الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العميل السري /جوزيف كونراد : الفوضى و بروباغاندا الفعل

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2018 / 12 / 4
الادب والفن


يفصل بين أحداث أيلول/سبتمبر 2001 و ظهور رواية "العميل السري" لجوزيف كونراد نحو قرن من الزمن , ومع ذلك كانت هذه الرواية من بين أكثر الأعمال الأدبية ذكرا في وسائل الإعلام الأمريكية بعد حادثة تفجير برجي التجارة في نيويورك.
تقول الرواية أن ثمة رجل بدين يدعى "أدولف فيرلوك" , يقال أنه فوضوي ثوري إنجليزي من جهة الأب و فرنسي من جهة الأم , يعمل جاسوسا لصالح إحدى السفارات و متزوج من سيدة أصغر منه سنا على قدر عال من الجمال و الأناقة تدعى "ويني" , ذات صدر رحب شهي و وركين فسيحين يبرزهما ملابسها الضيقة .يعيش مع "فيرلوك" وزوجته كلن من والدتها البدينة التي تعاني من ضيق في التنفس و انتفاخ في ساقيها يجبرها على البقاء جالسة طوال الوقت و أخيها "ستيفي" الشاب الرقيق و الوسيم والمصاب بالتوحد و يمكنك أن تعرفه من بعد بسبب تدلي شفته السفلى , وعلى الرغم من أنه يعمل مراسلا , إلا أنه لا شيء آخر لديه سوى مطاردة الكلاب المتشردة و القطط في الشوارع و الأزقة.
يطلب من فيرلوك القدوم إلى لندن ليتنصت على مرؤوسيه في العمل ,وعلى رأسهم القنصل "وورمت" , عضو المجلس و الذي يعاني من مشاكل في النظر , ( وورمت هذا كان قد وجه توبيخا شديد اللهجة لفيرلوك بسبب تقاريره الأخيرة عديمة الجدوى , وأكثر ما أزعج فيرلوك هو قول وورمت " نحن غير راضين عن موقف الشرطة هنا ... نريد إثارة يقظتهم ...نريد صرامة القضاة و جديتهم , فالإجراءات القانونية هنا ضعيفة و ناعمة وعدم اتخاذ ما يكفي من إجراءات رادعة يشكل عارا على أوروبا , وكل ما نرغب فيه هو توضيح و إظهار ما هو موجود من اضطراب و قلق بسبب هذا".
بعد فيرلوك بقليل , يسمح له بمقابلة السكرتير الأول في السفارة وهو شخص معروف لدى الجميع يدعى "فلاديمير" ,غالبا ما يصف نفسه باعتباره خبيرا في شؤون الثوار ,و يشتهر بطرافته و ظرفه و يكن له الجميع مودة .ولكن هذا لا يعني أنه من النوع الغبي , إذ يمتاز -فضلا عن قدرته على التسلية -بحنكته في إيجاد ترابط قد يبدو مضحكا للبعض بين الأفكار المتناقضة حيث "تداخلت لديه المسببات بالتداعيات، واختلطت في ذهنه الشخصيات الدعائية الأبرز والأكثر تقديراً بأولئك المقززين الذين يرمون الناس بالقنابل، وافترض وجود التنظيم حيث لا يمكن بطبيعة الأشياء أن يكون له وجود".ومثال على ذلك تقويم أداء فيرلوك و اعتباره بليد و فوضوي و بائس بسبب من خيبة الأمل التي بت عليهم حين اعتقدوا -مخطئين- بأنه يمكن أن يصبح مارشالا في فرنسا و عضو برلمان في إنكلترة ليكون مفيدا للسفارة , وهو يخاطب فيرلوك باستهزاء و يقول له " لتبدو لي أنك من النوع الذكي يا "فيرلوك" " و لا ينسى أن يعيد على مسامعه كيف ابتدأت علاقة "فيرلوك" بهم إثر سرقته لتصاميم المدفع الفرنسي , وهي ذات الملاحظات التي طاما سمعها من وورمت, الأمر الذي افقده توازنه الداخلي وجعله يتحول بدرجة ما إلى شخص مصاب بالذعر و الإحساس العميق بالذب و المهانة, وقال لنفسه أن تلك الأيام الخوالي الجيدة التي أمضاها برفقة السفير السابق البارون "ستون وورتنهايم" لن تعود , تلك الأيام التي كان يرمز فيها إليه بالرمز " P" في المراسلات و الأحاديث الخاصة نظرا للشهرة التي كان يتمتع بها ولت من غير رجعة , حيث كانت إشارة واحدة منه كفيلة بتغيير مخططات و مواعيد الرحلات الملكية .
يحث فلاديمير فيرلوك على القيام بعمل إرهابي لا يكون مخيفا فحسب بل عبثيا أيضا ’ وأن يتجاوز نية الانتقام و الإرهاب, ولابد أن يكون عملا تدميريا و استعراضيا وغير قابل لشرح و لتفسير , بل يجب عليه أن يكون فعلا رمزيا يعبر عن نفسه بنفسه ,و لذلك يكون اقتراحه هذه المرة ليس تفجير مطعم أو ملهى , بل مرصد غرينويتش في لندن , ( كتبت الرواية بوحي من المحاولة الفاشلة لتفجير المرصد سنة 1894 ) فمثل هذا العمل سيؤكد على رمزية الإرهاب و قدراته التعبيرية, فضلا عن احتقار المرصد كونه يمثل رمزا للبرجوازية ( ولن ما الفرق بين تفجير مرصد أو محاض عمومي إن كان المقصود بالتفجير هو تلك الشحنة الرمزية و التعبيرية ؟ يرى البعض أن تفجير المرصد أسهل من الناحية الروائية و أقل جرأة كما يرى تيري إيغلتون في كتابه "الإرهاب المقدس"), فسخرية كونراد من أبطاله يعكس سخريته من نشاط "الثوريين" الذين من وجهة نظره ليسوا سوى مجموعة من "الحمقى جرت التضحية بهم عبر أفكار ربما لا يؤمنون أو لا يستطيعون الإيمان بها" كما يرى فريدريك كارل في مقدمة طبعة الرواية لسنة 1983 , فهؤلاء الذين يحلو لهم أن يلعبوا دور "الثوار" أصحاب الشعارات و المبادئ الفوضوية لا يقومون بذلك بسبب إيمان حقيقي نابع من مشاعر صادقة ,بل أن دوافعهم سببها " التباهي الذاتي و ألاعيب السلطة و التشويش الطبقي "
هل يعقل هذا؟ هل سينتهي كأن لم يكن؟ لقد قالوا له أن عليه من الآن فصاعدا "أن يكسب قوت يومه بعرق جبينه" , يا لهول هذه العبارة , كم مرة رددها و فكر فيها . يلتقي "فيرلوك" برفاق له مثله فوضويين لا عمل لهم سوى التسكع و الصعلكة , يلتقيهم في الدكان الصغير الذي اقتطعه من مسكنه ليكون غطاء لنشاطهم , و لزيادة التمويه يعرض العديد من الصور الفاضحة لفتيات عاريات في واجهة الدكان إلى جانب المنشورات الهزلية (فرنسية في معظمها) و صفحات من بعض الصحف غير المعروفة ذات الطباعة الرديئة .و كان من بين من يتردد على "فيرلوك" رجل يدعى "ميخائيليس" الذي أمضى خمسة عسر عاما في السجين و الذي يصف نفسه عادة بأنه إصلاحي و متفائل و لولا تفاؤله لما استطاع أن يمضي تلك السنوات في السجن ,حيث ألقي القبض عليه لكوك كثيرة حامت حوله على أنه ثوري خطير , ورغم أنه اشتبك مع الشرطة و جرح أحدهم أثناء محاولته الهرب مع آخرين وهو في طريقه للسجن إلا أنه فشل في الهرب بطبيعة الحال ,وهناك أيضا "كارل" الحاقد على النظام الرأسمالي , ذي اللحية البيضاء كالثلج و "الأدرد" إذ سقطت جميع أسنانه و يحلو له أن يدعو نفسه الإرهابي العجوز الأصلع , وهناك "أو سيبيون" الثوري الحانق على الرأسمالية و الذي "يعمل" كاتبا و مؤلفا لكراسات جميعة مستقبل الطبقة العاملة و التي يرمزون لها بالحروف «F.B» .
و صباح ذات يوم يحدث انفجار في غرينويتش بارك مما يؤدي إلى مقتل رجل الذي تمزق جسده إلى أشلاء متناثرة و امتزجت قطع لحمه و عظامه بثيابه الممزقة و بالحصى و بالشظايا .وبطبيعة الحال , حامت الشكوك حول "فيرلوك" ورفاقه ,على الرغم من أن الشرطة تراقبهم و تعرف تقريبا أين أمضى كل واحد فيهم ليلته تلك .و لكن الناس لا تفهم ذلك , فالشعب يري معرفة المجرم و يريد معاقبته, وهنا يأتي دور المفتش "هيت" الذي يهيىء الناس لقبول القضاء على فيرلوك و رفاقه السيئيين الذين هم أشبه بكلاب مسعورة باتوا يشكلون خطرا على الجميع و لذلك ينبغي القضاء عليهم و التخلص منهم , وفي تلك الاثناء يسافر "فيرلوك" في جولة إلى أوروبا تدوم عشرة أيام , وعند عودته يزوره المفت "هيت" في دكانه الصغير و يتجابان الحديث بنما زوجة "فيرلوك" تسترق السمع , فتشعر بقلق شديد على زوجها و تبدأ في التفكير بالايام المقبلة التي ستكون بلا شك مشؤومة, لاسيما أنه لم يتم التوصل بعد لمعرفة من قام بانفجار غرينيتش بارك بعد, وقد أن يهم المفتش "هيت" بالذهاب و ينصح "فيرلوك" بمغادرة المدينة وهو يقول " لا تظن أنه سوف يصدقون روايتك, لا تكن على تلك الدرجة العالية من الثقة , لكن "فيرلوك" هدد المفتش بكشف الحقيقة , وهنا اكتشفت "ويني" من الحوار بين زوجها و المفتش و الاعترافات و التهديدات المتبادلة بينهما أن ضحية الانفجار لم يكن سوى شقيقها "ستيفي" الذي تحول إلى أشلاء , فشعرت حينها كم هي غبية و مخدوعة , عاشت حياتها في كذبة كبيرة وخيبة أمل من أوهام نسجها خيالها تتعلق بالدرجة الأولى بستيفي و "حياته" القاسية التي عاشها .حاول "فيرلوك" أن يخفف عنها و يبرر ما قام به و يعترف لها قائلا" لم تمر أي محاولة قتل خلال السنوات الإحدى عشر الأخيرة , إلا وكان لي سهم فيها , كنت أخاطر بحياتي , هل تعلمين إني كنت أرسل الكثير من أولئك "الثوار" محملين بالقنابل في جيوبهم ,ليتم إلقاء القبض عليهم على الحدود ؟ لقد كان البارون ووتنهايم على علم بكل أنشطتي و تحركاتي و بمدى أهميتي للبلد..... و لكن الآن اختلف الأمر يا عزيزتي , سوف أجعلهم يدركون ما معنى أن يطرد رجل مثلي ليتعفن في الأزقة , لا.. لا أحد , و لا شيء يمكنه إيقافي الآن " , أضاف هذه الكلمات بغضب شديد فانفجر غضب "ويتني" مرة واحدة على هيئة طعنة قاتلة نحو صدر "فيرلوك" فارتمى على السرير يتخبط بدمه , وعندها قامت "ويتني" بجمع ما أمكنها من المال لتهرب مع "أوسيبون" , الذي قام بدوره بخداعها حين قالت له الحقيقة فأخذ منها المال و هرب فما كان من خيارات أمام "ويني" سوى الانتحار .
يقول كونراد روايته* [جاءني موضوع “العميل السري” ــ أعني القصة ــ على شكل بضع كلمات قالها صديق في حديث عفوي عن الفوضويين أو بالأحرى النشاطات الفوضوية، كيف تحدّث عنها لا أذكر الآن.أتذكر، مع ذلك، ملاحظة عن العبث الإجرامي للقصة بأكملها، العقيدة، الأحداث، العقلية، وعن الجانب التافه للتصنع شبه المجنون باعتباره خداع وقح يستغل مآسي مؤثرة وسذاجة عاطفية لجنس بشري حريص دائماً وبشكل مأساوي على تدمير ذاته. هذا ما جعل ذرائعها الفلسفية لا تُغتفر بالنسبة لي. في الوقت الحاضر، مروراً بحالات معينة، نتذكر القصة القديمة لمحاولة نسف "المرصد الملكي"، تفاهة ملطخة بالدماء لأبله، نوع كان من المستحيل فهم منشئه بأي طريقة معقولة أو حتى غير معقولة من التفكير. لكن هذا الغضب لا يمكن أن تسيطر عليه ذهنياً بأي طريقة كانت، لذا ظل المرء يواجه حقيقة تفجُر رجل الى أشلاء من أجل لا شيء أبعد ما تكون عن فكرة الفوضوية أو غيرها. كما أن الجدار الخارجي للمرصد لا يظهر أكثر من الضرر الأضعف للحادث......وضحت كل هذا لصديقي الذي ظل صامتاً لبعض الوقت وبعد ذلك أبدى رأيه بعفويته المميزة وأسلوب العالِم بكل شيء: “أوه، هذا الرجل كان شبه أحمق. أخته انتحرت بعد ذلك” كانت هذه بالطبع الكلمات الوحيدة التي تبادلناها معاً، مفاجأة عظيمة في هذا النموذج غير المتوقع من المعلومات أبقتني محبطاً للحظة وبدأ صديقي فجأة الحديث عن شيء آخر. لم يخطر لي فيما بعد سؤاله عن كيفية توصله الى هذه المعرفة. أنا متأكد من أنه لو رأى مرة واحدة في حياته خلفية رجل فوضوي لأصبح ذلك كل مجال علاقته مع عالم الجريمة. كان، على أي حال، رجل يحب الحديث عن كل أصناف البشر، وربما جمع تلك الحقائق الإعلامية من مصادر غير مباشرة، من الكنّاس، من ضابط شرطة متقاعد، من رجل غامض بعض الشيء في النادي الذي يرتاده، أو حتى من رئيس الوزراء في حفلة استقبال عامة أو خاصة.]
لن يتوقف الإرهاب بموت فيرلوك أو بفشل تفجير المرصد , فذلك "الإرهابي النموذجي" على حد وصف إدوارد سعيد له سوف يتوارى في أحد شوارع لندن , يبدو من بعيد رث الملابس , مشيته بطيئة , بائسا و هشا , ساذجا بصورة لاتوثف حين اعتقد أن أفكاره الجنونية تلك قادرة على تجديد العالم و بث الروح فيها ..." لم يكن ينظر أليه أحد . وقد مر دون أن يلفت أنظار أحد، وعلى نحو يذكر المرء بالموت، شبيها بشخص بغيض في شارع مليء بالرجال".
......................
*من المقدمة التي كتبها جوزيف كونراد سنة 1920 عندما صدرت "العميل السري" كجزء من طبعة أعماله , علما أن الرواية نشرت لأول مرة في العام 1907








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا