الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دعوة للنقاش: السيادة أولاَ أو الإصلاح؟

فؤاد سلامة

2018 / 12 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


يحتدم جدل يبدو أن لا نهاية له بين "المعارضين" في لبنان حول الإجابة عن السؤال التقليدي لكل معارضة إصلاحية أو تغييرية، ما العمل ومن أين نبدأ؟ يعتقد البعض ومنهم الصديق اليساري المخضرم أ. ج. الذين ينتمون إلى الجو اليساري العام غير المُنظَّم أنه ينبغي أخذ المبادرة من قبل اليساريين بإعادة تنظيم صفوفهم بدءا من اتخاذ موقف سياسي واضح ضد الرجعيتين الإيرانية والسعودية والانتفاض ضد ما تصدرانه إلى لبنان من "كهوف الماضي"! السؤال للصديق اليساري هو، هل أنه متأكد من أن العمل المعارض الجدي في لبنان يبدأ من إعلان موقف ضد الرجعيات ودعوتها لعدم تصدير أفكارها الظلامية إلينا؟
ما أستنتجه من دعوة الصديق اليساري للانتفاض ضد الرجعيتين وجملة الأفكار الظلامية الماضوية التي يصدرانها لكل دول وشعوب المنطقة، هو، من بين أشياء أخرى، تحميل الجزء الأكبر من مسؤولية التأزم اللبناني للخارج، والإيحاء بأن نهوض اليسار والمعارضة يبدأ من نقطة إعلان الموقف ضد الرجعيتين الإيرانية والسعودية.

هل صحيح أن العطب الرئيسي للنظام في لبنان مرتبط بشكل أساسي بالتدخلات الخارجية وناتج بشكل فقط عن ارتهان الزعامات الطائفية في لبنان للقوى الخارجية، إيران والسعودية بشكل رئيسي؟
هذا الرأي تتبناه معظم قوى المعارضة والسلطة بشكل عام ومشترك. حيث تُحمِّل جماعات ١٤ آذار ويسارها بالأخص، مسؤولية التأزم في لبنان للهيمنة الإيرانية على البلد، دولة وأحزابا ومؤسسات، بينما تُحمِّل جماعات ٨ آذار وبالأخص حزب الله والتابعون له، المسؤولية للنظام السعودي.

المؤسف أن العديد من المعارضين يقعون في هذا الفخ السلطوي الذي يجعلهم يتوهمون بأن جذور الأزمة في لبنان موجودة في الخارج، وأن بداية الانفراج تأتي من استرجاع السيادة أولاً والبدء بالإصلاح لاحقاً. وهم بذلك يتحدثون بمنطق القوى اليمينية القديمة التي كانت تعتبر أن كل حروب لبنان وأزماته هي حروب الخارج وأزمات مصدرة منه.
لقد انقلبت الآية اليوم وأصبح الكثير من المعارضين واقعين تحت إغراء الاستسهال، ويذهبون إلى استنتاجات سريعة تخفف من مسؤولية اللبنانيين، حكاماً وشعباً وأحزاباً ونخباً، عن تدهور أوضاع بلدهم. وبالتالي فإنهم يغمضون العين عن طبيعة النظام المغلقة على تركيبة طائفية مستعصية على التطور، يستحيل الخروج منها من دون إحداث تغييرات مهمة في النظام اللبناني.

ما يجدر الإشارة إليه هو أن من أهم البنود الإصلاحية في اتفاق الطائف تشكيل برلمان لا يخضع للتوزيع الطائفي، وهو ما اجتمع أمراء الحرب على عدم تنفيذه حتى الآن، بل وعملوا على تنفيذ مشوه لبعض ما اتفق على تنفيذه. وها نحن نشهد مع الرئيس عون عودة لغة حقوق الطوائف، ما يشكل انتصارا للاتجاه الذي يرفض إلغاء التوزيع الطائفي داخل الدولة اللبنانية ومؤسساتها والعودة إلى هذا التوزيع بأسوأ ما فيه، تكريساً لمبدأ المحاصصة الطائفية في كل شيء. ذاك أن التحاصص الطائفي يخدم بشكل مطلق الطبقة السياسية الفاسدة والمرتهنة للخارج، ويزيد من إمساك المنظومة المافيوية بخناق المواطنين وإحكام تبعيتهم للزعماء الذين يشكلون تلك المنظومة بالتكافل والتضامن.

يتسلى الساسة اللبنانيون وأصحاب الرأي بالنقاش حول أيهما السبب الأول لتدهور أوضاع البلد: الخارج بدوله وقادته، أو النظام الطائفي بكليته. كما يتساءلون بنفس الذهنية المانوية عن طريقة التغيير في لبنان، تغيير النصوص أم تغيير النفوس، السيادة أم إصلاح النظام؟ هذا النهج في التحليل والرؤية ناتج عن الوقوع في وهم الثنائيات غير القابلة للحل. علما أنه في السياسة كما في الفيزياء هناك دائما تداخل بين القوى والأسباب، ولكن هناك أسباب أولى تُولِّد نتائج تتحول بدورها لأسبابٍ تتفاعل مع الأسباب الأولى وأسبابٍ أخرى وتُولِّد نتائج متتابعة.

لا يخفى عن الباحث بالتاريخ اللبناني أن كل حروب لبنان كانت تأخذ منحىً طائفياً، بسبب الموزاييك الطائفي اللبناني وتدخلات القوى الخارجية عبر قِطَع هذا الموزاييك. يعرف القاصي والداني أن تلك التدخلات الخارجية ما كانت لتتم بهذا الشكل، أو لتأخذ دورا هاما لولا وجود مجموعات دينية متوجسة من بعضها، ومتداخلة في وجودها وعيشها على نفس المرعى أي الأرض.
طبعا لا يمكن افتراض أن هناك حلاً سحرياً أو قسرياً، من نوع علمنة الطوائف أو إعادة تنظيم الأرض بحيث يحصل تبادل سكان للوصول لنوع من الصفاء الطائفي في المناطق يحول دون الاحتكاك واندلاع النزاعات. معظم القيادات السياسية الطائفية لم تعد مقتنعة بالحلول الجذرية ولا بالحلول الفدرالية، وإن بقي ذلك نوعا من التهويل لدى البعض. ربما يُفسَّر هذا التراجع عن الحلول الفدرالية بواقع أن الحكام أصبحوا يُفضِّلون الاستمرار في وضع عدم الاستقرار الدائم، بهدف الحصول على أكبر قدر من الامتيازات والمغانم الناتجة عن توزيع السلطة الطائفي، متيقنين أن شعبهم لن يثور عليهم وسيستمر في تبعيته لسلطتهم وخضوعه لإرادتهم، وسيستمرون هم في جني العوائد ومراكمة الثروات، من دون حسيب أو رقيب.

لقد غدت الطائفية في لبنان سلاحا فتاكاً يستعمله قادة الطوائف ورجال الدين الملحقون بهم لإبقاء التوترات قائمة في المجتمع اللبناني، من جهة من أجل استدرار العون الخارجي وما يرافقه من قنوات مالية، ومن جهة أخرى من أجل ترسيخ زعاماتهم وتوطيد سلالاتهم العائلية.
الخارج يمارس نفوذه عبر الداخل، والداخل يستدر دعم الخارج، والحلقة الوسطى أو حلقة الوصل بين الداخل والخارج هي تلك الزعامات السلالية القديمة والجديدة التي تقبل بإعارة نفسها للخارج مقابل عوائد اقتصادية وسياسية لها ولذاك الخارج تتمثل بإقطاعات ومناطق نفوذ. النظام اللبناني يتيح ويُكافئ هذا الدور المزدوج للمسؤولين اللبنانيين زعماء وقادة والملحقين بهم. هم يستفيدون من الخارج ببناء زعامات تتيح لهم تشييد إمبراطوريات مالية، والخارج يستفيد منهم باقتطاع مناطق وأدوات نفوذ يستثمر فيها كما يشاء.

يعتقد الكثير من المعارضين أن الحكام اللبنانيين هم مجرد دمى بيد الدول الخارجية، وأن ما يحصل من تفاقم للأزمات والفساد في لبنان هو فقط بسبب نقص السيادة وهيمنة إيران على لبنان من خلال ذراعها العسكرية. وهذا صحيح لدرجة معينة، اليوم فقط، ولكن بالنسبة لنا كلبنانيين فإن انكشاف وطننا على الخارج وتحوله ساحة لصراع المحاور هو قصة قديمة جدا، وغالبا ما كان حكامنا مرتبطين بالخارج بدرجة أو بأخرى. المسؤولية عن هذه القصة القديمة هي مسؤولية نظام سياسي مِلَلي كان يسمح لأوليغارشيات عائلية بالإمساك بالسلطة وباحتكارها لأمد طويل. ليس بإمكان حكامنا وكبار فاسدينا أن يستمروا في لعبتهم الجهنمية لولا نظام خاضع للتوزيع الطائفي يعيدهم كل أربع أو ثماني سنوات إلى السلطة عبر قوانين ووسائل محددة يفصلونها على قياسهم. وأما مسؤولية الشعب الذي يعيد انتخابهم فهي بحجم ما يتركه النظام الطائفي المغلق للشعب ونخبه المعارضة من هوامش ضيقة جدا للتغيير، أي ما يقارب الصفر تقريبا.

هل مطلوب من شعبنا والمعارضة الرصينة رفع مطلب استرجاع السيادة من منتهكيها الخارجيين قبل إصلاح النظام وزج كبار الفاسدين في السجون، أم المطلوب إصلاح النظام الطائفي لمنع وصول هؤلاء الفاسدين إلى السلطة كشرط أول لاستعادة السيادة؟ من أين نبدأ؟ من الداخل أم من الخارج؟ ليس بإمكان أية معارضة لا تمسك بمقاليد السلطة أن تستفيد من موازين القوى الدولية والإقليمية. جل ما يمكنها أن تفعله هو العمل على تغيير موازين القوى الداخلية من أجل إصلاح النظام من الداخل بهدف وضع تشريعات تحصن المؤسسات وتمنع التمويل الخارجي للأحزاب والأشخاص، وتعاقب التعامل المباشر مع الخارج، وتُخَفِّف انكشاف الداخل على الخارج عبر قنوات التمويل والتسليح العلنية والسرية.

من الداخل اللبناني يبدأ العمل وليس من المدخل الإيراني أو السعودي أو الأوروبي، أو الأمريكي. رهان بعض المعارضة على استرجاع السيادة بمساعدة خارجية من أجل إنقاذ الوطن، هو نوع من التمني بل غرق في الأوهام. الإصلاح لا يمكن أن ينتظر استرجاع السيادة لأن السيادة لن تُسترجع بوجود نظام طائفي مغلق، بسببه يتم التخلي عن السيادة. طريق الإصلاح طويل وهو يبدأ بالتعامل مع الواقع الطائفي والعمل على تعميم الوعي النخبوي ثم الشعبي بضرورة التخلي عن التوزيع الطائفي للسلطة من أجل قيام دولة قوية قادرة وعادلة.

إنها ضريبة الجغرافيا تدفعها الدول الصغيرة الواقعة بين دول ذات أنظمة عدوانية أو دكتاتورية، وتكبر هذه الضريبة عندما تكون تلك الدول الصغيرة موزاييكا إتنيا - دينيا أو لغويا، لأن ذلك يُسهِّل استتباع الجماعات الأهلية عبر استتباع زعمائها، يساعد في ذلك وجود اختلافات ثقافية وفروق اقتصادية بين الجماعات، ما يخلق حالات من العداوة والتنافس والصراع تلعب عليها دول الجوار وحتى دول بعيدة تدّعي تقديم الحماية. وجدت سويسرا حلاً لهذه المعضلة بعد صراعات طويلة انتهت بنظام يقدم ضمانات للجميع وكان الحياد إحدى أهم تلك الضمانات وليس الضمانة الوحيدة حيث أن توزيع السلطة يخضع لنوع من الديمقراطية اللامركزية / الفدرالية يحميها دستور يتضمن مواد فوق دستورية غير خاضعة للتعديل بتغير الأكثريات العددية.

في لبنان يمارس الحكام أمراء الحرب أسوأ أنواع الفدرالية التي تعطيهم أقصى المغانم ولا تلزمهم بأدنى الواجبات. وهم باستحواذهم على السلطة بكامل مفاصلها يُضيِّقون الخناق على المواطنين لدرجة حرمانهم من أدنى هامش من الاختيار الحر. هذا ما يجب أن يجعلنا نفكر ملياً قبل سَوْق اتهامات للجماعات الأهلية بالقطيعية والغنمية.
من المهم التخلص من الفوقية النخبوية التي تُحمِّل الشعب مسؤولية التغيير وتعفي الُنخب من مسؤوليتها وكأن العامة تملك ترف الاختيار. إذا لم تكن الفئات الجامعية قادرة على التحرر من ربقة الزعامة وأسر الزبائنية فكيف يمكن للمواطن العادي الذي لا يملك ثمن قوته أن يختار بحريةٍ من ينتخب؟ هذا ما يجب أخذه بالاعتبار عند البحث في وضع استراتيجيات الإصلاح في لبنان، من خلال وضع خارطة طريق تحدد الأهداف والوسائل والمراحل بشكل علمي ودقيق لا يقبل الغموض والالتباس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تقارير عن ضربة إسرائيلية ضد إيران وغموض حول التفاصيل | الأخب


.. إيران وإسرائيل .. توتر ثم تصعيد-محسوب- • فرانس 24 / FRANCE 2




.. بعد هجوم أصفهان: هل انتهت جولة -المواجهة المباشرة- الحالية ب


.. لحظة الهجوم الإسرائيلي داخل إيران.. فيديو يظهر ما حدث قرب قا




.. نار بين #إيران و #إسرائيل..فهل تزود #واشنطن إسرائيل بالقنبلة