ذات ليلة، وفيما كنتُ ما أنفكّ أنهلُ حليبَ أمي، كانت القابلة تقوم بإخراج مولود إلى نور الحياة. تمت الولادة إذاً تحت جنح الظلام، وكان من المقدّر كذلك أن يجري التعتيم على هوية أم المولود. سرّ هذه المرأة، بقيت محتفظة به القابلة ونقلته معها بعد بضعة أعوام إلى القبر. أما المولود، فما لبثَ أن عرفَ والدة جديدة في زقاقنا نفسه.
منزل " حوطيش "، كانت جدرانه الشمالية ملتصقة بجدران منزلنا. أغصان شجرة الليمون، المثقلة بالثمار المتلألئة مثل مصابيحٍ صفر، كانت تستلقي على السطح الفاصل بين البيتين الجارين. في خلال مناسباتٍ نادرة، حينما كان الأهلُ يغشون منزل جيرانهم، دأبوا على ملاحظة مدى الهدوء المهيمن، وذلك بسبب خلوه من الأولاد. رجل المنزل، كان منزوٍ مع امرأته " فاطمة " في غرفة، بينما شقيقته المطلقة تشغل الغرفة الأخرى مع ابنيها البالغين. إلا أنّ الحال لم يكن كذلك في فترة طفولتي، آنَ كنتُ أتواجد هناك بهدف اللعب مع " طارق ". ذات مرة، وبينما كنا نلهو أمام منزل صديقنا الوديع، إذا بأحد الصبيَة الكبار يدفعه فيسقطه أرضاً. صرخَ فيه صديقنا، مهدداً: " سأشكوك لماما فاطمة.. "
" فاطمة ليست أمك، يا هذا! "، ردّ الصبيّ بنبرة مسمومة. ظل صديقنا واجماً للحظات، يُدوّر الجملة في رأسه. وما عتمَ أن أندفع إلى داخل منزله، مُجهشاً ببكاء مرير. لحظات أخرى على الأثر، وكانت شقيقة " حوطيش " تمسك بأذن ذلك الصبيّ الطائش لتشدها بقوة: " لو كررتَ ذلك الكلام، لأخبرتُ والد طارق بالأمر وهوَ سيعرف شغله معك ".
" حوطيش "، كان رجلاً طيباً وطريفاً. إلا أنه بحسَب وقائع يرويها الأهل، لم يخلُ من نوبات نزق كانت تعتريه بين وقت وآخر. عمله في مركز الشام القديمة، كساقي قهوة متنقل، لعلها ضافرت في التشويش على الجانب الجيد في خلقه. وحدهم الأطفال، كانوا قريبين لقلب الرجل، بعد امرأته، وذلك نتيجة حرمانهما من الخلف. أما وقد منحته السماءُ ابناً، منذ تلك الليلة الظلماء، فإنه من الطبيعي أن يغدوَ في غاية الرضا والسعادة. تصاريف القدر، شاءت أن تغتال حياة الرجل، على حين فجأة، ولم يكن يشكو من مرضٍ ما. حينَ قضى زوجها نحبه، لم يعُد لامرأته مقامٌ في المنزل. أشترت منها شقيقته حصتها في المنزل، ثم شيّعتها إلى الباب بعينين تسيلان دمعاً حارقاً. " طارق "، اختفى أيضاً من الزقاق وما أسرعَ أن شمله النسيان. بقية القصة، عرفتها بعد عقود طويلة وعلى لسان والدتي.
الأرملة، لم يكن في وسعها رفض أحد أقاربها لما تقدم بعرض الزواج منها. ولكن صدمها شرطه الصارم، أن تتخلى عن الولد. لم يطل أمرُ ترددها، على أيّ حال. وفيما كانت " ماما فاطمة " تزف لرجلها الجديد، سيقَ الصبيّ المسكين إلى مأوى الأيتام. من ذلك المكان، الموحش الكئيب، حضرت يوماً إحدى السيدات إلى الزقاق. قالت لشقيقة زوج الأرملة: " طارق، في حالة صحية سيئة. لقد قضى أياماً دونَ أن يضع شيئاً تقريباً في فمه، قضاها في نحيب متواصل وعلى لسانه اسم ماما فاطمة ". لوحت المضيفة يدها في حركة يائسة، وقد بان التأثر الشديد على وجهها: " زوج المرأة، التي ربت الصبيّ، حظّر عليها بتاتاً زيارته ".
" طارق "، كان وقتئذٍ في الثامنة من عُمره. كانت له أم رائعة، ولم يكن يتصور كم سيغدو العالمُ بدونها غريباً، ظالماً، مدمِّراً.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا


.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه




.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة